عندما يتم وضع النقاطِ على الحروف

التسامح عند جون لوك

عبد البر العلمي

وُلد جون لوك في سمرست بإنجلترا عام 1632، ومات في إيسيكس عام 1704، التحق بمدرسة وستمنستر ومكث بها سنوات يتلقى اللغات القديمة، ولما بلغ العشرين دخل جامعة أكسفورد وقضى بها ست سنوات يُتابعُ الدراسات التي تفضي إلى الكهنوت، وفي العام 1666 اتصل باللورد شافتسبري الَّذي كان مهموماً بالشقاق الديني الذي كان سائداً في أوروبا على الإطلاق وفي إنجلترا بالخصوص، وكان مُؤثراً في بلاط تشارلس الثاني، وكانا معاً ملتزميْنِ بالتسامح مع تباين الغايةِ من هذا الالتزام، الأولُ: من أجل الكاثوليك، والثاني: من أجل البروتستانت. ومن هنا، نشأت العداوات بينهما إلى الحدِّ الَّذي حاولَ فيه شافتسبري منع الكاثوليكي جيمس الثَّاني من خلافة تشارلس الثَّاني، وبسبب هذه المحاولة توقع شافتسبري الاعتقال ففر إلى هولاندا عام 1682.

وحيثُ كان لوك ملازماً لشافتسبري فقد فرَّ معه إلى هولاندا لاتهامه في التورط في مؤامرة شافتسبري. وفي منفاه كتب لوك "رسالة في التسامح" بتحريض من صديقه شافتسبري، حررها باللاتينية ونشرها دون ذكر اسمه في عام 1679، وكان يقصدُ بالتَّسامح الديني: "أنَّهُ ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية"، وبسبب هذا الفكر هوجم لوك فألف رسالةً ثانيةً في التسامح في يونيو 1690، ورسالةً ثالثةً في يونيو 1692.

 

لوك والتَّسامُح

يبدأ لوك رسالته بالقول: سيدي الموقر إنك تشعر بالغبطة لأنك تتساءل عن أفكاري الخاصة بالتسامح المتبادل بين المسيحيين المختلفين في مللهم، فأنا من أجل ذلك أجيبك بلا تحفظ وهو أنني أنظُر إلى التسامح على أنه العلامة المميزة للكنيسة الحقة.

ففي نظر لوك البعض يتباهى بقدم الأماكن والألقاب، أو بعظمة الطقوس، والبعض يزهو بصلاح إيمانه، بينما يفاخر الجميع بما يعتقدون أنه الإيمان الحق الذي لا يشاركهم فيه أحد. هذه كلُّها، وغيرها مما هو على شاكلتها إنما هي علامات على شهوة البشر في تسلط كل منهم على الآخر أكثر مما هي علامات على حب كنيسة الله. يقول لوك: (فلنسلم بأنَّ لكل فرد الحق في التوجه نحو كل هذه الأمور، لكنه إذا تجرد من المحبة والتواضع وإرادة الخير للبشرية بمن فيها من غير المسيحيين فإنه، في هذه الحالة، لا يمكن أن يكون مسيحيّاً حقاً، قال المسيح لتلاميذه: "ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطون عليهم يُدعون محسنين وأما أنتم فلستم هكذا" (لوقا25/26). أما وظيفة الدين الحق فهي مختلفة تماماً، فالدين الحق لم يتأسس من أجل ممارسة الطقوس ولا من أجل الحصول على سلطة كنسية، ولا من أجل ممارسة القهر، ولكن من أجل تنظيم حياة البشر استناداً إلى قواعد الفضيلة والتقوى). فالدين جاء لخدمة البشرية جمعاء وليس ليفرقها ويشتت وحدتها الإنسانية، لذلك علينا اعتبار الدين أداة للتعايش وليس أداة للتفرقة بيننا؛ رغم اختلاف الأديان، فهذه الأخيرة وظيفتها تنظيم حياتنا.

مسألة الخلاص

للخلاص أهميةٌ محوريةٌ في تحقيق التَّسامح، يقول لوك: "فمن الصعب على إنسان لا يكترث بخلاصه الروحي أن يقنعني باهتمامه البالغ بخلاصي، فأمر محال على أولئك الذين تخلو قلوبهم من الديانة المسيحية أن يكرسوا أنفسهم بإخلاص وحمية لتحويل الآخرين إلى المسيحية. وإذا كانت البشارة والرسول موثوقاً فيهما، فإنه لا يمكن لإنسان أن يكون مسيحيّاً دون محبةٍ ودون الإيمان الذي لا يؤثر بالقوة بل بالمحبة"، الخلاص الحقيقي حسب لوك هو المحبة، والمحبة هي أن يطهر الإنسان نفسه من كل الرذائل.

لذلك يشدد لوك قائلاً: "وأنا أعتقد أن أي إنسان يتصور أنه مهيأ لإنزال العذاب بإنسان آخر بدعوى أنه ينشد خلاص نفسه، فإن مثل هذا الإنسان يبدو غريباً عني وعن أي شخص آخر، ومن المؤكد أنه لا يوجد إنسان يعتقد أن مثل هذا الفعل يصدر عن المحبة أو إرادة الخير، وإذا زعم أي إنسان أنه ينبغي استخدام السيف والنار لإجبار الناس على اعتناق عقائد معينة، والانتماء إلى عبادات وطقوس معينة بغض النظر عن "الجانب الأخلاقي"، وإذا حاول أي إنسان أن يُحوِّلَ الآخرين إلى عقيدته، وأن يجبرهم على الاعتراف بما لا يؤمنون به بدعوى أن عقيدتهم كاذبة، وأن طقوسهم لا يسمح بها العهد الجديد؛ وإذا حدث ذلك من المؤكد أنَّ مثل هذا الإنسان ينشد تجمعاً ضخماً يشاركه نفس العقيدة، ولكن أن يكون مقصده تأسيس كنيسة مسيحية حقيقة فهذا لا يصدقه عقل".

لوك هنا يرفض إرغام الناس بالقوة لاتباع العقيدة، ومن ثمة يعتبر لوك أن التسامح مع أولئك الذين يعتقدون عقائد مختلفة في أمور الدين يتسق تماماً مع العهد الجديد الذي أتى به السيد المسيح، كما يتماشى مع مقتضيات العقل الإنساني الحق.

ولمواجهة أي تجاوز، يرى أنَّ من واجب الحاكم المدني تطبيق القوانين، بلا استثناء، لتوفير الضمانات التي تسمح لكل الناس على وجه العموم، ولكل فرد على وجه الخصوص، بالامتلاك العادل للأشياء الدنيوية، يقول لوك: "أما إذا حاول أحدٌ أن يغامر وينتهك قوانين العدل والمساواة التي تأسست من أجل الحفاظ على هذه الأشياء، فإن مثل هذا المغامر يجب أن يمنعه الخوف من العقاب الذي هو عبارة عن الحرمان من الخيرات المدنية أو من الخيرات التي من حقه أن يتمتع بها، وحيث إنه لا يوجد إنسانٌ يقبل بإرادته أن يوقع على نفسه العقاب بالحرمان من أي من ممتلكاته أو من حريته أو من حياته، لذلك ينبغي أن يكون الحاكم مسلحاً بسلطة رعاياه وقوتهم من أجل معاقبة من ينتهكون حقوق الغير".

ويذكر لوك ثلاثة اعتبارات لعدم تدخل الحاكم المدني في الشؤون الروحية للأفراد:
الاعتبار الأول: أن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني أو أي إنسان آخر، ذلك أَّن الحاكم ليس مفوضاً من الله لخلاص نفوس البشر.
الاعتبار الثاني: إنَّ رعاية النفوس ليست من شؤون الحاكم المدني؛ لأنه يحكم بمقتضى سلطة خارجية، بينما الدين الحق الذي ينشد خلاص النفوس وينشد اقتناع العقل اقتناعاً جوانياً". أي أن الحاكم يحكم بما هو خارجي، بينما الدين يستند إلى ما هو داخلي.
الاعتبار الثالث: إنَّ العنايةَ بخلاص نفوس البشر ليست من مهام الحاكم بأيِّ حال من الأحوال؛ لأنه حتى إذا قرَّرنا أنَّه من الممكن إقناع البشر وتغيير آرائهم بسلطة القانون وقوة العقوبات، فإن كل ذلك لا يسهم في خلاص نفوسهم.

الكنيسة والتسامح

في تقدير لوك أنَّ الكنيسة عبارةٌ عن جماعة حرة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم، بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورون أنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم، يقول لوك شارحاً ذلك: "أنا أقول إنَّ الكنيسةَ مجتمع حر ذو إرادة، فلا أحد يولد عضواً في أية كنيسة، وإلا فإنَّ الدين في هذه الحالة، ينقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء تماماً مثل الأرض طبقاً لحق الإرث. وبناء على ذلك، فإنَّ كل فرد يحتفظ بإيمانه بنفس الطريقة التي يحتفظ فيها بأراضيه... ليس ثمة إنسان ملتزم بطبيعته بكنيسة معينة أو بطائفة معينة، ولكنه ينتظم طواعية إلى كنيسة ما يعتقد أنه يمارس فيها العقيدة الحقة والعبادة المقبولة من الله، وحيثُ إنَّ الدافع الوحيد وراء انضمامه إلى مثل هذه الكنيسة هو أمله في الخلاص، فإنَّ هذا الدافع أيضاً هو علة استمراره فيها". هنا الحرية واضحة تماماً لا قوة ولا عنف على الناس لاتباع كنيسة معينة، وهذا في حد ذاته يساهم في شيوع ثقافة التسامح.

وتأسيساً على ذلك يتساءل لوك إلى أي مدى يمتد واجب التسامح، وما الَّذي يتطلبه هذا الواجبُ من كل إنسان؟ جواباً على ذلك يقول لك:
أولاً: أعتقد أن أي كنيسة ليست مكلفة بحكم واجب التسامح، بالاحتفاظ بأي إنسان في حضنها، يصر –رغم التنبيهات- على الخروج على قوانين المجتمع؛ لأن هذه القوانين هي أساس الرباط الاجتماعي، فإذا سُمح بانتهاكها من غير عقاب فإن المجتمع سرعان ما يتفكك، ومع ذلك فإنه في مثل هذه الحالة يجب ألا يضاف إلى الحِرمان (أي الطرد من الكنيسة) أي خدش سواء بالكلمة أو بالفعل، مما يترتب عليه إحداث ضرر في بدنه أو ممتلكاته؛ لأن استخدام القوة من اختصاص الحاكم وحده.
ثانياً: ليس لِأيِّ شَخصٍ، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية، لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر. وتأسيساً على ذلك فلا الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة، لديها أي مبرر للاعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين، أما الذين لا يرون هذا الرأي فإنَّ عليهم أن يتأملوا أنفسهم وهي تزرع في البشرية، بذور النزاع والحرب، وتثير الكراهية والنهب والسلب بلا حدود، فلا السلام ولا الأمان ولا الصداقة بين الناس ممكنة ومصانة طالما ساد الرأي القائل: إن الهيمنة مؤسسة على اللطف الإلهي، وأن الدِّين لا ينتشر إلا بقوة السلاح. يقول لوك: "وما أقوله عن التسامح المتبادل بين الأفراد المتباينين دينياً، أقوله أيضاً عن الكنائس التي تكون علاقتها فيما بينها مثل العلاقة القائمة بين الأشخاص".
ثالثاً: دَعْنا نفحصُ ما يتطلب الالتزام بالتسامح من أولئك الذين يتميزون عن سائر البشر بخصائص كنسية ودينية، سواء كانوا أساقفةً أو شيوخاً للكنيسة أو كهنةً أو أيّاً كان اللَّقبُ، وليس هدفي هنا أن أتساءل عن أصل سلطة الكهنوت أو كرامته، فكل ما أريد قوله -أيا كان مصدر السلطة- أنَّ السلطة ما دامت ذات طابعٍ كنسيٍّ فيجبُ أن تكون مقيدة بحدود الكنيسة؛ إذ ليس في إمكانها، بأي حال من الأحوال، أن تمتد إلى الشؤون الدنيوية؛ لأن الكنيسة ذاتها منفصلة عن الدولة ومتميزة عنها تماماً. فالحدود بينهما ثابتة مستقرة، ومن يخلط بين هذين المجتمعين كمن يخلط بين السماء والأرض.

علاقته بالوثنية

يذهب جون لوك إلى أن من يُعلن أن الوثنية ينبغي أن تجتث من أي مكان بالقوانين والعقاب والنار والسيف، عليه أن يطبق هذه القصة على نفسه؛ لأن الحالة واحدة سواء في أمريكا أو في أوروبا، ومن ثم فلا يمكن حرمان الوثنيين هناك أو المسيحيين المنشقين هنا من متع الحياة الدنيا، استناداً إلى محكمة كنسية، كما لا يمكن تغيير الحقوق المدنية أو انتهاكها اعتماداً على أسباب دينية في مكان دون آخر. لوك هنا يريد أن يقول: إنَّ التَّسامُحَ يجبُ أن يكونَ شاملاً عاماً، لا يستثني أيَّ أحدٍ سواء أتباع الأديان أو غير المتدينين.

بهذا، يكون جون لوك، قد وضعَ الاصبع على الجرح، وهو ما يستشف منه، أن التسامح كان وسيبقى السَّلاح الأنسبَ والفعال، لتحقيق التعايش بين الحضارات رغم كُلِّ صوَّرِ الاختلاف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها