القلعة

بيانكا ماضيّة

 

وتتركّز المعاني مثل نبيذ معتّق، مثل جزيئات عطرٍ استخلصت حديثاً من زهرة ما، مرةً في ذاك المكان، ومرةً في هذا المكان.. الآن أنا في قلعة المرقب، هذه القلعة التي قرأت عنها كثيراً لكني لم أزرها قط. كنت أفكّر في زيارة قلاع بلادي كلها قبل أن تطأها أيّ قدم تشوّه حجارتها، ولكنّ الحرب شاءت أن تحول بيني وبين زيارتها جميعها.

لم أدخل القلعة بعد، لكني أصعد الآن الدرج المؤدّي إلى مدخلها، وبين فينة وأخرى أعود لألتفت إلى هذا المشهد البانورامي الذي يمتدّ ويمتدّ، وأتنشّق عبق جمال لا ينتهي. تتمازج الألوان وتتماوج أمامي، الأزرق والأخضر والترابي وأسطح البيوت، ورمانة حمراء تطلّ من بين الأغصان، فألتقط لها صورة في مخيلتي، وأقول في نفسي: ما أجمل بلادنا؟! أعود فأصعد الدرج وأتطلع إلى آثار خطواتي.. لا توجد آثار تراها عيني، لكن عقلي يراها ويرى آثار خطوات كثيرة. لا يمكنني التفكير بأعداد الأقدام التي وطئت هذا الدرج، ولا بتعدّد الغزاة الذين احتلّوا هذه القلعة، وأقاموا فيها إلى أن جاء من يطردهم منها.. تاريخ طويل من الغزوات، وقد استمرّ قروناً ودهوراً. قطعان تتلوها قطعان، وأغلبهم جاؤوا إلى أرضنا عبر هذا البحر الذي أراه واسعاً ممتدّاً حتى خط الأفق. لكن أولئك الغزاة خرجوا من أرضنا عبر الطريق ذاته الذي أتوا منه. وهكذا إلى أن بقيت القلاع على صورتها اليوم، صورة تعيدنا إلى جيوش وحروب ونهايات.. حتى فقدت القلاع قيمتها العسكرية وأصبحت أثراً للسيّاح، وبعضها أصبح أثراً بعد عين.

أسمع الآن صوتاً، أصيخ السمع جيداً، الصوت يحدثني عن أزمان مضت، أسمعه يقول لي: آه لو تعلمين يا أختاه كم تحمّلت، وكم تدحرجت، وكم صبرت! وفي النهاية بقيت صامدة كما ترينني الآن وسأبقى.. فلتباركيني بلمسة قدميك ولمسة يديك.. يا لقدميك الغضّتين، ويا لرقتك أيتها الجميلة. كم أشعر بالسعادة للمستك هذه! فأنت شقيقتي، حبيبة قلبي، وسرّ هذه الأرض النبيلة. آه.. إنه صوت حجارة القلعة، فاجأني صوتها النابع من الأعماق، أصغي إلى حديثها، وأرنو من شرفة القلعة إلى البحر المنبسط تحتها، لعل ضغط المشاعر التي تتزاحم في نفسي الآن يخفّ قليلاً. أرى البحر والسماء متلاصقين عند خطّ الأفق. أقارن بين درجتي لونهما، ما أروع هذا المشهد؟! أعود إلى الحجارة التي بنيت منها هذه القلعة، الحجارة التي حدثتني، فلونها مختلف جداً.. إنه أسود بازلتي صنعه بركان ملتهب، ويشكّل مع لون الإسمنت الأبيض المتداخل بين هذه الأحجار مربعاتٍ كأنّها مربعات شطرنج.. أنظر إلى هذه الحجارة وأقول بألم: يا لتلك الأزمنة كم كانت قاسية!

أستدير قليلاً وأمعن النظر في الممر الذي يمتد بين القلعة وبين سورها الغربي. ولحظة بعد أخرى تصيبني الدهشة من عظمة هذا المشهد. سورٌ بعرض أربعة أمتار، وجدار القلعة المرتفع شامخ محكم البناء. والحجارة السوداء البازلتية حجارة عاندت الدهر والغزاة، أما واجهة القلعة فتبدو وكأنها بنيت منذ أعوام فقط. لا شيء ينقصها.. لا حجرة تدحرجت، ولا سقف تداعى.

أقرر المشي في هذا الممر لتنسّم رائحة التاريخ. أنزل درجاته العريضة، كم تذكّرني هذه الدرجات بدرجات قلعة حلب التي لطالما صعدتها، ولطالما ألقيت بناظري على المدينة كلها، لم أعد أعرف اليوم كيف أصبح مشهد المدينة من أعلى القلعة.

أعود فأستدير؛ لأصعد الدرجات التي مررت بها.. وفي أثناء صعودي أسترق النظر إلى الواجهة، إلى السقّاطات في ثناياها، أقف تحتها وأتساءل: تُرى من كان خلف هذه السقاطات ذات تاريخ؟! ويمتد نظري إلى برج من أبراج القلعة، فأجد زرقة السماء تتخلل نافذة من إحدى نوافذه..

يا إلهي كم أنا محظوظة بالوقوف أمام سحر تاريخ سورية المجيد، وخاصة سحر بانياس الساحل، بانياس البحر الأبيض المتوسط، بانياس الشاعر الذي أذهل معاصريه بشعره الحزين على أدونيس الذي مزّقه الخنزير البري.

أجلس على إحدى الدرجات، أدير ظهري للقلعة، وأتطلّع باتجاه البحر. أسحب لفافة تبغ من علبة سجائري وأشعلها، ثم أبدأ بالنظر إلى السحب الدخانية التي تتلاشى في فضاء القلعة.. وما هي إلا لحظات حتى أدرك أنّ المكان الذي أجلس فيه لا يبدو مرتفعاً كما ظهر لي من الأسفل عندما كنت على الشاطئ.. فعندما كنت هناك في الأسفل بدت لي القلعة بعيدة جداً وصغيرة جداً. أما هنا في الأعلى فهي عملاقة، والبحر أيضاً أكثر اتساعاً وروعة، فأقول وأنا أبتسم ساخرة: كم الفرق كبير بين الأعلى والأسفل، وكم تتغيّر الرؤية من مكان إلى آخر؟!

أعود لأقف بعد أن أنتهي من شرودي وتفكيري، وأعطي ظهري للبحر. أخطو باتجاه مدخل القلعة ذي القوس الكبير، وأنا أفكر في نوعي الحجر، الحجر الجاهل الذي بقي مهملاً، لا قيمة له. والحجر الذكي الذي صقلته الأيدي الماهرة ليكون نافعاً. وأقول لنفسي: ذات يوم رسم حبيبي صورة وجهي على الرمل، ليته رسمه هنا.. قلت ذلك وأنا ألمس حجرة ضخمة قطعت بعناية فائقة.. فإذا بالحجرة تقول لي: ذاكرتي تحفظ كل الوجوه التي رأتني.. فلا تقلقي ياعزيزتي.. إني سأحفظ وجهك.

راعني جوابها.. وارتعشت، وما ذاك إلا لأنني وحدي، لا أرى أحداً، ولا أحد يراني. وحدي الآن في مواجهة القلعة، وتاريخ هائل يجمع تفاصيله في ذاكرتي بصورة يصعب احتمالها، وكان هناك الكثير من الأسئلة .. من هي؟ ومن أنا؟ كيف جئت إليها؟ وكيف سأغادرها؟ وهل يوجد أحد ما في القلعة الآن؟! وهل... وهل؟!

في هذه اللحظات، ربما أصبح وجهي باكياً، فرحاً، مندهشاً، ملتهباً، بارداً، من الصعب أن أحدّد حالة وجهي، فيما الشمس الحارّة تلفحه بلهيبها، ونسائم القلعة ترطّبه. نحن في بداية شهر آب، وأنا أقف تحت هذه الشمس متحديّة حرارتها، إذ أشعر بقوّة أكبر من قوّتي تبثّني ذبذباتها.

بعد إمعاني النظر في واجهة القلعة، وفي الإطلالة البانوراميّة، وبعد إمعاني التفكير في أزمنة مضت، قررت الدخول.. أجتاز المدخل المقوّس وأنعطف يميناً، ثم أصعد درجاً آخر، وما إن أصل الدرجة الأخيرة المؤدّية إلى بهو القلعة حتى تطلّ المفاجأة التي لم أكن أتوقّعها.. أتسمّر في مكاني، أتسمّر طويلاً لدرجة خِلتُ فيها أنني أصبحت حجرةً من أحجار هذه القلعة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها