ترجمة الاختلاف.. في مملكة السلطان الإفريقي

لـ والتر بورتن هاريس

ترجمة د. سفيان العشيري



 

الترجمة في الحضارة الإنسانية ركن ركين. فمنذ وجود الإنسان على وجه الأرض، وبداية استعمال أدوات التواصل من أصوات ولغات وحركات ورسومات، بدأت حركة الترجمة بشكلها البدائي أولاً، ثم بعد ذلك ازدهرت الترجمة بكل أصنافها وتخصصاتها. ومع ازدياد المد الحضاري وارتفاع موجة العولمة وتبدد كل الحواجز الترابية والثقافية والحضارية، أصبحت الترجمة بمثابة حجر الزاوية في كل مناحي الحياة. وقد ازداد حجمها وتأثيرها والحاجة إليها بحكم التوسع المعرفي، ومجتمع المعلومات وطفرة العولمة.
 

غير أن مقاربة الترجمة اختلفت باختلاف المشتغلين بها. فقد كثرت الاتجاهات والنظريات، ونشأت مدارس عملت على تطوير مفاهيم جديدة، وتقديم نماذج يحتذى بها في هذا المجال. لكن السجال ظل قائماً حول كيفية تدبير الاختلاف المرتبط بنقل خطاب ما من لغة إلى أخرى. فهل تراعى البنية الداخلية للغات مثلاً؟ أم أن العوامل الخارجية من مرسل ومتلق، وسياق المقام، والسياق الثقافي هي ما يجب الركون إليه من أجل تذييل فهم النصوص، ومن ثمة نقلها إلى لغات أخرى؟ ثم كيف تترجم الذات ما كتب عنها؟ فهل تسترد حقها ممن تحامل عليها بلسان آخر؟ أم أن الوفاء للنص يظل دائماً المقصد الأسمى في كل عملية ترجمية، رغم أن هذا الأمر يزيد من إثخان الجراح عند الآخر، المتلقي المغربي في حالتنا هذه، الذي تكلم عنه هاريس بالنيابة بعد أن أمعن في إسكات صوته.

على هذا الأساس، ارتأينا أن نقدم في هذا المقال منهجية تدبير الاختلاف مع الصحفي والجاسوس البريطاني والتر بورتن هاريس، الذي نترجم خطابه من خلال كتبه التي كتبها عن المغرب أهمها: مملكة السلطان الإفريقي، وفرنسا وإسبانيا والريف. وهي منهجية تتجاوز الرؤية المعيارية، التي تقف عند حدود ممارسة الترجمة التي تنشد السلامة اللغوية والدلالية، إلى الرؤية المعرفية التفكيكية التي تكشف عن أغوار مقصدية كاتب النص، وتفك شفرات فهمه للآخر وحكمه عليه. فكاتب "تافيلالت"، و"المغرب الذي كان"، و"أرض السلطان الإفريقي" و"فرنسا وإسبانيا والريف"، يضمّن كتبه عدة مراسلات سلطانية، ونصوص صحفية وأسماء جغرافية، وعبارات من لغة التواصل اليومي للمغاربة، بلغة إنجليزية بعد أن قام بترجمتها بنفسه من العربية. غير أن آليات وطرق اشتغاله على ترجمة هذه النصوص تغيب عنها المستويات الثقافية، وبالتالي يظل التفاعل بين المستويات السياقية والمعجمية معيباً بشكل كبير. ولهذا سنحاول تقديم نماذج توضح بشكل جلي الاختلاف بين الذات التي تترجم ما كتب عنها، وبين الآخر الذي يترجم ما يفهمه بطريقته الخاصة.

 

والتر هاريس في مواجهة الآخر

لقد عاش والتر هاريس في المغرب وفي طنجة تحديداً لمدة تزيد عن الثلاثين سنة، وهي مدة كافية لتعلم لغة البلد، وتمثل ثقافته وعاداته. كما أن وجوده في البلد تزامن وبوادر قرب نهاية استقلال المغرب، بعد وفاة أحد أقوى سلاطين الدولة العلوية، مولاي الحسن الأول. هنا يمكننا القول إن فترة انهيار الثقافة المغربية، وارتخاء الظروف السياسية والعسكرية، قد ساعد هاريس في كل مساعيه لإنتاج معرفة حول المغرب وشعبه، بصفته رحالة ومراسلاً لمجلة التايمز البريطانية. وهي معرفة يطبعها التحامل على المجتمع المغربي في مقابل تزكية النظرة الهاريسية للمركزية الغربية، وشرعنة أسسها الميتافيزيقية والبنيوية. وهنا أود أن أوضح بأنني لا أصادر حق والتر هاريس في قول ما يشاء عن المجتمع المغربي وترجمة لغته بما يراه مناسباً، لكنني أريد أن أقول إن خطابه في جل كتبه، رغم تسربله بسربال الجمال، وتحليه بدقة الوصف، فإن معناه ليس شريفاً، وغايته ليست ساميةً. وهكذا فإنني استوقفت في أكثر من مناسبة لتأمل صورة ذاك المغربي الآخر الذي أنطقه هاريس. وليس لهاريس من شيء يفعله سوى تمجيد التفوق الأوروبي، وتبيين اليد العليا للغرب على المغرب تنويراً وتعليماً وتثقيفاً وتمديناً. وهكذا فقد تحولت الكلمات عند هاريس إلى أدوات للقتال يستعملها للتراشق، كلما تعلق الأمر بالحديث عن مركبات النقص عند الشعب المغربي، الذي يتهمه بالهرطقة والأباطيل.


صوت الذات المقاومة للتنميط الكولونيالي

بما أننا عرفنا قصد هاريس من وراء إنتاجه للمعرفة؛ فإنه مع ذلك لا يسيطر سيطرة تامة على الأداة التي يستعملها، وهي اللغة. بحيث يشكلها وفق تصوراته المسبقة. ولكنها أي اللغة تفرض شروطها وتتحول من وسيلة إلى لاعب أساسي في عملية الترجمة. ومن هنا أود أن أسرد هفوات هاريس المقصودة؛ علّنِي أبلغ الأسباب التي أدت إلى خرق هاريس المتعمد للقواعد اللسانية، وخاصة الفونولوجية والمورفولوجية.

فلنتأمل مراسلاً صحفياً لمجلة عالمية يعيش في المغرب لمدة ثلاثٍ وثلاثين سنة، يتكلم العربية بطلاقة وفصاحة، يؤم بالناس خطيباً للجمعة في قرية الرمان ضواحي طنجة، وكل هذا يحدث في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهو مغرب الكتاتيب القرآنية والمدارس النحوية، والجامعات التقليدية والمعاهد العريقة. وهو مغرب يعتمد في كل المؤسسات الآنفة الذكر على أهم متون النحو العربي من ألفية ابن مالك وآجرومية ابن آجروم، ومصنفات اللخمي والسهيلي والجزولي وابن طاهر وغيرهم. فكيف تفك عقدة لسان هاريس، ويسعفه نظامه الفونولوجي عندما يكتب بعض الكلمات بالإنجليزية، ويحافظ على نفس تأثيرها الصوتي في العربية، ومن هذه الكلمات:
السلطان Sultan، سيدي محمد الحاج Sidi Mahammad Hadj، العيساوي Alassaoui، شريف وزان the shereef of Wazan، الكافر بالله Kaffirbillah، الخليفة Calipha، للا الشافية Lalla Shaafia، واد اليهود wad al ihoudi، كولو الجدادة كولو البطاطا colou jedada colou patata. أما عندما يتعلق الأمر بمصطلحات أو عبارات ترتبط بالسيادة أو الهوية؛ فإن كل الأجهزة الصوتية والفونولوجية والمعجمية تتعطل لتعطينا أجوبة تستميل النوازع الامبريالية، وتكرس النظرة التبخيسية حول المغرب. ومن هذه الكلمات:
الموريون أو الموروس The Moors: يستعمل هاريس هذا المصطلح في كل كتبه للحديث عن المغاربة أو الشعب المغربي. وهي ترجمة غير صحية؛ إذا اعتبرنا أن هاريس يتقن اللغة العربية، ويستطيع استعمال كلمة مغرب، مغربي، مغاربة، حيث كان يبدع في استعمالها حينما كان يخطب بالناس كل جمعة، ويرفع أكف الضراعة كما هو الواجب للدعاء لسلطان المغرب، وطلب الرفاهية للمغاربة والأمن والأمان لبلد المغرب. ولطالما تساءلنا عن عجز هاريس الفاقع واللعوب في فرنجة كلمة Maghrebis المغاربة، وهو الذي يستعمل كلمة Maghreb في أكثر من مناسبة. ولماذا يتنكر لكلمة Moroccans الموجودة سلفاً في كل القواميس الإنجليزية، ولماذا لا يقوى على نسخ الكلمة العربية وتحويرها كما هو معمول به في أدبيات الترجمة؟

وإذا كان استعمال هذا المصطلح دون غيره يبين بجلاء تحامل هاريس الممسوس بنزعة إثنية مركزية على المغاربة، وكذا نسبية وقصور مرجعية أفكاره، فإن وازع الرغبة في الذود عن المصلحة العليا لهذا البلد، وتقويض هذا النوع من الخطابات عبر بناء مسافة نقدية يظل فعلاً ضرورياً، يروم الانتصار لمرجعية الثقافة المغربية.

إن التعدي على حرمة اللغة عند هاريس ما هو إلا دليل على أن الأجندات السياسية والأيديولوجية، تبيح متى ما تطلب الأمر ذلك الانفلات من قوانين الألسنية؛ لكي لا ينقض كاتبنا عرى المركزية الغربية وأسسها الميتافيزيقية.

ومن بين الأمثلة الأخرى التي نجدها بكثرة عند هاريس، والتي يبرهن فيها على تشبثه بالمقولات الامبريالية، هي ترجمته لكلمة (القصر الصغير) إلى لغته بـ: Alcazar Soreir، وعند استقصائنا حول جذور الترجمة، وجدنا بأن الرجل يستعمل الكلمة الاسبانية للقصر الملكي بإشبيلية. وهي الآن رمز لعظمة إسبانيا الاستعمارية. لكن الإيتيمولوجيا تقول: إن الكلمة أصلها عربي نظراً لأن قصر إشبيلية بناه حكام الأندلس المسلمين، وأطلقوا عليه هذا الاسم. وكان بإمكان هاريس الذي يجيد العربية أن يرد فقط الكلمة إلى أصلها العربي، ويكتب Alqasr، وإذا كانت تصورات هاريس تطفح ببعد الحاضر الامبريالي مع تغييب البعد التاريخي؛ فإن قطب الرحى في كتاباته وترجماته يبدو متأثراً بشكل كبير بإيديولوجيا الغرب الاستعماري.

وهنا تطرح مقصدية كاتب النص بحدة، وهو المبحث الذي سال فيه مداد كثير، حيث اعتبره دوبغراند ودريسلر مقياساً أساسياً من مقايس النصية. وهنا نود أن نذهب إلى أبعد الحدود لنتفق مع ميشو جينيت في كون العامل النفسي يسيطر دائماً على ذاتية المترجم مهما كانت مهنيته. فالترجمة -كما يؤكد لويس موايال- يمكن أن تكون فعلاً خطيراً بسبب التغييرات الذاتية، التي قد يجريها المترجم على مقاصد النص الأصلي، وخاصة عندما تتدخل رغبة المترجم وشخصيته، عن وعي أو عدمه، في ترجمته، أو عندما يحكّم السياق السياسي أو الثقافي الذي ينتمي إليه. وهذا بالضبط ما حدث لهاريس.

على سبيل الدحض والاستنتاج

لقد مرت علاقتنا بما أنتجه هاريس بمحطتين متزامنتين: أولها انبهارية، وثانيها نقدية تفكيكية. فبالنسبة للمحطة الأولى، فقد استقبلنا نصوص وكتابات والتر هاريس بكثير من الاندهاش، وذلك بسبب غزارة معلوماته ومنتوجه الفكري. تلك المعلومات المفصلة في كثير من الأحيان تولد مشاعر الأسى؛ لكونها كانت متاحة لأجنبي دخل إلى المغرب في فترة كان فيها الحصول على المعلومة أو الوصول إليها يكاد يكون مستحيلاً. كما أن التحكم في هذا الخطاب المنتج عن المغرب ظل لفترة طويلة بمنأى عن المسائلة النقدية من طرف المثقفين المغاربة. أما المحطة الثانية فجاءت نقدية تفكيكية لتفصح عن وعي ذاتي، وعي الذات الثقافية التي تحاول إعادة استملاك نفسها، والإفصاح عن وعيها والتخلص ممن احتكر الرواية عنها.

أما بالنسبة لنا؛ فإن أي كلام محسوب على اللغة يحتمل المجادلة على القيم والاختلاف على المقاييس. فغير مجدية تلك المحاولات التي يراد بها تقزيم الثقافة المغربية واللغة العربية، وعرقلة هرولتهما في معارج الرقي. فمحاولات هاريس وغيره تطحن الهواء ولا تطحننا، والمغرب بلغته وثقافته يظل خالداً قبل هاريس وبعده.


المصادر العربية:
- بلقزيز،ع.ا. (2017). نقد الثقافة الغربية في الاستشراق والمركزية الأوروبية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
- حميش، ب. س. (2011). العرب والاسلام في مرايا الاستشراق. القاهرة: دار الشروق.
- ذاكر-،ع.ن. (2018). المغرب والغرب، نظرات متقاطعة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- ريشيا. (2016). رحلة في أسرار بلاد المغرب. ترجمة: بوشعيب الساوري. المغرب: أفريقيا الشرق.

المصادر الأجنبية: 
-  Beaugrande.R.de & W. Dressler.1981.Introduction to Textlinguistics. London: Longman.
- Mehrash,M.1997.Towards a Text-based Model for Translation Evaluation. Ridderkerk: Ridderprint.
- Said.E. 1993. Culture and Imperialism. Great Britain :Vintage.
- Said,E. 1978.Orientalism.UK.Routledge & Kegan Paul Ltd.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها