رهافةُ الأنثى.. في لوحات محمود سعيد

عبد الهادي شعلان



وأنت تقف أمام لوحات نساء محمود سعيد تشعر أنك أمام أنثى حيَّة بشحمها ولحمها، بأبعادها الثلاثية المجسمة في الفراغ المحيط، ترى كلّ جسدها وتكوينها، وكل ما يحيط بها، فأنت لا ترى جسداً فقط، بل سترى مشاعر هذه الأنثى.. ستفكر أن تعرف حكايتها وأنت تنظر في عينيها، سترغب من كل أعماقك أن تنطق أنثى اللوحة لتدرك ما يدور بخلدها وباطن أعماقها، تريد أن تستشف لماذا هي حزينة؟ ولماذا هي مستريحة كذلك؟ لماذا هذا التوتر والقلق؟ تريدها أن تنطق وأن تجيب من داخل اللوحة، أنت تتعامل مع تكوين كامل، وجسد حي مرسوم أمامك تتخلله أعصاب محمود سعيد الحيَّة برهافته وحساسيته، أنت أمام حياة ولست أمام لوحة من قماش وألوان!


ما حكاية محمود سعيد مع الأنثى؟ كيف خرجت نساؤه هكذا على اللوحة؟ ربما يكون لهذا علاقة بوالدته، أو لأول معلمة أنثى كانت في حياته، فقد تلقى بعض المناهج الجدية الأولى لفن الرسم على يد مدام "كازاناتو" الفنانة الإيطالية التي عاشت في الإسكندرية، الواضح أن الشغف بالأنثى شغف بالحياة، ومحمود سعيد فنان شغوف بالحياة.

حين تنظر للوحة "أمومة" تشعر بالبهجة والتفاؤل الحنون، فالألوان على الرغم من ميلها للأحمر في رداء المرأة الجالسة على الكرسي باستراحة، إلا أنه أحمر لا يميل للشهوانية، ولا للدموية، ولا للإثارة، فالصدر على وضوح تكوينه واستدارته الكاملة في اللوحة لا يبدو مثيراً بالمرة، يظهر جلياً أنه في انتظار المولود، اللوحة كلها في انتظار المولود الجديد القادم.
 

أمومة لوحة هادئة تشعرك بالأمل والمستقبل حين ترى وجه المرأة وجبينها المضيء، وشعرها الناعم المنسدل بانتظام كأنما يقول هاهنا جَنَّة هدوء، الحواجب مزججة بانتظام فائق، كل شيء في اللوحة يبدو نظيفاً ومستريحاً، مفرق الشعر الواضح في رأس المرأة بإتقان، الاستراحة والهدوء واضحة في كل شيء: الألوان، وجه المرأة، ملابسها، جلستها، وضعية يديها على جوانب المقعد، حتى الدبلة التي في يدها اليسرى تبدو متقنة؛ لتعطي حالة بأن هذه المرأة تعيش حالة أمومة شرعية مريحة دون توتر أو قلق، نرى هذه المرأة في حالة سكينة غرائبية، يمكنك أن تقول هنا لوحة بشائر لا تراها العين؛ إنما تستشعرها في الروح، فعندما تطالع هذا الوجه الصبوح الناظر في اطمئنان غريب.. بضفيرة شعر ملقاة بعناية على الكتف، وعلى الرغم من أن الصدر يبدو مكشوفاً نوعاً ما إلا أنه لا يظهر أي إثارة، يخبرك بأن هذه حالة أمومة خالصة، يبدو ظل المرأة في الخلفية وكأنه شخصٌ قادم من بعيد، هل بهذا الظل نستكمل البُشْرى بأن هذه المرأة في انتظار ظل لها على الأرض؟

امرأة مضاءة: وجهها، يديها، صدرها، وكأن الضوء يشع من داخلها، وحين تنظر لعينيها ترى الرضى كله، وتلمح استشعار النعمة، هي لوحة أمومة راضية وناعمة، ومستريحة لإخراج النور للعالم، الوجه يبدو بضاً والشفاه رغم حمرتها الواضحة باستخدام أحمر الشفاه، إلا أنها تدعو الطفل للتقبيل الحنون، ثم تأتي هذه الثنية في الرداء، والممتدة تماماً لتتلاحم مع فتحة الصدر، هذه الثنية بالتحديد كأنها تعلن عن وجود الجنين في البطن المستريح أمامنا على الكرسي، الرداء أيضاً يبدو مصنوعاً من قطيفة ليشارك كل اللوحة في الاستغراق في حالة الدفء الناعم، وضعيَّة يد الأم بين فخذيها تصرح أنها نفسياً في حالة ترقب عطوف للجنين داخلها، وهي في الوقت نفسه تداريه عن العيون الحاسدة المترصِّدة، هذه اليد البضَّة بهذه الوضعية الحسَّاسة خرجت أيضاً من منطقة الإثارة لمنطقة دفء الأمومة ثم يأتي الوشاح، أو الملاءة اللف، على فخذي المرأة ليحيط الجنين ويرعاه ويحميه من قَبْل أن يخرج للعالم، يمنحه مزيداً من الدفء ومزيداً من الستر، هذا الوشاح، الملاءة، يمنحنا قداسة لما تنتظره المرأة، حتى الإيشارب مصنوع بعناية وإتقان، لا يوجد هنا أي هفوة إهمال واحدة، وحين تنظر لأذنها المضيئة يهيأ إليك أنها تتسمع لنداء قادم من بعيد، هذه الأذن المفتوحة المضاءة تستقبل صوتاً من عالم الجنين داخلها.
 

وأنت تتطلَّع للوحة "ذات العيون العسلية" ترى الترقب والحزن والدمعة المحبوسة في قلب امرأة مشغولة بشيء خفي، أول ما يدور بذهنك أنها امرأة تستمع لأحد ما لا نراه، وكأنها في زيارة لعرافة تحكي لها عمَّا ينتظره مستقبلها، هذه العيون المليئة بشيء لا نعرفه تبدو حزينة من أعماقها؛ ممَّا أثَّر على جسدها فبانت نحيفة من أعلى الصدر، على الرغم من شموخ ذراعيها، وارتدائها للكثيرة من الحُليّ؛ وكأنها مقيَّدة بالرداء المربوط بعقدة كرابطة العنق، كأنها مربوطة من تحت صدرها.

شفاه ذات العيون العسلية مليئة بالرغبة المكبوتة، تريد أن تنطلق، لكنها في حالة حرمان، إنها ترتدي خاتماً في يدها اليمنى، يبدو أن به عيناً تحرسها أو تنظر إليها، وهي في الوقت نفسه تخبئ يدها اليسرى كي لا نعرف هل هي متزوجة أم غير متزوجة، وهذا يعطي للحرمان مدلولات عديدة، فحرمان المتزوجة يختلف عن حرمان غير المتزوجة، وإخفاؤها ليدها اليسرى يفتح الدلالات ويوسع المعاني، وعلى الرغم من وجود هذا الحزن الواضح إلا أن إضاءة الصدر البارز في تحد واختفاء يكشف عن أمل في الاستشراف، وعلى الرغم من أنها جالسة، إلا أننا نستشعر أنها امرأة طويلة من مساحة ذراعيها ويديها، ويستخدم محمود سعيد نفس الوشاح الأسود، الملاءة، وجود الذهب في يد ورقبة صاحبة العيون العسلية يشي بميسور حالتها المادية، والنعومة التي تبدو في الرداء الأصفر الذي ترتديه يجعلك تشعر أن هذا الصدر مليء بالنعومة والحنان، هي مستريحة، لكن هناك شدَّة ما داخلها، هل تبحث عن رجل مفقود؟ ربما تفتقد للرجل؟

تستكمل الستارة المربوطة بقية تفسير العقد التي تربط ذات العيون العسلية، فهاهنا عقدة على الستارة، وعلى يديها، وفي ردائها، وهذه الغلالة السوداء الشفافة التي تحيط برأسها كأنها محبوسة الرأس، أنت لا تملك وأنت تقف أمام هذه اللوحة إلا أن تهمس لذات العيون العسلية وتقول: "ماذا بكِ"؟ وترغب في أن تخرج من اللوحة وتبوح لك بالسر المدفون داخل عينيها، ثم يأتي هذا الاحمرار الداكن الذي تستند عليه ليقول: إن داخلها شيء لا يهدأ.

ونحن نطل على لوحة "جميلات بحري" نرى ثلاث بنات يخطرن في الطريق، وبشيء من التدقيق نكتشف أن كل واحدة منهن أنثى مختلفة التكوين والحالة النفسية عن الأخرى، لها ملامحها وخصوصيتها، فالوسطى ترتدي خلخالاً في قدميها وأساور مزخرفة في يديها، شعرها أصفر واضح، عيناها تنظران لكَ في ترقُّب وجرأة، تقول لنفسك: "هذه أنثى مفعمة بالأنوثة"، فهي وحدها من تظهر ذراعيها عاريان في استرخاء وراحة، ترتدي الأحمر الشهواني تحت الملاءة اللف، صدرها مضيء، وتبدو أطول الثلاثة، قدماها متقاربتان بثقة، إذا نظرت للفتاة التي في اليسار سترى خجلاً واضحاً، ونظرة للأرض متناسبة مع استراحة اليد التي تلمس أعلى الكتف تسند الملاءة اللف، يظهر وسطها متناسقاً أكثر، وصدرها يضيء على استحياء، خطوها كأنها في كامل الثقة لا ترى أحداً عبر سيرها، هي واثقة من جمالها، وكأنها متأكدة الآن أنها محط نظر ومحل متابعة من الجميع، أما الفتاة التي في اليمين فهي ملفوفة بالكامل، لا يظهر حتى خصلة من شعرها، لكن اتساع عينيها ونظرتها الجانبية في تحد واضح، ومع أنه لا يظهر أي جزء من تكوينها الجسدي الملفوف بالملاءة اللف السوداء، لكنك تشعر بأنوثتها، وعلى الرغم من أنهن يسرن سوياً، في طريق واحد ويرتدين نفس الزي، إلا أن محمود سعيد أعطانا لكل واحدة شخصية قائمة بذاتها، ترغب أنت في معرفتها.

على الرغم من استخدام محمود سعيد ثلاث بنات في لوحة "بنات بحري" بنفس لوحة "جميلات بحري" إلا أنك ترى أن الثلاثة في اللوحة الأولى في اختلاف تام مع الأخريات، لن تستطيع أن تقول إنه نسخ البنات الثلاثة من لوحة للوحة، بل جعل لكل واحدة أيضاً شخصية مغايرة يمكنك أن تراها بمفردها.

حين تقف أمام لوحة "الفتاة ذات الأساور الزرقاء" ترى وردة متفتحة على استحياء، في رأسها، وعلى صدرها، وردائها، كأنها وردة داخل الرداء، حتى إن الوردة التي فوق رأسها تبدو حيَّة لها أوراق خضراء طازجة، هذه فتاة تشعرك بالتأجج في أعماقها، وفي الوقت نفسه هو تأجج يحيطه الهدوء والسكينة الداخلية، فظهور صدرها الخفيف يبدو حيوياً، يبدو أن محمود سعيد استخدم اللون الأبيض الواضح ليخفي الإثارة، أبيض واضح كمثلث له دلالته، إلى جانب أنه استخدم رداءً يداري الصدر بالكامل عن عمد، فلا يظهر منه سوى هذا الجزء الصغير الذي يدعوك للتكشف والحياء في الوقت ذاته، وعلى ما يبدو من إهمال في شعرها المائل للخشونة إلا أن نضارة وجهها وجسدها واضحة.

في لوحة "نبوية في الرداء المشجَّر" نرى أنثى مختلفة، تشعر أنها تعرف أشياء كثيرة بنظرة من عينيها المتحدية، تجلس في حالة ترقب واستماع لشيء ما يحدث، فعلى الرغم من أنها تجلس عارية القدمين فيما يبدو أنها جلسة مريحة، إلا أن هنا ترقُّباً ما، داخلها تساؤل وتستفسر عنه في أعماقها، ويلمع في ذهنها كشفته بقعة الضوء الواضحة على الجبين، جلوسها المتشابك كأنها تحيط نفسها في انتظار ما يحدث.

أما لوحة "ذات الحلي" فهي أنثى في حالة حساب، نحافة عنقها الواضحة معاً لبكاء المكتوم داخل روحها، ونظرتها الحائرة هو ما يلفت النظر فهي تقبض بكلتا يديها على بطنها في وضع تشابك، ومع ذلك يظهر الصدر تحت الملابس حياً وحيوياً، وكأنها تعاني من شيء ما لا يظهر، شفتاها الملونتان بالروج تشعرك بالحرمان والجفاف، هذا غريب أن ترى أنثى تشعر بالجفاف وفي الوقت ذاته تضج من داخلها.
 

في "ذات الرداء الأزرق" أنثى سمراء تكاد تبتسم، تنظر لشيء يجعلها تتبسم، لكنها في شموخها وعزتها تجعلك لا تعرف هل هي تبتسم أم لا تبتسم! ونلاحظ أيضاً أنها طويلة وفارعة ويبدو صدرها صغيراً وليس ضامراً، كأنها نموذج للعزة مثل لوحة "راعية الماشية"، فالمرأة التي تجلس على الحمار تبدو أنثى وافرة الأنوثة، طويلة وفارعة أيضاً، تجلس بثقة واضحة على الحمار ولا تخشى السقوط.

لا تنتهي الرحلة مع الأنثى في أعمال محمود سعيد، فما زال هناك العديد من النساء تسكن لوحاته، ولكل واحدة منهن شخصيتها الخاصة التي تكاد تلمسها وأنت تقف أمام اللوحة، بل تكاد تحدثها وتستمع لحديثها، وترهف مشاعرك لحكايتها، وحين تترك اللوحة وترحل، ستظل أنثى عالقة في قلبك تريد أن تراها وأن تتحدث معها خارج اللوحة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها