الدوائر المنطقية والنفسية لآلية التفكير.. بين التقليد والتجديد

د. هيثم علي الصديان


لعلّه ليس زعماً ولا مبالغة أن يقال: إنّ الفكر العربي لم تشغله قضيّة بقدر ما شغلته قضيّة التقليد والتجديد أو الاتّباع والإبداع. وهي في حقيقة الأمر ليست قضيّة خاصّة بالفكر العربيّ وحده. بل هي جدليّة شغلت الفكر البشري عامّة، وأخذت حيّزاً مهمّاً من تاريخ الحضارة الإنسانية؛ إذ يمكن الزعم أنّ هذه القضية تنطوي على ثنائية تُعدّ أهمّ ثنائيّة مركزية في الفكر الإنسانيّ.


على أنّ الفكر الغربيّ قد تجاوز هذه المعضلة الجدليّة التي شغلت ثلاث حقب رئيسة من تاريخه: ابتداءً بعصر النهضة، مروراً بعصر الإصلاح، ثمّ عصر الأنوار؛ ليفتح بعدها عينيه على القرن التاسع عشر وقد صارت هذه الثنائية من الماضي، فيدشّنَ القرنَ العشرين بطابع مغاير وجدلية جديدة بين القطيعة الأبستمولوجيّة وتراكميّة المعرفة المتطوّرة باستمرار. أي إنّه لم يعد يناقش القضيةَ انطلاقاً من التساؤل التالي: هل يأخذ هذا الفكر بالتّقليد ومحاكاة السابق أم ييمّم شطر الجدّة والإبداع؟ فهذا سؤال صار من الماضي والتاريخ المعطَّل. إنّما صار يناقش القضيّة من زاوية أخرى حلّت محلّ السابقة واستُبدلت بها، فصار ينطلق من التساؤل الآتي: هل الفكر الغربي اليوم يعيش قطيعة معرفية مع ماضيه، أم استطاع أن ينتج معرفة وثقافة جديدتين، لكنّهما نتاجان مرتبطان بمعارف الماضي وثقافته ومستندان إليه؟ الأمر الذي يعني أن الجدّة والإبداع باتا من مسلّمات هذه الثقافة؛ فالنقاش اليوم ينحصر على إذا ما كانت ثقافة الغرب وطبيعة معارفه تشكّل قطيعة تامّة مع ماضيها وكأنها جنس فكري جديد، أم هي حالة إبداعية لكنّها متّصلة بهذا الماضي؟ وهذا يعني -أيضاً- أنّ السؤال أصبح ضمن مدار الإبداع وعلى نوعيّة هذا الأبداع وماهيّته. هكذا باتت قضيّتهم؛ فتحوّلوا من ثنائية قديمة إلى ثنائية جديدة. وهذا يعود لمتغيرات وأسباب كثيرة عاشها المجتمع الغربي.

 

✧ في الفكر العربي الإسلامي 

أمّا في الفكر العربي وحضارته العربية الإسلامية فهذه قضية إشكالية، كانت وما زالت تتصدّر قضايا هذا الفكر ومشاكله، قديماً وحديثاً. وهي في العصر الراهن أكثر حضوراً وأقوى حديّة، وإنْ أمست أقلّ جدليّة؛ وذلك بسبب تراجع دور هذا الفكر في وقته الحاضر عن شغل مكانة ريادية في ركب الحضارة، وبسبب بعده الزمني عن سابق مجده؛ ممّا جعل الأمل باستعادة ذاك المجد على شكله السابق من الأماني المستبعدة حتى في عقول أصحاب التيار المحافظ. كلّ هذا جعل أصحاب التوجه الإبداعي أو التجديدي يملكون الصوت الأعلى على مستوى الإنتلجنسيا العربية، لكنّه ما زال أقلّ تأثيراً من التيار الآخر صاحب الصوت الخافت؛ وذلك لأنّ هؤلاء المحافظين هم الألصق بالناس، والأكثر براغماتية (الأقل نخبوية)، والأحسن عدّة: من تاريخ ممتدّ وتراث يسيطرون على معظمه وخبرة تداولية متّصلة لم تنقطع، وهذا على الرغم من الدعم التقني والسياسي الذي تحظى به أصوات التوجه الإبداعي أو الحداثي على اختلاف التسميات.

✧ الجذر المعرفي "الأبستمولوجي" للقضية 

لكي نعرف مساحة الحيّز الثقافي الذي تشغله هذه القضية من الفكر العربي علينا أن نذكر -فقط- التسميات المتنوعة التي ترد بها وتدعى على أساسها؛ إذ تختلف مسمّياتها الاصطلاحية باختلاف الحقول المعرفية التي تتصدّر لمناقشتها. فهي في الأدب تسمى (الإبداع والاتّباع)، أو التجديد والمحاكاة، وأحياناً المشاكلة والاختلاف. أمّا في الفقه الذي ينفر من مفهوم (الإبداع)، لأنه يحيل إلى (البدعة) المذمومة أصولياً أو المختلف عليها أصلاً، فهي لذلك تأتي فيه تحت باب (التقليد والاجتهاد)، وهو من أوسع أبواب الفقه وأهمّ أصوله. لكنّ اسمها الأهم أو الأكبر والأكثر إشكالية وخطورة هو ما يندرج تحت باب العقيدة والأصول بمسمّى (النقل والعقل).

هذه كلّها مسمّيات اصطلاحية لمفهوم واحد. إنما تختلف تبعاً لاختلاف الحقل المعرفي الذي تشغله. وهي قضية نظرية أكثر منها عملية، بمعنى أنها وليدة التنظير الفكري والتأسيس المعرفي لقواعد العلوم الخاصة بكل حقل من تلك الحقول التي ذكرناها. ولذلك فإنّ التاريخ لا يذكر لنا شيئاً عن هذه القضية في العصر الأموي. وإنّما بدأت مع بدء حركة التدوين والتنظير للعلوم العربية المختلفة. ويبدو أن الأدب ممثلاً بالشعر كان أوّل الحقول التي أثارت مسألة الإبداع والاتّباع أو الجدل بين التجديد واقتفاء أثر الأوّلين. وقد كانت الغلبة في أوّل الأمر للاتّباع والاقتفاء على التجديد والاختلاف. بل جُعل الإبداع يكمن في قدرة الشاعر على الاتّباع والمحاكاة. وهذا هو موطن الخلاف والمفارقة بين الأدب والفقه؛ فالأدب لم يتخلَّ عن مفهوم الإبداع نظرياً، لكنه وضعه ضمن دائرة الاتّباع عملياً. أما الفقه فقد تحاشى مفهوم الإبداع واستعاض عنه بمفهوم (الاجتهاد). لكنّه كان آخر العلوم الثلاثة انشغالاً بهذه القضية، وهو آخرها تحرراً منها أو لا يزال تحت تأثيرها، على الرغم من أنه بدأ متحرّراً منها في الوقت الذي كانت تلك القضية مستبدّة ومستوطنة حقلي الشعر والعقيدة.

✧ جدلية القضية 

إذا كان التنظير الشعري أوّل ما أثار القضية فإنه أوّل المتحررين منها؛ فقد توصّل فيها إلى حلّ سياسي تصالحي، بمعنى أنه انتهج حلاً يشبه تعامل بريطانيا العظمى مع تاريخها الملكي حين اختارت حلاً تصالحياً يجمع بين الملكية بتاريخها الطويل مع النظام السياسي الديمقراطي. كذلك فقد انتهى التنظير الشعري العربي إلى الجمع بين الاتّباع والتجديد، كلّ له مكانه ومكانته ضمن دائرة الإنتاج الشعري، وصار مفهوم الإبداع متاحاً لهما معاً ودائرةً تضمّهما. فالقضية في الشعر بدأت مسألةً لا تصل إلى مستوى القضية، فتطوّرت تحت حُمّى الصراع إلى قضية جدلية معقدة، ثمّ رجعت أخيراً إلى كونها مسألة هامشية في تحديد مفهوم الشعر اليوم.

أمّا الفقه فقد بدأ عِلماً تأسيسياً، استطاع أن يستنبط أحكاماً وقواعد جعلها أصولاً ضابطة له. حتى صارت هذه الأصول مثالاً منهجياً يُحتذى في غيره من الحقول الأخرى. واستطاع أن يبزّ هذا العلمُ الوليدُ في سنين محدودة باقي علوم الثقافة العربية الإسلامية، انضباطاً وشهرة وتداولاً واستقطاباً، حتى أصبح عصب تنظيم الحياة الاجتماعية. ولقد أعطى الفقهُ الاجتهادَ قيمةً عليا. لكنّه مع تراجع الدور الحيوي للثقافة العربية صارت سمةُ التقليد فيه السمةَ الغالبة عليه. وهو الحقل الوحيد الذي أغلق باب الاجتهاد صراحة وجهراً، على الرغم من قوة الصوت الفقهي المعترض داخل الحقل ذاته إلى اليوم(1). لكنْ يجب التنبّه إلى أنّ الإشكال ليس في الاجتهاد، إنما هو في ماهية هذا الاجتهاد وجوهره؛ فهو، كما ذكر الجابري وغيره من المعاصرين، اجتهادٌ في النص؛ أي هو قياس على مثال سابق، وليس اجتهاداً بمعنى الابتكار أو الإبداع على غير مثال سابق. وهذا يعني أنه لا يخرج في جوهره على معنى التقليد؛ فهو أشبه بمفهوم الإبداع الشعري الذي أخذ به البلاغيون والنقاد في أول التأسيس النظري للشعر ولمفاهيمه، حين كان إبداعاً في الصور البلاغية ومحسناتها من دون المساس بالقواعد الأساسية لمفهوم الشعر التي تقوم على احتذاء نماذج السابقين وتقليد طرائقهم.

 أمّا في حقل العقيدة فقد ظلّ الجدل بين ثنائية (العقل والنقل) محتدماً بين أخذ وردّ وتعطيل وتكفير إلى وقت قريب، حتى خفت جذوته، وكاد ينتهي لولا الأزمات السياسية التي صارت تلقي بظلالها على بعض مناحي العقيدة، مصحوبة بهواجس ومخاوف على أصول الدين (وهو الحقل الوحيد الذي ارتبطت فيه هذه القضية بالتكفير). لكن أصحاب هذا الحقل مجمعون على استحالة تنحية النقل أو بطلانه، إنما الإشكال يكون بنظرهم في تقصير الفهم أحياناً عن إدراك حقيقة النص؛ وعليه فهم مجمعون على صحة النقل في ذاته، من هنا قالوا: بوجوب التوفيق بينهما، وإن اختلفوا في طرق تحصيل هذا التوفيق(2). بيد أنّ هذا الجدل العقدي ظل ذا طابع نخبوي بعيدٍ عن الناس وحياتهم الاجتماعية، وهو اليوم يكاد يكون نسياً منسياً، إلّا حين يُحرّك لغايات سياسية أو مذهبية.

 الدوائر المنطقية للقضية 

على الرغم من كلّ ما قيل في هذه القضية، وما فيها من أخذ وردّ واتّهامات، ومن تحميلها مسؤوليات التأخُّر في مواكبة الركب الحضاري، على الرغم من ذلك كلّه، يمكن تقسيمها على نحو منطقي إلى أربع دوائر إنسانية. وكل دائرة فيها تنوعاتٌ مختلفة لهذه الثنائية، وكذلك فيها منافذ تفاعلية متشابكة مع الدوائر الأخرى، وهي تقسيمات تصلح لكلّ زمان ومكان:
فثمّة مَن يجنح إلى التقليد في حياته الفكرية والسلوكية، وينفر من الخروج على النماذج الفكرية والقواعد الثقافية والمعرفية والسلوكية السائدة.
وثمة نفرٌ آخر ينحو منحى عكسياً؛ فينفر من التقليد السائد ويهوى الخروج عليه، ويميل إلى كلّ مبتكر جديد.

وهذان النموذجان المتناقضان فكرياً وسلوكياً هما ينزعان منزعاً نفسياً واحداً، يصدران فيه من الدائرة العاطفية لا العقلية، على الرغم من ظنّهما الصادق أو تصريحهما المزعوم أنّهما إنّما يصدران عن اختيار عقلي راجح. لكنّهما في حقيقتهما وجهان لعملة واحدة.

لكنّ ثمةّ نَفَراً آخر ينزع نحو الجمع عن اختيار وتمحيص بين الميلين: التقليد والتجديد، من دون أن يحصر همّه في اختياراته ضمن جدلية الثنائية الفكرية (التقليد والتجديد). بل هو منشغل بالاختيار والجمع والتصنيف والتقييم. وهذا النفر من الناس لا يهتمّ بالنماذج التي تقع تحت أحكام القيم السلبية؛ وإنما هو منشغل باختيار النماذج التي يصنّفها أو يجدها بحسب رأيه ضمن أحكام القيم الإيجابية. فيأخذ ما يراه قيماً مفيداً ويترك ما عداه. فهو نموذج بنائي انتقائي (أو تلفيقي). وهذا النموذج يصدر عن توجّه عقليّ؛ أي هو نموذج الدائرة العقلية في استهلاك الفكر وفي إنتاجه، عبر نشاط فكري متفاعل متداخل بين الاستهلاك والإنتاج معرفياً وسلوكياً. (وهذا لا يشمل الجامع بينهما تقليداً).

ويبقى النموذج الأخير الذي يقوم -أيضاً- على الجمع بين النماذج التقليدية السائدة والنماذج الجديدة المبتكرة؛ لكنه يحرص على تفكيكها وتحليلها ومساءلتها وتبيين تناقضاتها ومشاكلها وإشكالياتها. فهذا العمل لا يوصف بأنّه استهلاكيّ وكذلك لا يوصف بأنه إنتاجي، وإن كان فيه من الاثنين. وهو كذلك لا يوصف بالعقلي ولا بالعاطفيّ، وإن كان لا يمكن أن يخلو منهما. إنّما هو ما بعد عقلي (ميتا- عقلي). فهو يقع ضمن دائرة النقد أو النظرية النقديّة، وهي دائرة علمية لا غير. أو هكذا يفترض. لأنها الدائرة التي لا تعتمد على الذات بوصفها الطرف الرئيس المنتج، وإنما تكون الذات فيها أداة من بين أدوات أخرى. وهي إن كانت تتشابه مع الدائرة العقلية في الجمع بين ركني القضية (التقليد والتجديد)، لكنّها تهتمّ بما ينطوي تحت القيم السلبية أكثر من اهتمامها بما ينطوي تحت القيم الإيجابية؛ لتترك لحقول المعرفة الأخرى أمرَ البناء، بناءً على نتائجها.

إذن؛ القضية ليست تجديداً أو تقليداً، بقدر ما هي دوائر فكرية منطقية ونفسية معيّنة، تفرض على أصحابها مناهج فكرية وسلوكية محددة، تتوافق مع طبيعة هذه الدوائر وتكوينها وآلية حركتها.
 


هوامش: 1. ينظر: الصنعاني، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد. ص: 28- 44. |  2. ينظر مثلاً: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل. ص: 4- 23.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها