الصّفة بين الفنّ واللاّفن

عبد الرحيم الشافعي


"ليس بإمكان أي معهد أو مدرسة أو جامعة أو معلم أن يصنع من الطالب فناناً، ولكن بإمكان جميع الذين خلقوا فنانين بالفطرة، أن يجعلوا الأطفال والمراهقين والشباب والشيوخ يحبون الفن، حيث الجمال، وينفرون من اللاّفن حيث العفن، وبين هذا وذلك، الصدق في الأداء – اختيار الموضوع بعناية، والأمانة في نقل الرسالة".

 

منذ العصور القديمة، يمثل الفن مادة خام للتغيير والتعبير، فهو وسيلة فعّالة ومؤثرة لقصف المشاعر والأفكار والأفعال، ويحتل مكانة مرموقة في الفلسفة والأدب والعلوم، ويلعب دوراً هاماً داخل المجتمعات، ومهماً في حياة الأفراد. وقد اشتهر تاريخ الفن بدراسة العمل الفني- خلال تطوره التاريخي، وسياقه الأسلوبي، واختلف فيه المتذوقون، والنقاد، والمؤرخون الأكاديميون، وهم ثلاثة أقسام في نظرية الفن والجمال، والموضوع الذي بين أيدينا يندرج ضمن نفس السياق؛ إذ يسلط الضوء على الفرق بين الفن وما ليس بفن، عن طريق أسئلة الأصل:
فما الفن؟ وبماذا يكون فناً؟ وكيف يظهر شكله داخل المجتمع؟ ومن أين يأتي العمل الفني بفنه؟ وكيف يميز الإنسان العادي الفن وما ليس بفن؟

يشير مفهوم الفن بالمعنى العام في المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، "بجملة من القواعد التي يحصل باتباعها تحقيق غاية، ومن ثم يكون الفن هو المقابل للعلم، حيث العلم نظري وغايته تحصيل الحقيقة، والفن عملي وغايته تحقيق الجمال، والعالم ملكته العقل والبرهان، أما الفنان فملكته الذوق والحس الفني". ويحمل هذا المفهوم في طياته مجموعة من المفاهيم في غاية الأهمية، فإذا كانت غاية الفن تحقيق الجمال، فما معنى الجمال؟ وما علاقته بالفن؟

اهتمت فلسفة الفن منذ بدايتها بتوضيح المعاني المقصودة في الفن، مثل التعبير، والشكل، والمعنى، والرمز، والصورة، والتجريد، والجميل، من ناحية فلسفية، حيث يشرح الفيلسوف متى يكون العمل الفني جميلاً، أما الناقد الفني فإنه يقضي بأن هذا العمل جميلاً أو قبيحاً، وهذه الخاصية التي يملكها الناقد، يتميز بها الجمهور أيضاً، فالجمال يشير إلى جاذبية الأشياء وقيمتها، وتحدث هذه العملية الشعورية بالجمال، وبقيمته حسب الشكل الذي ظهر به العمل الفني في المجتمع، ومن خلال هدف الفن، والذي غايته تحقيق المنفعة، فعندما تحصل المنفعة يتحقق الإعجاب، ويكون الفن جميلاً.

وجدت الفنون أساساً لنقرأها ونشاهدها ونسمعها جمالياً، وليست قيمة الفن الجميل في ما قصد به ولكن قيمته في ما يحققه من منفعة متبادلة، بين الفنان، والعمل الفني والجمهور، فمن أين يأتي العمل الفني بفنه؟

◅ التعليق الأول للفيلسوف مارتن هايدغر

كتاب" أصل العمل الفني" [ص: 58]

"إذا كان العمل الفني يثني على الفنان، فذلك يعني أن العمل الفني هو الذي يجعل الفنان يبرز بوصفه فناناً، الفنان هو أصل العمل الفني والعمل الفني هو أصل الفنان، لا وجود لأحدهما دون الآخر، الفنان والعمل الفني هما دائماً في ذاتهما وفي علاقتهما المتبادلة موجودان عن طريق ثالث هو الأول؛ أي ذلك الذي اتخذ منه الفنان والعمل الفني اسميهما وهو الفن."
 

تحليل

عادة يمر الفنان "صاحب الحس الفني" بانفعالات عميقة، تؤدي رغبته في التعبير عنها إلى إنتاج الموضوعات الفنية، وهذا أصل الفنان والعمل الفني، أما الثناء فعندما يحاول المجتمع تفسير عمل فني معين، يصفون ما حدث في الفنان أثناء إبداعه للعمل يعني السياق الأسلوبي، أو يشيرون إلى الإطار التاريخي، ولاجتماعي الذي رأى فيه العمل الفني النور، وهنا يصنع تاريخ الفن، وتبدأ دراسته؛ إذن لدينا الفن، والفنان، والعمل الفني، والمجتمع، ولكن كيف يميز الإنسان العادي الفن وما ليس بفن؟

◅ تعليق برنارد مايرز- كتاب الفنون التشكيلية [ص: 21].

الاستمتاع بالفنون وتذوقها عند الشخص العادي غير المطلع يكون غالباً محدداً بالاتجاه الذي يقيس أهمية عمل فني ما، بواسطة مدى الإثارة التي في حياة الفنان، ومهما يكون الأمر؛ فإنه ليس من اللازم أن يكون الاتجاه الابتدائي لعمل فني ما غامضاً أو معقداً، أو حتى بدون إثارتها في تاريخ حياته، فليس لدى كثير من الناس أية معرفة فنية مهما يكن نوعها، ولكنهم يستخلصون المتعة من أبسط صلة حسية بصورة ما أو بتمثال أو بناء أو بعمل آخر، وهذه الاستجابة الطبيعة يستمتع بها أشخاص كثيرون فيحتفظون في بيوتهم بلوحات مطبوعة ملونة، أو بنسخ من تماثيل، أو بأعمال فخرية. وقد يأتي الفهم بعد ذلك ليرفع من مستوى متعتهم الأصلية، عندما تضاف القيم الذهنية والرمزية وغيرها من القيم.

تحليل

إن الاتجاه الذي يقيس أهمية عمل فني معين، بالنسبة للشخص العادي غير المطلع، والذي لا ينتمي للفئة المثقفة، من فلاسفة، ونقاد ومنظرين، ومفكرين، هو الإحساس، ويعد أعظم ملكة لدى الجمهور، فهناك من يعلق على حائط بيته لوحة لموناليزا بدون أن يعرف من رسمها، ولكن اللوحة أثارت فيه شيئاً، جعلته يختار بينها وبين لوحات أخرى، والأمر سيان لموسيقى بيتهوفن أو باخ، أو مسرحية موليير أو شكسبير، قد لا يعرف صاحبها بالنسبة للشخص العادي، ولكن بما أنها حركت فيه نوعاً من الانفعال والعاطفة والإحساس، فالعمل الفني قد حقق وظيفة المنفعة للمجتمع، وما ليس بفن لا يمكن أن يثير شيئاً في عاطفة الجمهور، يبقى الأمر شبه مضيعة للوقت والجهد والطاقة، فيحدث النفور. إذن؛ فالقضية لا تتعلق بافتقار المجتمع للثقافة الفنية، بل الأمر له علاقة مباشرة بما يحققه العمل الفني في حياة الإنسان.

إذن؛ كخروج من هذه الدراسة المتعلقة بالإشكال القائم بين الفن وما ليس بفن سنجد أن هناك فلاسفةً، ونقاداً، ومنظرين، خاضوا في هذا الموضوع، وطرحوا آراءهم، سواء في فلسفة الفن -كهيجل- كانت- شوبنهاور- نيتشه، وفي الفن كـ"كلايف بيل". ويمكن القول إن النقاش في هذا الموضوع لا يمكن حصره في بضعة آراء؛ لأنه قابل للدراسة من زوايا مختلفة، وأنماط فكرية أخرى، وعليه فعلى العمل الفني أن يحقق المنفعة الحاصلة بين الفنان والمتلقي، المتمثلة في خلق حالة من الانفعال والعاطفة والإحساس فور مشاهدة العمل الفني، لماذا؛ لأن الحدس هو الإدراك المباشر للنشاط الفني وبدون تحقيق هذا وذاك يبقى ما ليس بفن هو المظنون أنه الفن. فما الذي يميز الفن عن اللافن؟

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها