من استخراج الملحِ إلـى تطريز الخَيط

معرض فم زكيد والاحتفاء بالفن المغربي الإفريقي

عمر أدتيان


 

يحتفي معرض "فم زكيد من الملح إلى الخيط" المقام حالياً بمتحف الروافد – دار الباشا بمدينة مراكش، بفن الطرز بالجنوب المغربي، حيث يعرض للجمهور الواسع نماذج فريدة من فن الطرز لنساء من الجنوب الشرقي للمغرب، خصوصاً منطقة فم زكيد بإقليم طاطا، والتي جمعها الباحث "لوسيان فيولا" الذي يستقر حالياً بمدينة مراكش. يظهر المعرض أسرار هذا الفن الذي أبدعته نساء قرويات من المنطقة نقلاً عن الجدات والأجداد، ويبرز حساً فنياً مرهفاً وعبقرية خاصة.





أجنحة وموضوعات المعرض

يتكون المعرض من أربع قاعات تحتوي الأولى والثانية على زي "القناع"، أما الثالثة فتحتوي على الحجاب الذي يسمى بالأمازيغية "تاكنبوشت" وعصابة الرأس. فيما عرضت قطعة فريدة لـ"كناع" في القاعة الرابعة، هذه القطعة شكلت مركز المنشور التعريفي للمعرض، وهذه القطع كلها تشكل مجتمعة لباساً للمرأة المحلية ترتديه في المناسبات المهمة خصوصاً الزواج، وتتكون المجموعة المعروضة من أربعين قطعة، يشكل القناع أهمها من حيث الحجم ومن حيث القيمة والبروز أثناء لبسه من طرف المرأة أو الفتاة. بالإضافة إلى هذه القاعات تم تخصيص قاعة خاصة لعرض فيديو من صور جميلة لأشكال أخرى من "الكناع" و"تاكنبوشت" على "Data show" مدته أربع دقائق، وتم تصويره من طرف لوسيان فيولا Lucien Viola أثناء تنقلاته إلى منطقة فم زكيد وباقي المناطق بالأطلس الصغير، وهي صور تعرض لأول مرة للجمهور.

تكمن أهمية المعرض في كونه يبرز لأول مرة جانباً غير معروف من تاريخ الطرز بالمغرب، والذي يتميز بخاصية تأثره بالروح الإفريقية سواء من حيث الألوان المستعملة أو الأشكال، كما نلمس فيه أيضاً تفرداً من حيث الاختيارات الفنية، إذ لأول مرة نصادف توظيف رسوم مستوحاة من جريد النخل، ومن الطيور المحلية كالبوم، وأيضاً من النباتات المنتشرة في المنطقة، الشيء الذي لم تألفه العين قط في الطرز في شمال المغرب بأزمور والرباط وتطوان المعروفة بالطرز منذ قرون. فإذا كانت الخلفية المستعملة في الطرز في شمال المغرب تكون دائماً بيضاء؛ فإنها في منطقة فم زكيد وفي المناطق الأخرى في الجنوب تكون على خلفية سوداء.

تأتي منطقة فم زكيد في موقع مهم للتجارة الصحراوية بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ منها تعبر القوافل إلى باقي المراكز التجارية كسجلماسة ومراكش، فهي كانت بوابة مهمة عرفت اختلاط مجموعات بشرية آتية من الصحراء بثقافتها وعاداتها، وامتزج فيها العنصر الأمازيغي على اختلاف ديانته اليهودية والإسلامية، ومكن هذا الانصهار من تطور فن الطرز المحلي، بخصوصيات تعكس هذا التنوع الثقافي. ولقد كاد هذا الفن أن ينقرض نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها المنطقة في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خصوصاً عامل الهجرة وتخلي نسبة مهمة من الساكنة عن المنتوج المحلي، وتفضيل المنتوجات الأجنبية المصنعة، غير أن مجهود الصنعة التقليدية أبقى على هذا الفن وأنقذه من الزوال، وذلك لأن المرأة حافظت على أصول وأسرار هذه الصنعة، ومررتها بدورها إلى مجموعة من الفتيات والنساء. غير أننا نلاحظ للأسف في السنوات الأخيرة تغيراً على مستوى الأشكال الموظفة من طرف النساء، إذ تنحوا إلى النمطية وغياب روح الإبداع، بفعل الانجرار وراء متطلبات السوق ورغبات المستهلكين خصوصاً السياح الأجانب الذين يمرون بالمنطقة في اتجاه الصحراء والمناطق الأخرى.

وعلى مدى عقود قام لوسيان فيولا بجمع هذه القطع الجميلة في المنطقة وعياً منه بقيمتها الجمالية، والتاريخية والأنثروبولوجية، وبفضل حسه الجمالي وتقديره للفن النسوي القروي، وبحكم عمله في ميدان المعارض الفنية، تمكن من تشكيل مجموعة مهمة من هذه القطع، إلى جانب قطع أخرى من مناطق الأطلس الصغير سيتم عرضها في إطار معرض أو معارض أخرى، وذلك لتقريبها من المهتمين بتاريخ النسيج المغربي، وأيضاً من الطلبة والباحثين وعموم الزوار، على اختلاف مشاربهم وتكويناتهم وخلفياتهم.

"الكناع" معلم أساسي من معالم الطرز بالأطلس الصغير

يعتبر "الكناع" أهم القطع في المعرض بحكم حجمه الذي يتجاوز المترين في الطول، والمتر في العرض، ولعل قيمته الحقيقية تكمن في غناه من حيث الأشكال المتنوعة التي تؤثثه، والألوان المتميزة والفريدة التي تستعملها النساء في طرز هذا النوع من النسيج، فالأشكال المهيمنة مستوحاة من الغطاء النباتي المحلي، ومن الطيور المنتشرة في المنطقة، تكون مصحوبة أحياناً بأشكال لقلوب صغيرة في وضعيات مختلفة، ويتميز الجزء الرئيس من هذه القطع بزخارف مرسومة بطرق بديعة إذ غالباً ما تعتمد النساء تصميماً رئيساً مبنياً على زخرفة تماثلية بسيطة أو تصميماً أكثر تعقيداً مع أشكال مقلوبة أحياناً عند وضعها فوق الرأس. ويتميز طرز "الكناع" بسماكته مما يعطي بعداً ثالثاً للأشكال حين رؤيتها. وقد قسم "الكناع" في المعرض إلى مجموعتين الأولى ترمز إلى النساء عددها خمس قطع معروضة في القاعة الأولى، والثانية وعددها سبع قطع ترمز إلى النباتات وتوجد في القاعة الثانية، يغلب اللون البرتقالي واللون الأحمر على كل القطع المعروضة، وهو ما يميز طرز منطقة الأطلس الصغير عن غيره من الطرز في شمال المغرب، وتضاف إلى هذه الألوان الرئيسة ألوان أخرى كالأخضر والأزرق، يوظف كعلامات تمكن من التمييز بين المناطق، إذ لكل منطقة لون يميزها عن المنطقة الأخرى، حتى إذا التقت النسوة في الأسواق أو المناسبات يعرفن عشيرتهن من خلال هذه الألوان، هذه الأخيرة يتم وضعها في أماكن معينة لدرء العين والحسد حسب الاعتقاد المحلي، كما يتميز "كناع" الشابات عن "كناع" المتزوجات، فالأول لا يحتوي على الشراريب والكريات، وذلك تسهيلاً للتمييز بين المتزوجات وغير المتزوجات، الشيء الذي ييسر على الشباب مسألة التحاور مع الفتيات حين رغبتهم في التعارف والزواج، خصوصاً وأن مناسبات الأعراس هي الفرصة المهمة للحديث بينهم بكل حرية دون قيود من المجتمع المحلي المحافظ.

تستغرق عملية الطرز أسابيع أو شهوراً حسب تفرغ الطرازة ومزاجها وتمر بمراحل، إذ بعد شراء الثوب الأسود الاصطناعي، يتم إعادة صبغه باللون الأسود كي يتقوى اللون ويعطي نصاعته المرجوة، ويتم بعدها إضافة جزء آخر للثوب المراد طرزه حتى يكون له العرض المراد، ذلك أن عرض الأثواب المتوفرة في السوق تكون عادة أقل من متر، لذا يتم خيط طرف آخر للحصول على المقاس المناسب لـ"كناع".

تقوم النساء بتهيئة الألوان بخلط المواد الطبيعية المحلية، إذ لكل لون خلطة خاصة تعرفها النساء، يتم تهيئة الخيوط المراد توظيفها بنقعها في المحلول الملون لأيام كي تأخذ اللون المراد، وتنشف بعدها لأيام، بعد الحصول على كافة الألوان المنشودة يتم البدء في عملية الطرز، إذ تبدع النساء في الأشكال ويوظفن الألوان وفقاً لمخيال كل واحدة منهن وبراعتها في تحريك الإبرة وتجربتها في الحياة.

أما بالنسبة لـ"تاكنبوشت" أي القطعة التي تغطي الرأس فتتميز بكونها لا تخضع للتطريز غير أنها ملازمة لـ"لكناع" بحيث تكون تحته وتغطي الرأس، وتتميز بكونها تصنع في نول عمودي صغير معد لهذا الغرض، يتم نسجها من الصوف والقطن، وصباغتها باللون البرتقالي المستمد من مادة الحناء، وكذا اللون الأحمر المستمد من مادة الفوة الطبيعية، وتتم عملية الصباغة بتقنية التاي داي (Tie-dye) كما هو الحال في مناطق متعددة من إفريقيا جنوب الصحراء، هذه التقنية ترتكز على تشكيل عقدة يتم نقعها في الصباغة المرجوة فتعطي شكلاً ملوناً غير متوقع، بالإضافة إلى ما سبق يتم تزيينها بشريط عمودي من القطن الأبيض، وكذا بأهداب وكريات في الأطراف. يتم تزيين الجزء المصبوغ باللون الأحمر لـ"تاكنبوشت" بثلاثة رسوم على شكل مثلث، اثنان في الجزء العلوي والثالث في الجزء السفلي فوق الشريط العمودي، وعندما تلبس العروس هذا اللباس تظهر الأشكال مباشرة فوق جبينها، والراجح أن ذلك على الأرجح لدرء الحسد.

القطعة الثالثة في المعرض هي "العصابة"، والتي تشد "تاكنبوشت" وتثبتها فوق الرأس، منسوجة من الصوف والقطن يتم طيها عادة ثلاث مرات لتثبيت غطاء الرأس "تاكنبوشت" في مكانها، كما يمكن طيها بطرق مختلفة أو وضعها رفقة "تاكنبوشت" أو بدونها، إذ تستعمل النساء نفس طريقة صباغة "تاكنبوشت" في صباغة العصابة مع إمكانية إضافة ألوان أخرى، وتنسج النسوة أشكالاً زخرفية صغيرة من القطن على أجزاء مختلفة من العصابة ويضفنَ أهداباً وكرياتٍ صغيرةً من الصوف في الأطراف.


هذا المعرض إذن هو فرصة لزائري متحف الروافد – دار الباشا، لاكتشاف عبقرية نساء فم زكيد، سواء الطرازات المزينات أو النساجات، من خلال أعمال فريدة جمعت في فضاء العروض المؤقتة، في سينوغرافيا خاصة تمكن من التعرف على أدق تفاصيل إبداع هذه القطع. العرض هو دعوة للانغماس في الإبداع النسوي والتمتع بالألوان والأشكال الفريدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها