من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة!

نحو إبدال تعبيري جديد

إيمان الصغير

لعل هيمنة الصورة على العصر الذي نعيش فيه، جعلت الإنسان منشغلاً بصناعتها لتكون وسيلة التعبير الأولى في كل المنابر الثقافية والإعلامية والاقتصادية وغيرها من المجالات، التي أصبحت تعتني بالخطاب البصري كبديل جديد في بناء المعرفة وتشكيل الدلالات. فقد أضحى العالم باختصار عبارة عن صورة نجدها في كل مكان، فهي تحضر على شاشات التلفاز والحاسوب والهاتف ونجدها في الكتب والصحف وفي البيت والشارع، ليتحول بذلك العصر الراهن إلى عصر الصورة بامتياز.

ومما لا شك فيه أن الصورة بدأت تُحقق غزوها للعالم مع ظهور الثورة التكنولوجية التي غيرت جذرياً نمط الحياة، وألغت حدود الزمان والمكان حينما قربت مسافات التواصل بين الناس، كما جعلت التفكير الإنساني تفكيراً بصرياً محضاً قائماً على الإدراك بالصوت والصورة التي لم تعد حسب سعيد بنكراد "عنصراً غريباً عن محيط الناس ومعيشهم اليومي. فنحن الآن ننتمي أكثر من أي وقت مضى إلى زمن التمثيل البصري بكل أشكاله"1.

ولأن الصورة في جوهرها أبلغ من الكلام في تمرير الدلالات إلى ذهن المتلقي، تبقى شكلاً من أشكال التعبير الذي يخاطب العين قبل العقل، فعوض أن يقرأ المتلقي ملفوظات كلامية، ويباشر عملية ترجمتها إلى صور في ذهنه، أضحى قادراً على أن يتلقى الصور جاهزة بكل ما تحمله من معانٍ ودلالاتٍ تتوارى وراء سكونيتها، وهذا ما يجعلنا نلاحظ تراجع دور اللغة مقابل تقدم الصورة التي تمارس سلطة بالغة التأثير على العقول، فقبل بروز الصورة، كان النص يحتكر إنتاج الدلالة، وكان المتلقي يقرأ السطور وما وراءها ليستشف المعنى، أما الآن فقد تم تجاوز النص إلى الصورة التي أصبحت تنافسه عبر تأثيراتها البصرية في إنتاج الدلالات، بل تحولت إلى نص بصيغة جديدة يتطلب من قارئه إجراء "عملية انتقاء مزدوجة: انتقاء العناصر التي يجب أن تظهر وانتقاء العناصر التي يجب أن تختفي؛ أي انتقاء ما يسهم في تكوين النص، وانتقاء ما يحضر في نص الصورة من خلال غيابه"2.
 

هكذا يجيبنا سعيد بنكراد عن كيفية تحول الصورة إلى نص يتأرجح بين جدلية الخفاء والتجلي، فهناك عناصر جلية تعطي للمتلقي معناها وأخرى خفية تدعوه إلى البحث عما تواريه، فتبليغ المعنى بواسطة الصورة يختلف عن النص، بحيث إن الصورة أحياناً لا تنطق بكل شيء من الوهلة الأولى، لذلك تضعنا أمام مستويين من القراءة والتأويل، المستوى الأول؛ مباشر وهو ما تظهره العناصر الجلية فيها، والثاني؛ إيحائي رمزي وهذا ما تخفيه باقي العناصر، بحيث تصبح الدلالة، تبعاً لذلك "سيرورة لإنتاج المعنى من خلال تحويله من طابعه المادي إلى أشكال مضمونية تدرك ضمن السياقات المتنوعة"3. وللوصول إلى كنه هذه الدلالة لا بد من تفكيك عناصر الصورة وأيقوناتها ومستوياتها الدلالية والتركيبية اللغوية والتمثيلية الرمزية، قصد استقصاء أبعادها وحمولاتها الفكرية المضمرة.

 لن نبالغ في القول إذا قلنا إننا صرنا إزاء مرحلة جديدة ومغايرة، انتقلنا فيها من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة، الشيء الذي يطرح إشكالاً كبيراً حول مصير هويتنا الثقافية في ظل ريادة الصورة ومحاصرتها للتفكير الإنساني، حيث تحوّلت من مجرد صورة إلى نمط جديد يعتمده الجميع في الحياة، فهي حسب عبد الله الغذامي "ثقافة وفكر وإنتاج اقتصادي وتكنولوجي"4.

ومما أسهم في بزوغ ثقافة الصورة؛ الإعلام الذي اتخذ منها الوسيلة الأولى والأساس لجذب المتلقي، وجعلها سلطة رمزية مؤثرة في كل المجتمعات والشعوب، إلا أن اتخاذ الصورة بهذا المفهوم وتوجيهها أحياناً لتكون مؤثرة سلباً، دفع بها للانحراف عن وظيفتها المتمثلة في كشف الحقيقة، ما دامت الصورة تعبيراً وتجسيداً لكل ما هو حقيقي وواقعي، فقبل هيمنة الفكر العولمي والتكنولوجي على العالم، كان للصورة مفهومها الخاص، وكان للمصور مصداقيته، حينما كان يوجه عدسته للالتقاط صورة تعكس الواقع دون تزييف، وتعكس أحياناً كل ما هو جميل ومبهج، وكان الهدف هو التأثير إيجابياً على الإنسان. أما الآن فإن الإعلام الراهن، يكرس الصورة لخدمة مصالح من يقفون وراء ستارها، فيجعلون منها أداة للتمويه والتزييف والتضليل وتوجيه الرأي العام نحو الخضوع والإذعان لكل ما تقدمه له وسائل الإعلام عبر الصورة.

لا يمكن الحديث عن الإعلام في ظل هذا السياق التكنولوجي الذي يشهده عصر ما بعد الحداثة، دون الحديث عما يسمى بالعالم الافتراضي، الذي أصبحنا نعيش بين عوالمه الملونة كالفيسبوك والإنستغرام والواتساب واليوتيوب... وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، التي احتفت بالصورة على حساب الكلمة، وخلقت لنا إنساناً لا يستطيع التعبير إلا بالصور، ففي المناسبات والأعياد نتواصل بالصور، ونهنئ بعضنا ونرسل التبريكات في صمت عبر صورة وكأننا فقدنا القدرة على الكلام، وفقدنا معها لذة الاحتفاء بصلة الأحباب والأقارب، صحيح أن هذه الوسائل قربت المسافات لكنها باعدت بين القلوب. لقد خلقت لنا هذه المواقع عالماً بعيداً عن الحقيقة، تطغى عليه التفاهة والنفاق الاجتماعي وادعاء السعادة والتلبس بالمثالية، كما فقدنا معه قدسية الخصوصية الاجتماعية مع من يشاركوننا صوراً من حياتهم اليومية بتفصيل دقيق يشمل الدخول والخروج والأكل والتنزه والتسوق وغيرها من النشاطات التي تدخل ضمن الروتين اليومي للأفراد، وكل ذلك إنما يتم عبر الصورة، التي انحرفت كما سلف الذكر عن وظيفتها الأساس ليتم الاشتغال بها ضمن وظائف أخرى سلبتها مصداقيتها.

وموازاة مع ذلك نجد العديد من المؤسسات الاقتصادية التي حرفت بدورها وظيفة الصورة لتكون وجهاً آخر للتسويق والربح باعتماد الإغراء والتمويه لجذب المستهلكين، بل إن البيع والشراء أصبح يتم عن طريق تسويق المنتج من خلال صورة إشهارية صممت ببريق خاص يغري المستهلك لاقتنائه، فترويج البضاعة متوقف على "تحفيز شهوة الزبناء (للاستهلاك) بل لقد سعت الرأسمالية في مراحلها الأخيرة وعبر كل أشكال الإغراء إلى خلق حاجات وهمية للإنسان"5. هكذا هي الصورة الإشهارية لا تخرج عن إطار الربح بكل الطرق سواء المشروعة باعتماد النزاهة والأمانة في تسويق المنتجات أو غير المشروعة باتباع التزييف والتمويه وتقديم الأحلام الواهمة.

إن الصورة عموماً، رغم انحرافها عن المسار الذي كانت عليه قبل الثورة التي أحدثتها التكنولوجيا، لا بد منها؛ فضرورة التطور الزمني تفرض علينا أن نمسك بها من الجانب الإيجابي، وأن نؤمن بأن لكل عصر خصوصياته، وخصوصية عصرنا الراهن هي الصورة، لذلك فإن انتقالنا من ثقافة الكلمة إلى ثقافة الصورة لا ينبغي أن يخلق لنا قطيعة مع النص الذي هو الأصل، بل يجب أن نسعى لخلق تكامل بين الصورة والكلمة، والبحث أكثر في آليات استهلاك هذا الإبدال التعبيري الجديد.


هوامش: 1. سعيد بنكراد: مقدمة كتاب "تجليات الصورة: سيميائيات الأنساق البصرية"، المركز الثقافي العربي، موقع سعيد بنكراد.  /  2. سعيد بنكراد: الإرسالية الإشهارية: التوليد والتأويل، مجلة علامات، العدد 5، 1996، نقلاً من موقع سعيد بنكراد.  /  3. سعيد بنكراد: مفاهيم في السيميائيات، موقع سعيد بنكراد.  /  4. عبد الله الغذامي: الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي، المركز الثقافي العربي، المغرب الطبعة الأولى 2008، ص: 21.  /  5. محمـد الولي: بلاغة الإشهار، مجلة علامات، العدد 18 سنة 1998، ص: 65.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها