الإيجاز.. تعبيرٌ مقبول!

محمد عفيفي.. والقدرة على التلاعب بالألفاظ

طايع الديب


لو أنصف نقاد الأدب، لوضعوا الكاتب الراحل محمد عفيفي (1922- 1981)، وروايته البديعة "التفاحة والجمجمة"، في عداد عيون أدب السخرية العالمي. لكن عفيفي لم يأخذ حقه من الشهرة والتقدير، بل كان مصيره النسيان، وهو القائل عن نفسه: أنا لست متواضعاً، فالتواضع هو شيمة الكبار فقط!



كان عفيفي عضواً في شلة "الحرافيش" التي أسسها نجيب محفوظ، وهو صاحب أول عمود ساخر في الصحافة العربية، كان يُنشر في جريدة "الأخبار" خلال الخمسينيات القرن الماضي تحت عنوان: "للكبار فقط"، ويعتمد على العبارات القصيرة التلغرافية، اللاذعة، التي كان يكشف من خلالها عن المفارقات الاجتماعية "المسكوت عنها" في عصره، بشكل تهكمي، وفي حدود المسموح به من نقد علني آنذاك.

غير أن هذا العنوان المثير، "للكبار فقط"، لم يمنعه من تبني فكرة إصدار النسخة العربية من مجلة "ميكي" الأمريكية للأطفال، التي صنعت وعي أجيال من الصغار. وتولى عفيفي بنفسه ترجمة المجلة بأسلوبه السلس البسيط، منذ صدورها لأول مرة عام 1959 عن مؤسسة "دار الهلال" بترخيص من شركة "والت ديزني"، وحتى مطلع الثمانينيات.
 

 فيلسوف بارد العقل

بدأ عفيفي عمله بالصحافة في مجلة "آخر ساعة" منتصف الأربعينيات، وكان مؤسس وصاحب المجلة، الكاتب الصحافي محمد التابعي، يكلفه بكتابة تقارير إخبارية ميدانية عن الأحداث الجارية، ثم عمل في عدد من الصحف والمجلات، ثم انتقل بعد ذلك إلى صحيفة "أخبار اليوم"، بعد أن اشترى الأخوان مصطفى وعلي أمين، المجلة من التابعي.

وأصدر عدداً قليلاً من الكتب، منها "للكبار فقط"، "ابتسم من فضلك"، "ابتسم للدنيا"، "سكة سفر"، "ضحكات عابسة"، "ضحكات صارخة". وتحولت بعض قصصه ورواياته إلى أفلام سينمائية، ومن بينها: "بنت اسمها مرمر"، و"التفاحة والجمجمة"، التي صدرت في طبعة فاخرة عن إحدى كبريات دور النشر بالقاهرة عام 2019، والتي تُعد تحفته الأدبية بامتياز.

تحكي هذه الرواية ذات الطابع الكوميدي عن غرق سفينة في عرض البحر، ونجاة بضعة أشخاص فقط: مهندس وممثلة ومقاول ومساعده وشاب آخر، تقذفهم الأمواج واحداً تلو الآخر إلى جزيرة صغيرة، ينبت فيها شجر التفاح فقط. وتتطور الأحداث بفعل محاولة الرجال الأربعة الاستحواذ على قلب الممثلة، المرأة الوحيدة على الجزيرة، ويتحول المهندس "أحمد" شيئاً فشيئاً بفعل هذا الصراع الطريف، من مثقف مسالم يُدلي بتأملات فلسفية حول الكون، إلى شخص همجي باطش يتحدث بمنطق "العصا لمن عصى"!

ويقول نجيب محفوظ في مذكراته التي سجلها رجاء النقاش: "لقد نهل محمد عفيفي من بحر الثقافة، بعمق وشمول، وقام في (سبيل) ذلك برحلة طويلة، بدءاً من التراث وحتى أحدث ما تموج به من تيارات فكرية وفنية واجتماعية، ومع هذا فقد عُرف بـ"الكاتب الساخر"، فمنذ زمن مبكر جدًا اكتشف عبثية الوجود والمجتمع، وتابعهما بعين متفتحة في الطبيعة والعلاقات الاجتماعية والتقاليد البشرية والحياة اليومية".

يضيف محفوظ: "كانت السخرية محور حياة عفيفي، ينبض بها قلبه، ويفكر بها عقله، وتتحرك بها إرادته، فهي ليست بالثوب الذي يرتديه عندما يمسك القلم، وينزعه إذا خاض الحياة، ولكنها جلده ولحمه ودمه وأسلوبه عند الجد والهزل".

وعفيفي، بهذا المعنى، هو "الأب الروحي" الحقيقي لجيل كامل من الكُتّاب الجدد ظهر في مصر خلال السنوات الأخيرة، مع تفاوت المواهب والقامات، من بلال فضل، إلى عمر طاهر، وحتى أحمد خالد توفيق. هؤلاء جميعاً تأثروا بـ"عفيفي"، أو انتحلوه بشكل ما، مرة واحدة على الأقل، فمنهم من تلبّس روحه، وتقمّصه، ومنهم من أجرى عمليات "تمصير" لكتاباته الساخرة ذات الطابع الأوروبي رفيع الثقافة، بل إن منهم من "اقتبس" منه جهاراً نهاراً، وسرقه "عيني عينك"، وكأن كتاباته وكالة من غير بواب.

وصلت هذه الظاهرة الغريبة إلى حد أن كاتباً مشهوراً، كان أحد نجوم الصحافة المصرية حتى عهد قريب، استحل تراث عفيفي في أكثر من موضع من كتاب "النكتة السياسية: كيف يسخر المصريون من حكامهم"، الذي طُبع في القاهرة وبيروت عشرات الطبعات.

قال الصحافي "ع. ح": "وقلت مرة أخرى في برنامج (تليفزيوني) آخر: لا أتصور أن أمامي فرصة لأصبح مليونيراً، فمن الصعب على رجل تجاوز الأربعين مثلي أن يبدأ في تعلّم السرقة".

والواقع أن الجملة هي "استعارة" غير مكنية، غير متبوعة باسم أو كُنية صاحبها الأصلي، بل هي -بشيء من التصرف- عبارة قالها عفيفي، نصاً: "يبدو أنني سأعيش وأموت فقيراً، فمن الصعب على رجل في الخمسين مثلي أن يشرع في تعلّم السرقة"!

ولم يسلم عفيفي من كبار الكُتّاب، وصغارهم أيضاً، وكان الكاتب الصحافي المشهور "أ. م"، الذي ترأس تحرير العديد من الصحف، وكان مُقرباً من الرئيس الراحل أنور السادات، هو أحد الذين استحلوا تركة الرجل من العبارات القصيرة البارعة، خاصة في مجال السخرية من الزواج والمتزوجين، وهذه هي بعض العبارات التي نقلها الكاتب بنصها، أو تصرف فيها، ونشرها في "أهرام الجمعة" على مدار سنوات طويلة:

✦ الفرق بين الحب الفاشل والحب الناجح، أن الأول يؤلمك شهراً، في حين الثاني يؤلمك مدى الحياة.

لا تحزن إذا فاتك قطار الزواج، فلئن يفوتك خير من أن يدهسك.

سر متاعبنا لا يكمن في أن الأشياء غير موجودة، بقدر ما يكمن في أنها موجودة في مكان آخر.

سيظل الناس يتزوجون إلى الأبد، ما دام الرجل يتوهم أن حظه سيكون أحسن من حظ الآخرين.

 "مأساة" الكاتب الفكاهي

يقول الأديب الراحل خيري شلبي، في أحد كتبه، عن عفيفي: "كنت ترى الحرفوش في وجهه، شكله، ثيابه حتى وإن كانت مستوردة من بيوت الأزياء العالمية تكتسب على جسده "حرفشة" أنيقة أناقة خاصة، في ربطة العنق، في السترة المحكمة على كتفيه، في القمصان النصف كُم، واقترابها من شكل الجلباب البلدي، في طريقة تدخينه، في التعامل مع الأشياء، ومع الحياة كلها ببساطة آسرة، بساطة فيلسوف هادئ الأعصاب بارد العقل سخن القلب محتدم المشاعر، تتطاير من حول برجه المفارقات الفلسفية النابعة من خضم بحر الحياة الواقعة من حوله، فيمد أصابعه الطويلة فيلتقط منها أشدها لمعانًا وأعمقها دلالة ليسلكها في سياق فكري لمقال شهيّ، أو في حبكة درامية لقصة، أو رواية شائقة طافحة بسحر الفن. ورغم ذلك؛ فإن عفيفي هو الكاتب الذي نسيه القوم، وغدرت به ذاكرة التقدير، كأن لم يكن".

لماذا لم يشتهر عفيفي إذن، في حين أن بعض تلاميذه الساخرين الجدد من قامات أقصر بكثير، طبقت شهرتهم الآفاق في أيامنا المعاصرة، ومنهم من تطبع كتبه عشرات الطبعات؟

الحقيقة أن عفيفي كان يكتب سخرية مثقفة على شاكلة الكُتّاب الأوروبيين العظام، النادرين في تاريخ الأدب الغربي، أمثال جوناثان سويفت، وبيير دانينوس، وماري ستندال. تلك السخرية التي يُنظر إليها باعتبارها "قفزات عقل محض"، والتي تحتاج إلى ثقافة واسعة من أجل فهمها، وليس على طريقة مارك توين الفكاهية الضحلة.

كانت هذه هي - بالضبط- مشكلة عفيفي، في حياته ومماته، أنه كان كاتباً لامع العقل وحاد اللسان، ومثقفاً أكثر من اللازم، في واقع معادٍ للثقافة، لذلك اختار الرجل أن يعيش حياة منعزلة، وأن يقضي معظم وقته في حديقة منزله الصغيرة "تحت ظل تمارا"، وهو اسم أحد كتبه، واسم الشجرة التي كان يفضل الجلوس تحتها في الحديقة، متأملاً الحياة والعالم من مسافة كافية.

ويعتقد بعض الناس أن كتابات محمد عفيفي هي مجرد "نكت" قصيرة لاذعة، لكن الحقيقة أن ما كتبه الرجل سواءً في الصحف أو في الكتب أعمق من ذلك بكثير، فقد اخترع تقنية الكتابة بالعبارات القصيرة الساخرة، التي تنتقد ظاهرة ما في المجتمع. ومن ذلك قوله عن الشخص الفاسد مثلاً: لا يزعجني أن أرى رجلاً دخله أكبر من دخلي، بقدر ما يزعجني أن أرى رجلاً دخله أكبر من دخله.

وكانت مشكلة عفيفي، في المحيط الشعبي العام، أنه رجل تشبّع بتراث السخرية الأوروبية الرفيعة، وكان يجنح إلى طريقة السفسطائيين القدامى أساتذة اللعب بالمعاني والألفاظ، وهو ما جعل كتاباته بعيدة عن متناول عامة القرّاء، بل لا بد من قارئ متمرس لسبر أغوارها البعيدة، وفهم إحالاتها الثقافية المخفيّة بين السطور.

كان الرجل، بمعنى ما، "الوجه المثقف" للكتابة المصرية العربية الساخرة، التي كان وجهها الآخر هو أحد تلاميذه المشاهير، الكاتب الراحل محمود السعدني، الذي كانت سخريته مزيجاً من الفكاهات الشعبية والقفشات والتلفيقات الذكية، لذلك حقق السعدني شهرة أكبر منه في نهاية المطاف.

أمّا عفيفي، فكان أقرب إلى "الصنايعي" الماهر، ذلك الساخر الساحر، أو إلى الفيلسوف الذي تعلم استقصاء مفارقات الحياة بعقل بارد من داخل متاهة عزلته. ولذلك، كانت سخريته قاسية، لمّاحة، مفارقة للمألوف.

والمثير للدهشة أن كاتباً آخر هو أحمد رجب، أحد تلامذة عفيفي في "أخبار اليوم"، حقق شهرة كبيرة فيما بعد من خلال زاويته "نص كلمة"، التي انتهج في كتابتها نفس أسلوب أستاذه، بينما ظل الأستاذ -للمفارقة- شبه مجهول للناس.

أخيراً؛ يرى بعض المعلقين الثقافيين أن عفيفي هو الذي اخترع "التغريدات" القصيرة، قبل ظهور موقع "تويتر" بنحو نصف قرن، فقد ابتكر الرجل هذا النوع من الكتابة على غير مثال. ولهذا السبب، تتناسب عباراته الساخرة مع منشورات وسائل التواصل الإلكتروني في عصرنا، الأمر الذي جعل تراث الكاتب عرضة للانتحال والاقتباس، دون ذكر اسم صاحبه.

والطريف أن هناك مئات التغريدات المنشورة على تويتر حالياً، هي -في الأصل- كتابات لـعفيفي، ومن بينها ما كتبه صحافي عربي معروف على صفحته الشخصية، مؤخراً، حين قال: أنا متصالح مع عيوبي، لدرجة أننا نتبادل الزيارات أحياناً!

هذا غيض من فيض عن الكاتب الكبير محمد عفيفي، الذي عاش متعففاً، ومات فقيراً، فلم يلق التكريم الذي يستحقه، ولم يعترض أحد على سرقته، حياً وميتاً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها