الأمثال الشعبية في مصر.. بين الماضي والحاضر

د. محمد إمام صالح



تُعدّ الأمثال الشعبية جزءاً من ذاكرة الشعوب تدل على عادات وتقاليد المجتمع بما تراه الجماعة الشعبية، باختلاف طبقاتها، ناقلة للخبرات عبر الأجيال، وتمتاز بالكثافة والإيجاز، وقد لا يُعرف سبب ضرب بعضها ومن صاحبه، وفي أحيان أخرى كثيرة يكون للأمثال قصة معروفة ترتبط به كنوع من الحكايات التي يُستخلص منها الحكمة.


يمكن أن تشير الأمثال إلى عدة دلالات في آن واحد، وربما يمكن تفسيرها بشكل متناقض، مثل: "العين ما تعلاش على الحاجب"، فيمكن فهم أنه يدعو إلى احترام الآخر وتوقيره، فهو بمثابة العين، والتي من أهم أعضاء الجسد، ويتشبه الناس بها فيُقال "أنت عيني"، أما الجانب الآخر له فهو بمثابة التحقير والتذلل، فلا يمكن للعين أن تعلو فوق الحاجب "سيدها".

استخدم المصريون القدماء الأمثال، وحدث خلط كبير بين أدب الحكمة والأمثال، ربما لأن المثل في حد ذاته حكمة، ولكن الفرق بينهما قليل، وإن كان يرى "باتسكومب جن" أن الأمثال ربما تُسبق ببعض العبارات الافتتاحية مثل "تلك الجملة التي تترد على لسان العظماء"، أو "لما يُقال"، أو تكرار العبارة أكثر من مرة في النص الواحد ضمن سياق يظهر أنه مثل.

ومن الأمثال المصرية القديمة عند "جن" ما جاء في لوحة الملك منتوحتب "إن أثر الرجل فضيلته أما الشرير فمآله النسيان"، والذي يشير إلى ضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة لتظل ذكراه كالأثر، فيقول المثل: "اِللِّي فِيهْ مَا يْخَلِّيهْ"؛ أي أن ما بالمرء من خُلق لا يتركه فمن شب على شيء شاب عليه، وفي الجزائر يقولون: "الخير دره وأهداه واتركه من ورائك فسوف تلقاه أمامك"، ويعني أن ما تفعله من خير ستُجازى به في الدنيا أو الآخرة. وأما الشرير فالناس تكرهه وتكره ما يتعلق به حتى وإن كان حسناً، فالمثل يقول: "يغور الشهد من وش القرد" دلالة على سيء الخُلق، وعند موته مُستراح منه ويكون في طي النسيان.

اعترض موظف يُدعى "جحوتي نخت" قروياً فصيحاً في الطريق وسرق حميره وبضاعته، عَلَا صوت الفلاح بالشكوى وقال: أنا في ضيعة مدير البيت رنزى بن مرو، أأسرق في ضيعته؟ ليرد جحوتي "هل هذا هو المثل الذي على ألسنة الناس، إن اسم الرجل الفقير لا يُنطق به إلا إكراماً لسيده... ثم ضرب الفلاح"، يبدو من المثل الذي ساقه جحوتي أن الفقير بلا شأن ولا ذكر له، بل هو تابع للغنى الذي يتفضل عليه حتى بنطق اسمه، وعلى الرغم من أن نهاية القصة إنصاف الفلاح الفصيح ونقل أملاك جحوتي له كعقاب للجاني، إلا أن الأمثلة المعاصرة بها من الإشارات التي يمكن إسقاطها على المثل من مصر القديمة، فنجد مثل يقول: "الفقير صيفة الغنى"؛ أي أنه مادته التي يغتنى منها، فيخرج الفقراء إلى المزارع والحقول للجمع. وهناك مثل آخر يقول: "ربنا ما ساوانا إلا بالموت"، هو من الأمثلة المطاطة والذي يمكن فهمه على عدة مستويات مثل الأخلاق والعلم والعمل، وحتى في الحقوق والواجبات، فربما يعتقد البعض أن ما يحق للغني لا يحق للفقير حتى على مستوى التعاملات الإنسانية، مثلما فعل جحوتي نخت مع الفلاح الفصيح.

عقب انتصار المصريين القدماء على الهكسوس وطردهم لهم في عصر الأسرة الثامنة عشرة، العصر الذهبي للإمبراطورية التي عاش ملوكها في الفترة 1550-1295، ارتفعت نغمة التمجيد والزهو، فجاء في بردية بترو جراد رقم 1116، وفي مقبرة القائد أحمس بن أبانا مثال يقول: "لن يذوى اسم رجل (معروف) من فعله"، فالأفعال الميراث الحي للرجال، فإلى اليوم يُخلد التاريخ أفعال العظماء، ويمتد هذا إلى المثال القائل "مَا رِيتِ الْمَعْرُوفْ يِنَقَّصْ صَاحْبُهْ إِلَّا يْزِيدُهْ عَلَى الْكَمَالْ كَمَالْ"، كلمة "ريت" بالعامية المصرية من الفعل رأى، فالأفعال الخيرة تزيد صاحبها كمالاً.

حثّت التعاليم المصرية القديمة على العمل والتخطيط لغد؛ لتبقى الأعمال بدوام السنين، فأطلق الملوك على بعض معابدهم اسم "معبد ملايين السنين"، على الرغم من يقينهم أنهم ميتون، فقالوا في أمثالهم: "ما من أحد يعرف نصيبه وهو يخطط للغد"، وجاء أيضاً بصيغة "لا يدري المرء بالمصير وهو يفكر في الغد"، ويتشابه هذا مع المثال العامي: "نصيبك هيصيبك"، وأيضاً "محدش عارف بكرة فيه إيه"، وجاء في الحديث الشريف "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". وربما يحمل أيضاً وجهاً آخر يدعو إلى المرونة، فالجهل بالمصير أثناء التخطيط للمستقبل يجعل المرء لا يدري ما قد يطرأ من مستجدات، وتظهر حكمة الأجداد في قبول المتغيرات وتعديل الخطط. ولكن يتناقض هذا المثال مع حكمة أخرى من عصر الدولة الوسطى يقول: "لا ترتب للغد وهو لم يأت بعد، فلا يعرف المرء ما سيجيء فيه"، حقيقة إن الكثير من الأمثال تحمل تناقضات، ربما لاختلاف ظروف مضاربها، مثل: "كل تأخيره وفيها خيره"، و"لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، ولكن ربما كان المقصود بهذه المقولة "لا ترتب للغد...". الترتيب المعتمد على القلق والفزع تقديراً لبلاء، ويؤيد هذا مقولة تؤرخ بعصر الدولة الوسطى إلى عدم الإفراط في القلق من الغد: "لا تقلق على ما لم يحل بك ولا تفزع مما لم يتحقق"، فإذا اعتبرنا الأمر من هذا السياق فلا يوجد تضاد، وإذا أسقطناه على سياق آخر كان هناك تضاد، وهو كما قُلنا ليس بغريب في عالم الأمثال الشعبية.

تعاليم بتاح حتب من أشهر نصوص أدب الحكمة في مصر القديمة، وبعد أن بلغ به العمر عتياً وقرر أن يتقاعد، استأذن الملك في نقل خبراته وتجاربه إلى ابنه الذي سيحل محله في وظيفته، فأوصاه في شتى مجالات الحياة، ومن ضمن ما قاله والذي اعتبره "جن" من الأمثال: "لا يعلم المرء بما في القلب"، محذراً إياه من سرائر القلوب، فكم من كاره يظهر المودة، ويعادل ذلك المثل القائل: "عِينِ الْحَبِيبْ تِبَانْ وِلَهَا دَلَايِلْ، وِعِينِ الْعَدُو تِبَانْ وِلَهَا دَلَايِلْ"، والعين تترجم بالقلب، فالعيون تفضح مكنونات الصدور كما قال ابن الأثير، لأن "القلوب مش زي بعضها"، فمنها المحب والكاره والحقود واللين، فلا يمكن لأحد أن يحكم بمكنونات قلب.

خلاصة القول؛ إن الأمثال والحكمة في مصر القديمة كان من العسير الفصل بينهما، فالمثال يضم حكمة في حد ذاته، وكثير من الأمثال توارثتها الأجيال، وعلى الرغم من اختلاف اللغة إلا أنها عاشت في ذاكرة العامة، يستدعي الناس منها ما يشاؤون في مواقفهم اليومية، ومنها ما قد يكون له مثيل في دولة أخرى مجاورة، نتيجة لحركة التبادل الثقافي الشعبي بين الناس.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها