الأسر المعولمة وانفتاحها على العالم؟!

الحسن لغريسي


أولريش بك Ulrich Beck


انطلق أولريش بك من سؤال: هل يتسنى لنا إدراك لمعنى الأسرة المعولمة؟ والجواب هو النفي، حيث اعتبر أننا نجد لغة فوق العادة أو لغة ميتافيزيقية يمكنها أن تعكس لنا ماهية الأسر المعولمة ذات الأجناس المتعددة والأخلاط المتوفرة، وكذلك لا توجد لغة يمكنها أن تصيغ النظم والضوابط التي توضح الاختلافات في وبين هذه النوعية من الأسر. "ففي الغالب يتغير مفهوم الأسر المعولمة طبقاً لسياقات حضارية متنوعة، أي أنها مصطلح جامع لتنوعها الثقافي يرمي بأطرافه في كل حدب وصوب؛ ففيه تتداخل الاختلافات بين العالم الأول والثاني والثالث، إنه مصطلح يخص من هو في بؤرة الاهتمام ومن يعيش على الهامش، مصطلح يعبر عن الحداثة الغربية واللاغربية، والذي ينعكس في صور متنوعة"1.
هذا التنوع حسب أولريش، يكون في الأشخاص أو في خصوصيات الأسرة أو في علاقات الحب أو في الدائرة المحيطة بالأسرة. إنها أسرة بمثابة بطاقة هوية تجسد تجربة حياة، فيها تفقد الازدواجية أهميتها إزاء العلاقة الخاصة والتي تتسم بالود، ليعاد تصنيفها وتُعاد قولبة ارتباطاتها. ومن منطلق هذا المعنى فإن الأسر المعولمة يجب أن تحمل في طياتها لغات عدة، يجب أن تتعلم "الفهم الراقص"، إذ من خلالها يستطيع المرأة المرء إيصال فكرته لشريكه دون استخدام الكلام، إنها أسر تعرف كيفية التعايش مع الفوارق بل وتحبها.

 

التناقضات في الأسر المعولمة

يتساءل أولريش: ما مدى التكهن عن انفتاح الأسرة المعولمة على العالم؟ هل تعتبر بمثابة بذرة ينبثق عنها تضامن عالمي يتحدى مفاهيم القومية؟ نوع من التضامن عن بعد؟ ويرى أن هناك أمثلة شبيهة تعكس هذا الاتصال الداني النائي الذي يُولّد نوعاً من التقارب. يذكر أوريش من ذلك مثلا، تأثير الأعمدة الثقافية في القرن التاسع عشر التي أسهمت في تولد وعي قومي قوي راسخ؛ ومثال شبيه آخر تعكسه الوظيفة التي قامت بها وسائل الاتصال الحديثة في بداية القرن العشرين مثل الإنترنيت وصفحة التواصل الاجتماعي Facebook، والمحادثات من خلا الاتصال المباشر الفوري Skype وما شابه ذلك، فقد أدت هذه الوسائل إلى توالد الحب عن بعد ونشأة الأسر المعولمة. والسؤال هنا حسب أولريش: هل الأسر المعولمة تمثل حجر الأساس لبناء أسلوب لصياغة مستقبلية، فهل هي شكل أولي من أشكال مجتمع عالمي معولم؟
يرى أولريش، أن التكهن بتحول شكل الأسر المعولمة إلى مظهر عالمي يمثل خطأ واضحاً للعيان، يقول في ذلك: "وقد أكدنا ذلك مراراً وتكراراً، بينما في المقابل يمكننا القول إنه نظراً لأن الأسر المعولمة تستجلب في صورتها أسس التقاليد والأعراف والطبائع، دافعة إياها إلى دائرة الشك فيما تحمله إلى المجتمع، نظراً لذلك تنشأ موجات مضادة تسعى لإنقاذ النظام التقليدي للأسرة والعلاقة بين الجنسين والحب بينهما، وبالتالي فإنه ليس هناك فقط بادرة محتملة للانفتاح العالمي نحو الأسر المعولمة، بل يمكن القول إنه سيتمخض عن الأسر المعولمة ميلاد الانغلاق العالمي في وجه الجميع، العولمة والأصولية ومعارضة الحداثة، بالطبع يرجع ذلك إلى وجود احتمالية أن تحمل الأسر المعولمة في طياتها الانفتاح العالمي مع مساعي العودة إلى الأصولية في آن واحد"2. ومن هنا يقع الانغلاق من جديد.

ممّ تتشكل الأسر المعولمة؟

يرى أولريش أن من أخص السمات المميزة للأسر المعولمة أنها بمثابة مسرح من المفاجآت اليومية، فالبديهيات والأمور العادية التي تقوم عليها حياتنا، هي ذاتها البديهيات التي تفجر الأسئلة في الأسر المعولمة. حيث يذكر لنا أولريش أن هناك صنفاً من الرجال إذا أراد الهروب من حياة الوحدة، فتش عن رفيقة تشاركه الحياة، رفيقة من عالم آخر، ولا يريدون بفعلتهم هذه أنهم قد جلبوا هذا العالم إلى غرفة النوم. وهناك صنف آخر شغوف بحب هذا العالم الكبير، إلا أنهم بسبب جذورهم نراهم يتعثرون في علاقة الشراكة خلال تعاملاتهم اليومية، فيجدون أنفسهم أخيراً مضطرين للاعتراف بأنهم متقوقعون في دائرة مجتمعهم الضيق.
انطلاقاً من ذلك يمكن التكهن، بأنه كلما تعددت الهويات التي يحملها الفرد، كان من السهل فهم رؤى الآخرين المنغلقين، ومن هنا يتساءل أولريش: هل يمكن للمرء أن يتجزأ ويتوقع أنه كلما ازداد عدد أولئك الذين ينتمون إلى الأسر المعولمة والذين يتزوجون من أبناء أسر معولمة مثلهم، أصبح تعايش الآخر المنغلق –الذي يكاد أن يخرج من دائرة الانغلاق الذي يعيش فيها- معهم أمراً بديهياً. السؤال: هل يمكن توقع ذلك؟ حسب أولريش الحقيقة الماثلة أمامنا بصورة جلية تكمن في أن الأسر المعولمة ليست بالمستقلة ولا بالمستقرة، فوجودها مهدد من جوانب مختلفة، وبخاصة عند مضاهاتها بنماذج من الأسر كانت مستقرة في الغرب، وواجهت ألواناً من الصور العدائية من غالبية المجتمع، وعانت من التعسف إزاء حقوقها أو الواجبات المكلفة بها؛ وهناك مثال تاريخي على ذلك ينعكس فيما واجهه اليهود أثناء حكم النازية في ألمانيا.

ونختم بقول أولريش، إن الأسر المعولمة لا تمتلك مفهوماً للزمن والأحداث، فهي أسر تميل إلى الاهتمام بالبقايا المتخيلة في الذاكرة عن أوطانها وماضيها، ولأنها أسرة معولمة لا تستطيع أن تجد لها موطئ قدم خاصاً بها في أي مكان، أسر تمتلك مخيلة عن الماضي، وهي بالنسبة لها بمثابة حصن تدافع من خلاله عن تماسك أعضائها، وسواء كان هذا الذي تحمله هذه المخيلة أمراً تافهاً وسطحياً أو مؤكداً في أسس محددة، فإنه لا يُكترث لهذا المزيج الثقافي الذي يخص الأسر المعولمة إلا لماماً.
 


هوامش
1. الحب عن بعد: أنماط حياتية في عصر العولمة، أولريش بك، ترجمة: د. حسام الدين بدر، ط1، 2014، منشورات الجمل، ص: 317.
2. الحب عن بعد: أنماط حياتية في عصر العولمة، أولريش بك، ص: 319- 320.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها