جدلية التواصل والتصادم

العولمة والهُوية في فكر علي حرب

خالد العبادي

شكَّل موضوع العولمة وما يزال يشكل اهتمام الباحثين من مختلف المرجعيات، الأمر الذي نتج عنه تعدد واختلاف في الرؤى والتصورات، بين حاقد وبين مادح وبين متعايش، فهناك مثلاً من رفضها لكونها "ذريعة للهيمنة على شعوب العالم وفرض قيم ثقافية تقدمية ناقصة ومشوشة على شعوب وحضارات، هي ذاتها أعرق وأكثر قدرة على النهوض وعلاج تشوهات وسد نقائص الحضارة الغربية المعاصرة، وخاصة الصورة الأمريكية منها"1. وهناك من يرى أنه بفضلها انتقلنا "من دون أن ندرك من عالم سيطرت فيه العزلة الثقافية إلى عالم آخر يسوده التبادل الثقافي، ومن عالم يتميز بالاستقلالية الثقافية لجماعات معزولة تقليدية إلى عالم آخر يسوده تعميم العلاقات المتبادلة والتواصل"2. سأتوقف مع هذا الموضوع الحيوي مع قراءة الكاتب والمفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب وقراءته الخاصة لموضوع العولمة وبالأخص على مستوى الهوية.


 


المفكر والفيلسوف علي حرب

 

العولمة واقعة العصر

يطرح علي حرب مجموعة من الأسئلة منها: ما مستقبل الهويات الثقافية في عصر المعلومة الكونية؟ إذ يرى الكاتب أن ثنائية الهوية والعولمة، قد غدت بؤرة السؤال ومدار السجال، سواء في الأوساط الفكرية أو في الدوائر السياسية في العالم الغربي، كما في خارجه في العالم العربي، وذلك لكثرة المؤلفات في موضوع العولمة وتأثيرها على الهوية والثقافة. يقول الكاتب: "بهذا المعنى فإن ثنائية الهُوية والعولمة تتجاوز، بقدر ما تستبطن المتعارضات التي كانت متداولة حتى الآن، كثنائية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة أو الخصوصية والعالمية، فلكل عصر قضاياه كما له فتوحاته واختراعاته"3، وهنا ينبه الكاتب إلى رؤية أصحاب المشاريع الثقافية الذين يرون في العولمة استباحةً للقيم وغزواً للثقافات أو فخاً للهويات وتسلطاً على الشعوب. إلا أن الأمر أكبر من هذا التصور لأنّ العولمة فتح كوني بتعبير الكاتب يتغير عليه سير العالم على ما كان يجري عليه.
هذا الفتح الكوني حسب الكاتب أثار فزع وقلق المثقفين والدعاة الذين طالما تعاملوا مع أدوارهم بوصفهم النخبة أو الصفوة التي تمارس الوصاية على الهوية والثقافة أو على المعرفة والحقيقة، ومن ثم فلا عجب أن تقف القوى تقليدية كانت أو حداثية، دينية أو علمانية في مواجهة العولمة باسم الهوية والثقافة.
بناءً على ما سلف ذكره سيجد الإنسان نفسه بين ثلاثة عوالم بتعبير الكاتب، لكل منها هويته ومركز استقطابه؛ الأول: هو العالم القديم بأصوليته الدينية وتصوراته اللاهوتية الغيبية أو الماورائية؛ الثاني: العالم الحديث بفلسفاته العلمانية ورواياته العقلانية، أو بأدولوجاته العالمية وتهويماته الإنسانية؛ الثالث: هو العالم الآخذ في التشكل الآن، أي عالم العولمة بفضائه السبراني ومجاله الإعلامي... يقول الكاتب: "هذه العوالم الثلاثة التي تتجاذب الوعي بالهوية المجتمعية والثقافية، تؤلف ما يمكن تسميته ثالوث القدامة والحداثة وما بعد الحداثة، أو بصيغة أحدث ثالوث الأصولية والعالمية والعولمة. وفي المجال العربي الأحرى تسميته ثالوث الأسلمة والأنسنة والعولمة4. وهنا يرى الكاتب أنه لا مجال للعودة إلى الوراء بعد الدخول في فضاء ما بعد الحداثة. لكون العالم يشهد تحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم. مؤكداً على نقطة محورية وهي أن العولمة لا تعني ذوبان الهوية وهو رد من الكاتب على ذوي الثقافة الضعيفة.

عولمة الهوية

يؤكد علي حرب أن مشكلة الهوية الثقافية، لا تكمن في العولمة أو الأمركة، بل المشكلة في أهل الهوية وحماتها من النخب المثقفة. يقول: "لا مراء أن للهوية المعاشة سؤالها الذي يتوجه إلى حماتها، والذين يحملون مسؤولية الدفاع عنها من الدعاة وأصحاب المشاريع القومية والحضارية. فالسؤال الأساس هو سؤال الفكر عن أفكاره. ولذا فالسؤال هنا هو: ما هي ثمرة عقود من ممارسة الوصاية من قبل النخب المثقفة والفكرية على الهوية والأمة؟5. يجيب الكاتب بقوله: "لن أتردد في الجواب: الحصيلة دفاعات فاشلة وممارسات عقيمة غير منتجة، إزاء الأحداث والمستجدات، سواء من حيث العلاقة بالخارج، أو على صعيد الداخل، الأمر الذي جعل النخب، وما يزال يجعلها، تنتقل من صدمة إلى صدمة، من صدمة الحداثة إلى صدمة ما بعد الحداثة؛ أو تنتقل من فخ إلى فخ آخر، من فخ الهوية إلى فخ العولمة"6.

فما الحل للخروج من المأزق؟ يقترح علي حرب أن يكون ذلك بإقامة علاقة نقدية مع الذات والأفكار، لإحداث قفزة ننتقل بها من لغة الشعار وعقلية الطوبى ومنطق الاستلاب، إلى لغة الفهم وعقلية الخلق ومنطق الحدث التكوين، وعلى النحو الذي يتيح لنا المساهمة في تغيير الواقع وصناعة المشهد العالمي. وذلك حسب الكاتب يحتاج إلى تفكيك ما ينتج العقم والعجز والهشاشة من الأدوات الفكرية والقوالب المفهومية. يقول: "فنحن نتعاطى مع الهوية بطريقة سحرية، أعني بعقلية سَجِّل أنا عربي... ولا يجدي ذلك نفعاً على أرض الواقع، وإنما المجدي هو ما ننتجه وننجزه. كذلك نحن نتعاطى مع الهوية على نحو ما ورائي بوصفها تطابقاً بين شخص وآخر، أو بين المرء ونفسه، من غير ما اختلاف أو انشطار. مثل هذه الرؤية للهوية تنتج الجمود وتعيق النمو بقدر ما تولد الاستبداد والاقصاء والاستبعاد"7. وهكذا يرى الكاتب أن الإمكانية المتاحة والمثمرة هي إخضاع خطاب الهوية للنقد، من أجل التحرر من العوائق التي تشل الطاقة وتولد العجز والاخفاق. وذلك يحتاج تغيير نمط التعامل مع الهوية بعيداً عن الدفاع، إذ الحاجة هي العمل لتفرض الهوية نفسها إلى جانب هويات أخرى.
 

بين عائق الهُوية ومستجدات العولمة

يرى علي حرب أن الأُدلوجات ونظريات الهوية قد أسهمت في التبعية وأنها لعبت دوراً في تشكيل وعي مقاوم للهيمنة والسيطرة. "لكنها استهلكت نفسها وفقدت مصداقيتها وراهنيتها... من هنا فقد أمسى الدفاع عن الهوية هو العائق والمأزق، بل هو المعضلة والداء. وهذا يدعو إلى تجاوز الثنائيات الخانقة المرتبطة بمسألة الهوية، كثنائية التراث والحداثة، أو الخصوصية والعالمية"8. ومن هنا فالماضي حسب الكاتب هو سبب ما نحن عليه في حاضرنا، طبعاً هذا ليس على إطلاقه، فهو يؤكد في المقابل ضرورة استثماره لنحقق به أعمالا ومنجزات، وإلا فإنه سيتحول إلى عائق لنا يصرفنا عن فهم الواقع وصناعة عالم. يقول: "نحن نخشى على الهوية والوعي والثقافة من التسطيح والغزو والاختراق. في حين أن ما يحدث لا مرجع عنه إلى الوراء. فالأجدى هو أن نقرأ الحدث، لا بلغة الرجم واللعن، ولا بلغة التعظيم والتسبيح، بل بلغة الفهم والتشخيص، من أجل التعقل والتدبير، بحيث لا نرد على الحدث بنفيه، ولا بالمصادقة عليه، بل بفهمه والمساهمة في صوغه، أي بتحويله إلى فكرة خصبة أو إلى حقل معرفي أو إلى مجال تواصلي..."9.

إذن، مشكلة الهوية ليست في اكتساح العولمة، بل في عجز أهلها عن ابتكارها وتشكيلها في سياق الأحداث والمجريات، أو في ظل الفتوحات التقنية والتحولات التاريخية، وفي عجزهم أيضاً عن عولمة هويتهم. "هذه هي المشكلة الحقيقة التي نهرب من مواجهتها. عجزنا حتى الآن عن خلق الأفكار وفتح المجالات، أو عن ابتكار المهام وتغيير الأدوار، لمواجهة تحديات العولمة"10. يقترح علي حرب لتجاوز المشكلة بالرهان على تظهير صورة جديدة للهوية، معنى ومعاشاً، نظريةً وممارسةً، تسهم في إخراجها مخرجاً أكثر قوة وغنى وفاعلية من خلال شبكة جديدة من المفاهيم هي: الانبناء، التكوين، الصناعة، العولمة، الأعلمة... وذلك لكون هويتنا ليس ما نتذكره ونحافظ عليه أو ندافع عنه. بل ما ننجزه ونحسن أداءه من خلال علاقاتنا ومبادلاتنا مع الغير.

يقول علي حرب: "الفكاك من هذا المأزق الوجودي، الذي نعاني منه، يبدأ بتفكيك آليات التفكير من أجل تغيير صيغة الوجود ونمط ممارسته، بحيث لا تعاش العلاقة مع الأنا من خلال مفردات الأصل والمحافظة أو الفخ والخشية، بل من خلال مفردات الخروج والمغامرة أو الإبداع والاختراق والتحول. وعندها لا يعود الشعار هو الاعتصام بالأصول والخوف على الذاكرة والهوية من الضياع والذوبان، بل تفكيك الأصل وخروج المرء على ذاكرته، بصورة تتيح له تحويل العلاقة، مع هويته وثوابته، من شكلها المغلق كأسماء جامدة، إلى شكلها المفتوح والمتحرك، كطاقة على الخلق والإبداع، هي السبيل إلى بناء علاقة مع الآخر، تقوم على التسوية أو على الاعتراف المتبادل"11.

صدمة العولمة في خطاب النخبة

يؤكد علي حرب على أننا إزاء تحول كوني تتغير معه بنية الواقع بالذات، كما يتجسد ذلك في العولمة بمكوناتها وتجلياتها. إنه تغير في خريطة العالم ومنطق الأشياء، يشمل محركات النمو وأنماء التنظيم، منظومات التواصل وأنساق المعلومات، ونماذج معقدة كما يشمل تحولا تاريخياً ضخماً، تنبثق معه طريقة جديدة في التعامل مع الواقع، ونمط مغاير في ممارسة الوجود الفردي والجمعي.

يطرح علي حرب السؤال: كيف تستقبل العولمة في الخطاب الثقافي لدى الدعاة والحماة؟ يجيب: "إنها تقرأ قراءة خلقية مثالة أو قراءة إيديولوجية نضالية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، أو الخير والشر... والقراءة الإيديولوجية هي قراءة وحيدة الجانب تقوم على التبسيط والاختزال، وذلك حيث تُقرأ العولمة بتعابير التمركز والهيمنة، أو السوق والسلعة، أو الاستعمار والرأسمالية، أو الاختراق والاغتصاب، أو الغزو والاكتساح"12. يقدم علي حرب بعض الأمثلة:
المثال الأول: صادق جلال العظم الذي لا يرى -حسب علي حرب- في العولمة سوى بعدها الاقتصادي ووجهها الإيديولوجي الرأسمالي.
المثال الثاني: يمثله الفرنسي بيار بورديو، وهو حسب علي حرب، يغلب على قراءته البعد السوسيولوجي، فبعد مشاركته في حلقة تلفزيونية، خرج غاضباً محطباً، معلناً أن التلفزيون هو أداة رهيبة للهيمنة والرقابة والحجب وليس وسيلة اتصال، ويرى أن العولمة ما هي إلا ليبرالية جديدة شرسة ووحشية.

في تقييمه لهذه القراءات وغيرها يقول الكاتب: "بالإجمال إن القراءة الإيديولوجية هي قراءة هشة تشهد على عجز أصحابها عن مواجهة العولمة، بقدر ما يستخدمون في قراءة العالم مفاهيم قديمة باتت شعارات خاوية ومطلقات هشة لا تنتج سوى ألغامها على الأرض، كما هو شأن المصطلحات المتداولة في الخطاب الثقافي حول العقلانية والديمقراطية أو حول الحرية والعدالة أو حول الهوية والثقافة... لو كانت الثقافة التي يدافعون عنها في موجهة العولمة والأمركة قوية، لما حصل الغزو الذي يتحدثون عنه... وبشكل أكثر تحديداً، لو كانت الثقافة العربية هي الجبهة الأخيرة للدفاع، عن الهوية والذاكرة والأمة والأرض... لما جرى كل هذا الاختراق الذي يعلنونه ويشكون منه في خطاباتهم وبياناتهم"13.

الهوية الثقافة حسب علي حرب هي محور الكلام، انطلاقاً من السؤال التالي: العولمة تشكل خطراً على هذه الهوية كما يقولون؟ يقول الكاتب حتى لا نغرق في التهويمات حول معنى الثقافة: "أرى أن الثقافة تتجلى في النهاية في النصوص والخطابات، أو في المؤسسات والمشروعات، أو في التصرفات والممارسات. فإذا كان المقصود بها النصوص فلا خشية عليها من شيء، إذ هي روائع وآثار باقية، فلا أحد سيقضي عليها، وإنما هي تشكل رأسمال رمزي علينا أن نحسن صرفه وتحويله إلى قيم معرفية وجمالية، في ضوء الخبرات الوجودية والرهانات على المساهمة في صناعة الأحداث والأفكار على الساحة الدولية"14.

في حين يرى الكاتب: إذا كان المقصود بالهوية الثقافية تلك المنظومات العقائدية للأحزاب الإسلامية التي تمارس وصايتها على الحقيقة والشريعة، فإن أنفع وأفضل ما تفعله العولمة هو تفكيك تلك الهويات المتحجرة. منتقداً كذلك الهوية الثقافية ذات الاتجاهات الإيديولوجية المسيطرة في الثقافة العربية، من قومية وإسلامية أو ماركسية وليبرالية، فبتعبيره: "هذه التيارات قد وصلت إلى مأزقها، بعد انهيار مشروعاتها الفكرية في مهامها المتعددة"15. وقد ختم الكاتب بالقول: "لا أريد أن أتشاءم أو أن أتفاءل بالنسبة إلى مستقبل البشرية ووحدة العالم. فإنسانيتنا على المحك، وبقولي ذلك أحوال نقل المشكلة من صعيدها الإنسي إلى صعيدها الوجودي. فالمسألة تتعدى صراع الحضارات وصدام المصالح، إذ هي مشكلة الإنسان مع نفسه أولا. بهذا المعنى ثمة صراع بين فكرة التصادم وفكرة التواصل"16.

في ختام موضوعنا نؤكد على أننا اليوم شئنا أم أبينا في عالم لم يعد قرية صغيرة، بل أصبح شاشة صغيرة، وأمام هذا الوضع علينا الانخراط عملياً في مواكبة هذا الفتح الكوني بعيداً عن لغة الانهزام من قبيل: أن الآخر يريد تقويض هويتنا أو السيطرة علينا اقتصادياً، فالعالم تغير بشكل رهيب يسير بشكل لم نعهده من قبل، ومن ثمة فأي تبرير وأية قراءة ناقدة لهذا التطور فلن توقف السير الحضاري، ليبقى الحل العمل، فهل نحن فاعلون؟


الهوامش
1. مصطفى النشار، ما بعد العولمة: قراءة في مستقبل التفاعل الحضارة وموقعنا منه، الناشر: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، (ط1، 2003)، (ص: 33).  2. جيرار ليكلرك، العولمة الثقافية: الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة، الناشر دار الكتاب الجديد المتحدة، (ط1، 2004)، (ص: 26).  3. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، الناشر المركز الثقافي العربي، (ط2، 2004)، (ص: 10).  4. المرجع السابق، (ص: 11- 12).  5. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 20).  6. المرجع السابق، (ص: 20).  7. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 23).  8. المرجع السابق، (ص: 24).  9. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 25).  10. المرجع السابق، (ص: 25).  11. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 27).  12. المرجع السابق، (ص: 43- 44).  13. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 47).  14. المرجع السابق، (ص: 50-51).  15. علي حرب، حديث النهايات: فتوحات العولمة ومأزق الهوية، مرجع سابق، (ص: 53). 16. المرجع السابق، (ص: 114- 115).

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها