المشاكل الدائمة للحضارة الإنسانية المعاصرة

بقلم: ألكسندر شوبروف

ترجمة: محمود إبراهيم الحسن


إن مشاكل الحضارة هي معاصرة؛ وفي ذات الوقت أزلية، ودائمة؛ لأنها في واقع الأمر هي مشاكل الوجود المادي والروحي للإنسان. لقد أشار الفيلسوف "كانت" إلى ضرورة التفريق بين "الثقافة الداخلية"، و"الثقافة الخارجية" أي الحضارة. هذه المسافة بين الحضارة والثقافة هي في الواقع سبب المشاكل التي تعاني منها البشرية على مر العصور، فالقدرة المعرفية للإنسان كانت سابقة طوال الوقت لمعرفته، وتفريقه بين الخير والشر.
 

يقوم الإنسان دائماً بأفعال ليست متوافقة نسبياً مع مبادئ "كانت" الأخلاقية، وبعبارة أخرى؛ إن هدف ووسائل بلوغ هذا الهدف عند الأشخاص العاديين لا يمكن أن تصبح مبادئ للتشريعات العالمية. وتشكل هذه النقطة المحور الأول لمشاكل الحضارة الإنسانية، والتي تم تصنيفها بشكل رمزي في الأساطير.

وليس غريباً أن أول فيلسوف في تاريخ أوروبا وهو أغسطينوس "في القرن الخامس الميلادي" اعتبر في أسطورة توراتية؛ أن تاريخ البشرية بدأ بهبوط آدم وحواء بعد أن أكلا فاكهة محرمة من شجرة معرفة الخير والشر.

تنطلق مشاكل البشر قبل كل شيء من حقيقة أن الإنسان هو أولاً كائن يملك العقل، وثانياً؛ أنه يتحتم عليه أن يحكم على الأشياء من منظور تصنيفه للسلوك بين الخير والشر، وهذا ما يجعله مميزاً عن بقية الكائنات التي خلقها الله، لكن في نفس الوقت هذه الميزة تسبب له المشاكل؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف أن مصيره النهائي هو الموت، وهذه المعرفة قد تجعله الكائن الأقل سعادة بين المخلوقات الأخرى.

المحور الثاني من مشاكل الحضارة الإنسانية يمكن الدلالة عليه بشكل رمزي من خلال اسم بطل الأساطير اليونانية القديمة "بروميثيوس". أود التذكير هنا أن بروميثيوس هو ممثل للجيل القديم من آلهة التراب، والذين أُطلق عليهم العمالقة.

تقول الأسطورة إن بروميثيوس وشقيقه أبيثميوس هما من أوجدا الأشياء، والحيوانات، وفيما بعد الإنسان. عَلّم بروميثيوس البشر حِرَفاً متنوعة مثل خياطة الملابس، وبناء المساكن، وصنع معدات العمل، والصيد.

كما أن بروميثيوس جلب للناس النار التي سرقها من "زيوس"، وهذا أدى طبعاً إلى غضب الآلهة التي أمرت ابنها إله الحدادة والنار "هيفستوس" بربط بروميثيوس إلى جبال القوقاز، وفعلاً أصبح بروميثيوس مقيداً بالسلاسل، وفي كل صباح كان يطير إليه نسر ليأكل من كبده طوال اليوم، وفي المساء عندما يعود النسر يتشكل كبد بروميثيوس من جديد، لكن في صباح اليوم التالي تبدأ معاناة بروميثيوس من جديد.

استمرت معاناة بروميثيوس اليومية حتى تم تحريره من قبل البطل الأسطوري هرقل، حيث تم تحريره في الطريق المؤدية إلى "هيسبيريدس" أو حدائق التفاح الذهبي، حيث نمت أشجار التفاح دائمة الاخضرار.

إلى ماذا ترمز هذه الأسطورة حول تقييد بروميثيوس بالسلاسل، ثم تحريره؟ في الواقع؛ هي تعبير مجازي عن العلاقة التبادلية بين الجنس البشري والطبيعة. الطبيعة هي من أوجدت له فرصة العيش، وعلمته الكثير من المهارات المختلفة؛ لكن هذه الطبيعة نفسها تعاني من نشاطات البشر المختلفة.

هذه المشاكل التي لم تحدث في أيامنا هذه، لكنها تفاقمت في القرون الماضية، ويمكن أن نطلق عليها اصطلاحاً المشاكل البيئية، على الرغم من أنها تأخذ منحى أوسع من ذلك، فهي تمثل مشاكل العلاقة بين الجنس البشري والطبيعة.

تنتمي المشاكل السكانية إلى هذه المجموعة من المشاكل، حيث يزيد عدد السكان بشكل مطّرد، ونتيجة لهذه الزيادة أصبح جنس النوع البشري العاقل "هومو سابينس" هو الأكثر عدداً بين الثدييات الأخرى على كوكب الأرض، كما نشأت مشكلة استنفاد الموارد، ومشكلة التوزع السكاني؛ حيث تقطن في المدن الكبرى أعداد ضخمة من السكان، بينما هناك مساحات شاسعة غير مناسبة للعيش؛ لأن البشرية لا تملك الإمكانيات، ولا الإرادة لتحويلها إلى مناطق صالحة للعيش.

هناك مشكلة أخرى تتعلق بالطبيعة، ولكنها مرتبطة بطبيعة جسد الفرد؛ تتلخص هذه المشكلة في أن الأمراض القديمة تتطور أكثر وتتجدد؛ علاوة على ظهور أمراض جديدة لم تكن معروفة أو منتشرة سابقاً.

المحور الثالث لمشاكل الحضارة المعاصرة يمكن الترميز له بأسطورة هرقل، الجميع يعرف مهام هرقل الاثنتي عشر، والتي ترمز إلى تكوين وتطوير الثقافة البشرية والحضارة، لكن يجب الأخذ بالاعتبار أن نصف مهام هرقل هي حول شخصيته، أما النصف الآخر فهي حول حروبه.

تمثل هذه المشكلة بالذات أكبر تهديد للوجود البشري، وليس مصادفة أن تنشب في أساطير هرقل حروب شرسة بين البشر بسبب جشعهم وحسدهم، وهذا الجشع والحسد مثل السم القاتل للثعبان هيدرا "المهمة الثانية لهرقل"، وهي تسمم الحياة البشرية، وتهدد بإفنائها أيضاً كما أفنت السموم "هيدرا" في آخر المطاف.

هذه المشكلة توسعت بالطبع في القرن العشرين مع بدء صناعة أسلحة التدمير الشامل. تفاقمت هذه المشكلة بوضوح مع أول استخدام للغاز كسلاح في الحرب العالمية الأولى؛ حينها شعرت البشرية بالهول مما صنعته، ومما استخدمته في الحروب والنزاعات؛ لكن سرعان ما ابتكرت البشرية بعد ذلك الأسلحة النووية؛ التي مهما حاول السياسيون والعسكر تقسيمها إلى دفاعية، وهجومية؛ فإن الأسلحة تبقى أداة للموت والدمار لكل ما أنجزته البشرية، وكل هذا من أجل ضمان مصالح البعض في مواجهة مصالح آخرين.

نحن نراهن على تعقل الإنسان، وفطرته نحو فعل الخير، وليس على اختفاء الأسلحة نهائياً، أو التوقف عن تطويرها، وجعلها أكثر قوة.

وأخيراً؛ المحور الرابع لمشاكل الحضارة البشرية الذي يمكن الترميز إليه من خلال اسم شخصية في الأساطير اليهودية، وهي مشكلة "غولم"، كلمة "غولم" في الأصل الهندوأوروبي تتألف من جذرين: الطين، والنار. تم صنع الغولم من مادة الفخار، وبثت فيه الحياة من خلال السحرة، ثم بدأ بعد ذلك حياته الخاصة، ولفت انتباه البشر إليه، ثم نجح في إثارتهم، وأوصلهم إلى حالة من الجنون في رغبتهم لتحقيق أهدافهم، لكن الكتلة البشرية كلها لا تستطيع فعل أي شيء بمفردها، بل فقط ما يمليه عليها الكائن المصطنع غولم.

هذه المشكلة ظهرت في العصور القديمة عندما صنع الإنسان مثيلاً ومشابهاً له، ثم خضوعه لهذا الشبيه، وهذه المشكلة أصبحت شديدة الوضوح في الوقت الراهن، نحن نتحدث هنا عن استبدال الإنسان بإدخال أنظمة الذكاء الصنعي الذي يكون دور الإنسان فيه مجرد أداة. في القرن العشرين أصبحوا يتخوفون من أن الإنسان سيصنع روبوتات ستحل محله؛ لكن هذا لم يحدث حتى الآن، وما حدث هو مشكلة أخرى، وهي أن الإنسان مهدد لأن يصبح عبارة عن جزء من آلة فقط، ولم تواجه البشرية عملياً مشكلة من هذا النوع سابقاً. نحن نتحدث في الواقع عن تحويل أو حتى اختفاء الإنسان كنوع بيولوجي "هوموسيبينس".

من وجهة نظري؛ هذه هي المشاكل الرئيسية للحضارة المعاصرة، والسؤال الآن هو كيف يمكن حلها؟ منطقياً يمكن أن نفترض أن حلها يكمن في معرفة أسباب نشوئها.

 إذا كانت المشاكل الرئيسة للجنس البشري والحضارة المعاصرة هي نتيجة التناقض بين الطبيعة الروحية والمادية للإنسان؛ بين الثقافة الداخلية، والثقافة الخارجية "الحضارة"، بين القدرات المعرفية للإنسان، وأخلاقه؛ إذا كانت المشكلة كذلك فإن حلها يكمن فقط في تطوير الثقافة الداخلية للإنسان، وبالدرجة الأولى أخلاقه؛ طبعاً لا يمكن أن يصبح الإنسان قديساً؛ لكن كما قال الفيلسوف كانت "إن الإنسان لديه المقدرة على أن يصبح مقبولاً ولائقاً".

هذه الأطروحة حول الثقافة والأخلاق دائماً ما تقابلها أطروحة أخرى، وهي أن الأقوى والأكثر عدوانية هو من يفوز: "من يتجرأ هو من يأكل".

لكن؛ يجب أن نتذكر أن العدوانية في المقياس الإنساني فقط تهدم الموارد المتاحة، وما تم إنجازه دون أن تقدم أي شيء جديد، تماماً مثل الكَيْد1 الذي يعيد العدوان إلى صاحبه، ويخلق له مشاكل لم يتوقعها أبداً.

ينتصر المعتدي على الصعيد الشخصي في لحظة الاعتداء ومكانه؛ لكن البشرية تخسر بسببه في كل زمان ومكان، وفي أفضل الأحوال؛ فإن المعتدي سيحصل على تأجيل فنائه هو نفسه لبعض الوقت. لذلك، مهما بدا الأمر مبتذلاً وطوباويًا وطموحًا للغاية؛ فإن التطوير المستمر للثقافة والأخلاق الإنسانية سيبقى دائماً الحل الأمثل والوحيد لحل المشكلات "الأبدية" للحضارة الحديثة التي يعرفها كل السياسيين، والبعض منهم يفهمها جيّداً، لكن القليل منهم للأسف يدرج حلها ومواجهتها ضمن مبادئ سياسته.




1. الكيد أو الخذوف هي أداة ملتوية أو منبسطة تستعمل سلاحاً، أو يرمى بها في الرياضة، وتدور الخذوف بسرعة إلى الأمام، ثم ترتفع وتبدأ مساراً منحنياً عائدة إلى الرامي. "المترجم" المصدر: ويكبيديا.

لقراءة المقال الأصلي:
https://www.topos.ru/article/ontologicheskie-progulki/vechnye-problemy-sovremennoy-civilizacii

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها