تكلّمي أيتها السماء!

بيتر سلوتيردايك.. وشِعرية اللاَّهُوت

أحمد الزناتي


بيتر سلوتِردايك Peter Sloterdijk، المولود في 26 يونيو 1947، واحد من أهم الفلاسفة الألمان في المشهد الثقافي الأوروبي الراهن، جنباً إلى جنبٍ مع يورغين هابرماس، وهو أستاذ الفلسفة ونظرية الإعلام بجامعة كارلسروهِه الألمانية، وقد درس الفلسفة في جامعتي ميونيخ وهامبورج في السنوات من 1968 حتى سنة 1974، ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هامبورج سنة 1975. وضع سلوتيردايك أعمالًا فلسفية مهمة، وضعته في مصاف أهم الفلاسفة الغربيين على قيد الحياة. طالما قُورن سلوتيردايك بـ"نيتشه"، من حيث ثورية أفكاره وتمرّدها على السائد، وكذلك من حيث لغته المتفجّرة الشاعرية التي لا تخلو من إشراقات وأحيانًا شطحات صوفية عالية، ولا أدلّ على ذلك من كتابه المُترجم إلى العربية "نيتشه الإنجيل الخامس"، الذي قارب فيه أفكار معلّمه الأول فريدريش نيتشه مقاربة شاعرية ذاتية لا تخرج إلا من قلم شاعـر.


 

قبل شهور قلائل أصدر سلوتِردايك كتابًا جديدًا مثيرًا للجدل تحت عنوان Den Himmel zum Sprechen bringen، أو "استنطاق السماء – حول شعرية اللاهوت، يقدّم فيه أطروحة جديدة حول مسألة قديمة طالما شغلت بال سلوتيردايك وكتاباته، ألا وهي مسألة الله وتجلي الألوهية. في كتابه الجديد يقارب الفيلسوف الكبير تلك المسألة مقاربة جديدة، حيث يحاول حمل السماء (كما يقول عنوان الكتاب) على الكلام، يحاول استنطاقها للحديث والبوح عبر مناقشة تجليات صورة الإله في النصوص الأدبية، بدايةً من ملحمة هوميروس وصولًا إلى فلاسفة وفناني القرن العشرين.

في البداية تجدر الإشارة إلى أن العنوان الفرعي للكتاب Theopoesie، أو شعرية اللاهوت هو مصطلح سكّـه الشاعر وعالم اللاهوت السويسري كورت مارتي (1921-2017)، ومعناه الخطاب الشعري القادر على قول الحقيقة.

يتجوّل سلوتيردايك، بما أوتي من معرفة موسوعية هائلة، في تاريخ الدين والفلسفة واللاهوت، بداية من المصريين القدماء وصولًا إلى العصر الإغريقي والروماني والحضارة الهلنسيتة، ومن الحضارة الهلنستية إلى عصر آباء الكنيسة الأوائل، ومن توماس الأكويني إلى مؤسس فلسفة التأويل فرديريش شلايرماخير ومارتن هاديغير، متحركًا في رحلات مكوكية لا تكل ولا تملّ، ذهابًا وإيابًا، في لغة لا تخلو من خفّة ظل، تصل أحيانًا إلى حد السخرية أو الهجاء اللاذع، مقتربًا من أسلوب نيتشه الحادّ المدمّر.

وتجدر الإشارة إلى أن أصل الكتاب يعود إلى محاضرة كان سلوتيردايك قد ألقاها في جامعة فرايبورغ تحت عنوان: "الديـن بعد تحريره من السحر"، وكذلك إلى مساهمة موسعّة قدمها سلوتيردايك في الكتاب التذكاري الصادر احتفاءً بعالم المصريات الشهير "يان أسمان".

يتساءل سلوتيردايك في البداية: ما السماء؟ نحن لا نعرف على وجه اليقين، لكن كل ما نعرفه عنها هو أن السماء لا تتكلّم. لكنه يعود فيقول: ولكننا نتوق إلى سماع صوتها، نريد ذلك بشدّة، لا بل إننا نريد ما هو أكبر من ذلك، نريدها أن تتوجّـه إلينا، بل أن تشملنا بالسكينة. في مقدمة الكتاب ينوّه سلوتيردايك تنويهًا واضحًا أن المقصود بمفردة "السماء"، ليس القبة الفلكية المحيطة بالأرضية، ولا الأجرام السماوية، بل المقصود هـو المعنى المجازي، مشيرًا إلى أن "السماء" هي استعارة مُغلفّة، أو استعارة مستورة من الدرجة العالية الرفيعة، لأسباب نفسية عميقة تذهب إلى أن الإنسان طالما تخيل المحيط الكوني على هيئة كـرّة أو نصف كرة.

في الفصل الأول من الكتاب يرصد سلوتيردايك ارتباط تصوّر عالم الآلهة بالشعر والأدب. ففي واحدة من أقدم الصور الدينية المعروفة نرى الإلهة المصرية القديمة "نوت" إلهة السماء مُنحنية على الأرض وهي مرصعة بالنجوم، مُقدّمة بذلك أسمى آية من آيات شمول السماء للأرضِ برعايتها. يذهب سلوتيردايك أن الشوق إلى الإلهي Sehnsucht هـو منبع الدين الحقيقي، وهذا الشوق هو السبب في منشأ شعرية الدين، أو شعرية اللاهوت وفق تعبير سلوتيردايك، الذي هو –في التحليل النهائي- ردّ فعل الإنسان على السماء الصامتة، مؤكدًا أن كل محاولات الشعراء والفنانين ما هي إلا محاولات لاستنطاق السماء، ودفعها إلى أن تتحدث إلى البشر.

يشير سلوتيردايك أن الآلهة الإغريقية كانت على الدوام تكتفي بدور المتفرّج على الأحداث، يسكنون جبال الأوليمب مكتفين بإلقاء نظرة على أفعال البشر من دون تدخّل منهم، وفي أوقات الحروب يمكثون في انتظار رؤية مناظر القتلى من الطرفيْن، فيتسائل هل كان هومير الشاعر الإغريقي أول ما حاول إنزال الآلهة من عليائها لتقترب من البشر؟ هل كانت ملحمتَي الإلياذة والأوديسة محاولة "لإنطاق" السماء الصامتة؟ استنطاق الآلهـة لكي تقول شيئًا إلى البشر؟ ينتقل بعدها إلى مناقشة رؤية الفلاسفة الإغريق، فيضرب مثلًا بالفيلسوف "أبيقور"، الذي ذهب إلى أن الآلهة كانت أقدس من أن تهتم بأمور البشر، ومن ثمّ نشأت الحاجة إلى الشعر والملاحم والفنون لمحاولة استنطاق السماء، ودفع الآلهة إلى الحديث إلى البشر.

وهكذا يمضي الفيلسوف الألماني عبر صفحات الكتاب، مستفزًا القارئ بمعرفته الموسوعية الهائلة، ونظرته الثاقبة للنصوص الأدبية والدينية التي أنتجتها القريحة البشرية على مدار آلاف السنين.

السؤال: هل يطرح سلوتيردايك سؤالًا حول وجود الله من عدمه؟ هل يسعى الرجل إلى إثبات حاجة البشر الفطرية إلى وجود إله يسكن السماء، إله رحيم شفيق، عبر تفحّص مئات النصوص الأدبية والنظريات الفلسفية؟ باعتباره فيسلوفًا علمانيًا غربيًا يرسم الرجل عبر صفحات الكتاب كيف تصوّر البشر آلهتهم؟ لماذا احتاج البشر إلى الآلهة؟ ولِم صوّروها على هيئة؟

تم تلخيص الفصول الاثني عشر الأولى تحت عنوان: "Deus ex machina، Deus ex cathedra"، فكما قلنا تناول الفصل الأول "الآلهة على خشبة المسرح" سمات كل نظرة دينية في العالم، وتطوّر ظهور فكرة الإله، حيث يشير سلوتيردايك إلى أن الإله كان أداةً أو آلـة أداة اخترعها المسرح اليوناني القديم في أثينا، حيث تتناول تراجيجيات إسخيلوس أو سوفوكليس، أو يوربيديس صراعات بشرية شديدة التعقّيد، تنتظر منعطفًا تحرريًا لظهور إله أو آلهة.

يؤسس الفيلسوف الألماني أطروحته حول الطبيعة الشاعرية للأديان (كما نقرأ في صفحة 276)، عبر سيل هادر من الشواهد والأدلة التاريخية، فيعدُّ المسرح –كشل فني- وسيلة شكّلت العقيدة المسيحية، كما شكلَت العقائد التوحيدية بوجه عام. يقول سلوتيردايك: "في البدء كانت الكلمة مثلما يقول الكتاب المقدس، الماكنية التي صار من خلالها ظهور الآلهة على خشبة المسرح ممكنًا، مثلها مثل رافعة عملاقة تتأرجح فوق المشهد، حينما العمل الدرامي، ويكون ظهور الإلـه ضرورة لحلّ العقدة الدرامية؛ لذلك يوجد الإله". يتساءل سلوتيردايك كيف انتقل الإله من كونه غير مرئي إلى كونه مرئيًا؟ قام مصممو المسرح الأثيني بابتكار حيلة، بناء آلة رافعة، تتأرجح عالياً فوق المشهد في اللحظة المناسبة، وكانت هذه الآلة الرافعة العملاقة اسمها كان "اللاهوت".

يرى سلوتيردايك أن اللاهوت الديني هو الصيغة المكتوبة لكلمة الله فيقول: "الفرق بين القوانين والقصائد ليس وجوديًا، ولكنه ذو طبيعة نظرية. ومما يؤكد أن الصنفين لا يأتيان من عوالم منفصلة، أن كليهما يستمدّ حياته من الاقتباس والتلاوة والتمرير" [ص: 102]. يصل المؤلف إلى هذا الاستنتاج عبر تحليله للشرائع أو الوصايا الإلهية، التي تلقاها النبي موسى من الله، فيقول: "النار المقدسة والكلمات (الوصايا العشر)، ألم تكن موجودة قبل وجود النبي موسى؟ بلى، لكنها الوظيفة التواصلية، ورغبة السماء في الحديث إلى البشر"، متسائلًا في فقرة ثانية: "أليست هذه سمة جوهرية من سمات تأليف القصائد كما يصف الشعراء. ألم نقرأ كلام الشاعرة النمساوية كريتسنيه لافانت: أن القصيدة تُـكـتَـبُ من تلقاء نفسها، وأنا فقط أمسك بالقلم، أو كلمة الشاعر الفرنسي الأشهير أرتو رامبو: عليك أن تكون رائيًا لتجعل من نفسك رائيًا".

ليس كتاب سلوتيردايك عن تاريخ الآداب في العالم، بل هـو محاولة شعرية لفهم فلسفة الدين، وفلسفة اللغة الدينية. ففي بداية الجزء الثاني من العمل يؤكد المؤلف بإيجاز واختصار؛ أن للشعر تأثيراته التي تُشكّل الواقع؛ لأن الفن الشعري منذ منشأ اللغة لم ينفصل عن عملية خلق العالم. في البدء كانت الكلمة بحسب الكتاب المقدس، ومن ثمّ شهدتْ الكلمة نفسها بداية الخليقة، ومن ثم فالكلمة هي المعمار الأولى للوجود البشري الجماعي.

في رؤية سلوتيردايك الدين هـو تدريب الإنسان على معرفة ذاته، معرفة نفسه بأرقى الصور، ومعرفة النفس هي معرفة الله في النهاية، وأن في مقدور الإنسان تلمسّ سبل عديدة لطرائق مخاطبة السماء للإنسان، عبر تفحص تاريخ الأدب وتاريخ الفكر من المنظور الفني والشاعري.


(1)  Die Relegion nach ihrer Entzauberung، مصطلح Entzauberung في العلوم الإجتماعية طوره عالم الاجتماع الألماني الرائد ماكس فيبر بعد أن أخذه من الشاعر الألماني فريدريش شيلر ليشير به إلى طبيعة مجتمع الحداثة المعلمن حيث أن نزع السحر عن العالم هو أحد أبرز مظاهر الحداثة بالإضافة إلى المحددات الأخرى مثل البروقراطية ، الفردانية ، الديمقراطية ..الخ، نزع السحر عن العالم إشارة لتصور الإنسان الحديث للعالم المؤسس على النظرة العلمية و للمجتمع المؤسس على النظرة العلمية (المترجم).
 

بيانات الكتاب
Den Himmel zum Sprechen bringen ┆ Über Theopoesie ┆ Peter Sloterdijk
Publisher: Suhrkamp Verlag 2020

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها