السرد والتاريخ عند بول ريكور

سعيد الفلاق

يحظى مفهوم الذاكرة باهتمام كبير من لدن بول ريكو (Paul Ricoeur)، فلقد سعى في مختلف مؤلفاته إلى النظر في تحديدات الذاكرة وإشكالاتها القوية، في ارتباطها بالتاريخ والسرد والنسيان، ولا شك أنها تطرح بإلحاح قضايا يصعب الفصل فيها، ومع ذلك نجد ريكور يقدم تحليلات دقيقة وغنية عن التباسات الذاكرة مع محيطها ومع الماضي. لذلك نراه يخوض في قضية كتابة التاريخ وتمثيل الماضي، منطلقاً من ثلاثة أسئلة جوهرية تتقصد البحث في طبيعة النص التاريخي وتعاطيه مع السرد، فكيف يمكن لكتابة التاريخ أن تفي، و"تشرّف الميثاق الضمني للقراءة"، الذي يفترض مسبقاً أن المؤرخ يقدم "سرداً حقيقياً لا خيالياً"؟

إن هذا السؤال حسب ريكور يحيل على "التمثل الذاكري"، لكنه يرى من الواجب التمييز بين الذاكرة والتذكر، ويعود هنا إلى طروحات أرسطو المؤسِّسة؛ فإذا كانت الذاكرة "فرع من الزمن" بلغة أرسطو، فإن التذكر لا يعدو أن يكون استحضاراً وإعادة تنظيم؛ أي استحضار الذكرى والبحث عنها. لكن إن كانت الذكرى عبارة عن صورة، كيف يمكن تجنب خلطها مع الخيال والوهم والهذيان الذي يمكن أن يتسرب إليها؟ يبدو أنه من الصعب الإجابة عن هذا السؤال كما يقر ريكور؛ لأن ما من شيء يضمن صدق الذاكرة ونقاءها، هنا تكمن "رواسب المشكلة"، وتتعقد مسألة الذاكرة واستيهاماتها الخطرة، فلا نعرف إلى أي حد ستكون مخلصة في الاستحضار، ولعلّ هذا الإشكال ما جعل ريكور يتحدث عن الانتقال من الذاكرة إلى التاريخ، رغبة في تجاوز ثغرات الذاكرة المحفوفة دوماً بتهديد النسيان لكن كيف يتمثل التاريخ الماضي؟ كيف يعيد كتابته؟ يطلق ريكور على عملية التمثل هاته مصطلح "التمثلية". مبيناً أن كتابة التاريخ تخضع لثلاث مراحل "لا تشكل مراحل متعاقبة؛ وإنما مستويات لسانية، وإشكاليات متداخلة"، فأما المرحلة الأولى فيسميها بـ"طور وثائقي"، القائم على الشاهد واستحضار "الوثيقة"، واستنطاقها بهدف الفهم، وهنا يتدخل التاريخ ليكون قادراً على "توسيع الذاكرة وتعديلها ونقدها"؛ لأنه يحاول الاستناد إلى المرجع الذي يدعمه في إطلاق الأحكام.

مما يعني أن الطور الأول طور استكشاف وبحث، واستقصاء من لدن المؤرخ أو المستعيد للتاريخ. في حين أن الطور الثاني يسميه بـ"طور تفسيري ـ إدراكي" يقوم على التفسير والفهم الساعيين إلى التمثل الاجتماعي للوقائع، من أجل تكوين صورة دقيقة متماسكة متفحّصة للمراجع والشواهد والوثائق. بينما يسمي الطور الثالث بـ"طور أدبي أو كتابي"، وهذا ما يهمنا في هذا البحث، حيث يلاحظ ريكور أنه في هذه المرحلة تبلغ "مسألة التمثل حدتها القصوى"؛ لأننا نلج إلى فضاء التشكلات السردية والبلاغية، الأمر الذي يجعل مسألة تمثل الماضي تمثلاً صحيحاً مسألة صعبة ومحفوفة المخاطر؛ إذ تظهر على الواجهة "علامات الأدبية" المخترقة لخطاب التاريخ، والراسمة لملامحه الموشومة بنفس سردي يصعب إنكاره، ولعل هذا الأمر ما أكد عليه ريكور في كتابه "الزمان والسرد" بأجزائه الثلاثة.

ومن خلال قراءتنا لهذا الكتاب الهام الذي قال عنه هايدن وايت بأنه "أهم عملية تأليف بين النظرية الأدبية والنظرية التاريخية أنتجت في قرننا هذا"، نلمس بوضوح توجه ريكور الثاقب إلى إعادة الوصال بين حقلي السرد والتاريخ، إلى درجة يقول فيها بأن: "التاريخ امتداد للسرد".

عمد ريكور في مشروعه الضخم الموسوم بـ"الزمان والسرد"، باعتباره واحداً من أهم الأعمال التي صدرت في أواخر القرن العشرين، إلى استجلاء مختلف التواشجات المؤسِّسة لعلاقة جدلية، لا تستقر على حال عند كثير من دارسي التاريخ على الخصوص، فبين سرد قصصي وسرد تاريخي معارك نقدية وفكرية حامية الوطيس.

من هذا المنطلق، فقد خصّص الجزء الأول لدراسة مفهوم السرد التاريخي، بينما اختص الجزء الثاني بالتوقف عميقاً عند مفهوم السرد القصصي، في حين انفرد الجزء الثالث بالبحث في الزمان المروي المشكّل للهوية السردية. فإذا كان السرد الأول يدعي التميز بالواقعية وطلب الحقيقة على حساب النوع الثاني؛ فإن ريكور يبين أن "في السرد التاريخي نزعة لإضفاء شيء من الخيالية وتبنّيها، تماماً بقدر ما في السرد الأدبي من ادّعاء بالتاريخية"، بهدف خلق زمان آخر يسميه بـ"الزمان الإنساني الذي ليس سوى الزمان المروي"، المحدد للهوية السردية التي سوف نعرّج عليها فيما بعد. ويقصد بالزمان المروي ذلك العالم المروي من "الحكايات الشعبية والأساطير، والقصص القصيرة والروايات والمرويات التاريخية". يظهر أن ريكور يوسع من مدى دراسته لمختلف المرويات السردية. وهو بهذا يطالب بتشكيل "علمِ سردٍ كبير تتساوى فيه حصّتا السرد التاريخي والسرد القصصي"، دون مفاضلة بين الاثنين.

أما فيما يخص مقولة الذاكرة الجماعية؛ فإن ريكور يسجل أنها ظلت تعاني من "الهجانة على المستوى المفاهيمي"، نظراً لأنها حاولت ادعاء هيمنة السوسيولوجيا في مواجهة التاريخ، وللخروج من هذا المأزق يقترح ريكور مفهوم الانتساب المتعدد الذي يستطيع حمل أي فكر أو شعور، رغبة منه في إعطاء الذات مكانتها إلى جانب الذاكرة، فليس من الحق إدماج الكل ضمن نموذج يقدم نفسه أنه جماعي ومشترك بهدف استيعاب الفرد ضمن العام، يقول ريكور: "من جهتي، فقد وصلت بعد حيرة طويلة إلى قناعة مفادها أن الذاكرة كحضور في الذهن لشيء من الماضي، وكبحث عن هذا الحضور يمكن أن تنتسب مبدئياً لكل الضمائر النحوية: أنا، هي/ هو، نحن، هم، إلخ".

يسعى ريكور هنا إلى جرّ الذاكرة إلى منطقة متعددة حتى تكون عادلة، "إن واجب الذاكرة هو واجب إقامة العدل"، لا أن تكون متجبرة، طاغية تفرض هيمنتها المختلقة، فالإجابة بحسب ريكور عن سؤال: هل الذاكرة بشكلها الرئيس شخصية أم جماعية؟ يوجب تقديم جواب شامل، أكثر موضوعية ودقة، كأن "ننسب الذاكرة فقط إليَّ أنا، أو إليك أنت، أو إليه هو، أو إليها هي، أي دوماً بصيغة المفرد المتكلم، أو المخاطب أو الغائب".

ينكشف أن ريكور لا يهدف إلى إقامة تعارض بين الذاكرة الفردية والجماعية، بقدر ما يميل إلى تجسير العلائق بينهما، بشكل متكامل يصهر الذاتي والكلي في بوتقة واحدة لا تتأسس على الذاكرة فقط؛ وإنما أيضاً على فعل التذكر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها