المتَاحف الافتراضية؟!

أَفكارٌ إبداعية لِلمَعرفة وَالتَرفيه وَقت الأَزمات

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

تُؤدي المَتاحف أَدواراً مُهمة في حَياة الشُعوب؛ فَالمَتاحف على اختلاف أَنواعها تُعد مَراكز ثَقافية وعِلمية وتَربوية وتَعليمية تَعمل على تَحريك الوِجدان وتَنوير العُقول وَتَرسيخ المَوروث وَالهُوية، فَهي ليست مُجرد مَخزن لِلقِطع الفنية بَل هي أمَاكن لِحفظ التُراث الثَقافي لِكُل أُمة، كَما أَنّها تَقوم بِدَورٍ تَرفيهي مُهم، وَفي ظِل أَزمة فَيروس كُوفيد 19 المَعروف بِفَيروس كُورونا المُستجد، وَمَا نَتج عَنه مِن الإِغلاق التَام لِلمَتاحف العَالمية وَالمَواقع الأَثرية حَول العَالم، لِذا كَان لا بُد مِن التَفكير في حُلول بِديلة لِهَذه المَتاحف والمَواقع؛ وَمِن هُنا جَاءت فِكرة إِنشاء مَتاحف افتراضية نَستطيع مِن خِلالها وَنَحن جَالسون في بيوتنا أنْ نَزور أشهر المَتاحف العَالمية وَنُشاهد مُحتوياتها وَكَأننا في زِيارة حيّة لِهَذه المَتاحف، وَهَذه المَتاحف الافتراضية ما هي إلا نِتاج لِلثَورة التكنولوجية الهَائلة وَالتِقنيات الحَديثة التي استغلها الإنسان وَوظّفها بِشَكلٍ مُبتكر، فَمَا مَفهوم هَذه المَتاحف؟ وَمَا فِكرتها ومُميزاتها؟



مَفهوم المُتحف الافتراضي Virtual Museum

قَبل تَوضيح مَفهوم المُتحف الافتراضي، يَجب أن نعرف مَا المَقصود بِالوَاقع الافتراضي Virtual Reality؛ وَهو مُصطلح مُكوّن مِن كَلمتين هُما؛ كَلمة (الوَاقع) ويُقصد بِه حَالة الأَشياء أو الأحداث كَما هِي مَوجودة، وَكَلمة (الافتراضي) ومَعناها التَخيُّلي أو التَقريبي، وَبِذلك يَكون مُصطلح الوَاقع الافتراضي هو نُوع مِن أَنواع التَقليد أو المُحاكاة لِلوَاقع أو لِلَحقيقة بِاستخدام بَيانات افتراضية ثُلاثية الأَبعاد يَتم إعدادها بِشَكلٍ تَفاعُلي عَن طَريق عَدد مِن الأَجهزة المُتوافقة لِتِلك التكنولوجيا، وتُعتبر تِقنية الوَاقع الافتراضي مَن أَهم تَطبيقات التُكنولوجيا الحَديثة والتي تُستخدم في مُحاكاة الخبرات والتَجارِب الإِنسانية المُتنوّعة فِي شتّى المَجالات، وتمثّل النَماذج الثُلاثية الأَبعاد 3D Models العُنصر الأَساسي لِتلك التكنولوجيا، فَهي تَجعل الفَرد يتفاعل مَع هَذه البِيئة الافتراضية التَخيُّلية، وَمِن ثَمّ تَتكوّن لَديه خبرات وَمَفاهيم جَديدة تُسهم في تَحقيق فَهم أَكثر عُمقًا في مُختلف المَوضوعات.

وَمِن هُنا جَاءت فِكرة المُتحف الافتراضي؛ والذي هُو بِمَثابة رِحلة تَفاعلية إِبداعية عَلى شَبكة الإِنترنت لِلتعرُّف عَلى مَا تَحتويه هَذه المَتاحف مِن قِطعٍ وَمُقتنيات فَنية مُختلفة؛ وَذَلك مِن خِلال الرَبط بين القِطع الأَثرية الحَقيقية، وَالتَوثيق الرَقمي لَها بِاستخدام أَحدث تِقنيات الوَسائط المُتعدِّدة في بِيئة تَفاعُلية تَعتمد عَلى التكنولوجية السَمعية وَالمَرئية، وَيَتم فِيه إِيصال المَعلومات بِطَريقة سَهلة مِن خِلال جَولة افتراضية في أَرجاء فَضاء ثُلاثي الأَبعاد مُشابه لِلمُتحف الوَاقعي مَع إمكانية الحُصول عَلى المَعلومات وَالتعرُّف عَلى مُقتنيات تِلك المَتاحف مِن خِلال قَاعدة بَيانات تَتضمّن البُحوث وَالدِراسات المُرتبطة بِتلك المُقتنيات، وَغير ذَلك مِن الخِدمات المُتحفية المُتنوِّعة.
وَالوَاقع أنّ فِكرة المَتاحف الافتراضية تُعتبر تَطورًا لِفِكرة المَتاحف الرَقمية والتي ظَهرت في تِسعينيات القَرن العِشرين، ويُعرّف المُتحف الرَقمي بِأنه: منصة تَنشر بِها المَتاحف الكَبيرة وَالصَغيرة مَعلومات عَن أَغراضها، وكَان مِن أَشهرها مُتحف أَبل لِلكمبيوتر الذي تَمّ إصداره كَقُرص مَضغوط عام 1992م، غير أنّ المَتاحف الافتراضية تَطوّرت بِإضافة فِكرة البِيئة التَفاعلية مِن خِلال إِعادة إِنشاء مِساحة ثُلاثية الأَبعاد مَع تَمثيلات مَرئية لِلمُتحف عَن طَريق استعارة مِعمارية ثُلاثية الأَبعاد والتي تُعطي لِلزَائر إحساساً تَفاعليًا رَائعًا، وَمِن أَشهر أَمثلة المَتاحف الافتراضية؛ مُتحف اللوفر بِباريس، والمُتحف البِريطاني في لندن، ومُتحف المِتروبوليتان للفنون بنيويورك وغيرها كثير. ويُعتبر المُتحف الافتراضي المَعروف بـ(اكتشف الفن الإسلامي) التي تُصدره مُؤسسة متحف بلا حدود في بُروكسل أكبر مُتحف افتراضي في العَالم، وتُعتبر دَولة الإِمارات المُتحدة مِن أوائل البُلدان العَربية التي اهتمت بِتقنيات التَعليم الافتراضي في العَديد مِن المَجالات، ويُنسب لها السَبق في إنشاء مُتحف المُستقبل بِدُبي؛ وَالذي يُقدّم حُلولاً عِلمية مبتكرة لمُعالجة تَحدِّيات المُستقبل وَمن ضِمنها تُكنولوجيا البِيئات الافتراضية، وتَمتلك الإِمارات عَددًا هَائلاً مِن المَتاحف المُتنوّعة التي تُطبّق التَجربة الافتراضية وَمِن أَمثلتها: مُتحف الشَارقة لِلفنون الذي يُعتبر أَهم مُتحف خَاص بِالفُنون في الإِمارات، وَكذلك مُتحف اللوفر في أبو ظبي وغيرها كَثير.


تَصميم وتَجهيز المُتحف الافتراضي

هُناك ثَلاث مَراحل أَساسية لإنجاز أي مُتحف افتراضي أَولها؛ جَمع وَأرشفة المَعلومات بِشَكل عِلمي ودَقيق مِن أَجل بِناء قَاعدة بَيانات شَاملة تَتَضمن تَعريفاً للمُتحف وَعَرضاً لمُقتنياته المُختلفة، أمّا المَرحلة الثَانية وهي تَصوير القِطع الفنية، وَأخيرًا مَرحلة التَحويل إلى مَعلوماتٍ رَقمية، وتُعتبر مَرحلة التَصوير هي البِداية الفِعلية لإعطاء صِفة الافتراضية لِلمَعروضات لِتَأتي بَعدها مَرحلة تَحويل هَذه الصُور مِن خِلال عِدة تِقنيات رَقمية إلى مَعلومات تُشكَّل مِنها قَاعدة البَيانات، وتوجد أنواع مُختلفة مِن تِقنيات التَصوير بِالأَساليب الحَديثة المُستخدمة في إِنشاء المَتاحف الافتراضية، وَمِنها: عَاكس الأَشعة تَحت الحَمراء، وَالتَصوير بِالأَشعة السِينية، وَالمَسح الضَوئي بِالليزر ثُلاثي الأَبعاد وَغَيرها، ويَعتمد تَصميم المُتحف الافتراضي اعتمادًا كبيرًا على البَرمجة بِلغة (VRML)؛ والتي تَسمح بِإضافة دِيناميكية ثُلاثية الأبعاد لِصَفحة الويب لِهذه المَتاحف على شَبكة الإنترنت، وَلا بُد مِن تَوافر أَدوات لِعمل البِيئات الافتراضية لِهَذه المَتاحف وَمن أهم أمثلتها؛ الحَواسب وَمِا بِها مِن بَرمجيات وتَطبيقات حَديثة تَسمح بِإنتاج نمَاذج ثُلاثية الأَبعاد، وتُساعد عَلى عَمل مُحاكاة وَاقعية لِلبيئة ومِن أَشهر أَمثلة هَذه البَرامج؛ بِرنامَج 3D Max، وبِرنَامج Time Scope وغيرها، بِالإضافة إلى شَاشات العَرض التَفاعلية المُختلفة، وَقد قَام الاتحاد الأوربي بِتَأسيس العَديد مِن المَشاريع لِدَعم المَتاحف الافتراضية مِثل (V-Must)؛ ويُقصد بِه المُتحف الرَقمي العَابر لِلحدُود، والذي يَهدف إلى تَزويد قِطاع التُراث بِالأَدوات والإمكانات وَتَقديم الدَعم لِتَطوير المتاحف الافتراضية.

أهمية ومُميزات المَتاحف الافتراضية

لِلمَتاحف الافتراضية أَهمية عَظيمة ومُميزات كَبيرة خُصوصاً في ظِل مَا يَطرأ عَلى العَالم مِن أَحداث سِياسية أو أَزمات اقتصادية أو حُروب وصِراعات، أو جَائحات مَرضية مِثل الأَوبئة التي قَد تَجتاح العَالم وتَقف حَجر عَثرة في طَريق السِياحة وَالسَفر، فَهِذه المَتاحف تَتخطّى حُدود الزَمان وَالمَكان، وتُقدم الخِدمة المُتحفية لأي شَخص في أي مَكان بِالعَالم؛ وتَسمح لِلفَرد وهو في مَنزله مِن خِلال الهَواتف الذكية أو أَجهزة الحَاسب الآلي المُختلفة بِالتجوُّل وِمُشاهدة مُقتنيات هَذه المَتاحف عن بُعد، كَما أنّ هَذه المَتاحف الافتراضية تُقدّم حُلولاً لِلتغلُّب عَلى عَائق مَحدودية المِساحة في المَتاحف العَادية، كَما أنّها يُمكنها أنْ تَضم آلاف المَعروضات بِدُون أي قُيود عَلى كِميتها أو حَجمها، وَهذه المَتاحف تَعمل على حِماية المُقتنيات المُتحفية وَصِيانتها؛ وَذلك لِما تُوفِّره من بِيئة آَمنة، فهي مُناسبة خُصوصاً للمَتاحف العادية التي تَتعرّض لِخَطرٍ مُباشر في المنَاطق المُعرّضة لِلحُروب وَالصِراعات كَاليمن والعِراق وسُوريا وغَيرها، حيث يُمثّل نِظام البِيئة الافتراضية لِهذه المَتاحف طَريقة آَمنة لِزِيارة البِيئة الوَاقعية التي قد يَكون مِن الصَعب أو الخَطر التَعامل مَعها.
كَما أنّ المَتاحف الافتراضية تَعمل عَلى تَحسين جَودة التّعليم والتَعلُّم؛ فَهي تُعتبر أَداة تَعليمية مُبتكرة وَنَشاطاً إِبداعياً يُتيح تَعليمًا تَفاعُليًا وَخبرات تَعليمية مُتميزة تَسمح بِاستكشاف المَعروضات المُتحفية في صُورة شيقة ومُثيرة لِعَملية التَعلُّم، حيث يَجمع بين الصّوت والصُورة والحَركة واللون، وهَذا بِدوره يُساعد في تَنمية القُدرات العَقلية والمَهارات الذَاتية مِثل مَهارات التَأمُّل وَالتفكير والتَخيُّل البَصري، والمُلاحظة وَالاسكتشاف العِلمي، أضف إلى ذَلك الدور المُهم التي تَلعبه هَذه المَتاحف في التَنشيط والتَرويج السِياحي، فَهي البَديل الذَكي لِلسِياحة الثَقافية،؛ بِما تُقدمه مِن حُلول رَائعة لِتَخطِّي الحَاجزين الزَماني وَالمَكاني.
 

وَأخيراً، أَصبحت المَتاحف الافتراضية طَفرة تَتبعها العَديد مِن المَتاحف العَالمية في كل أنحاء العالم، كَضَرورة حَتمية لِتَجاوز فَتَرات الأَزمات بِطُرق إِبداعية تَفاعلية وَمتطوِّرة وَجَذَّابة وَمُواكبة لِلتطوّر التكنولوجي.


المراجع
1. أسماء حامد عبد المقصود: المعرفة البصرية كميزه تنافسية مستدامة في المتاحف الافتراضية، مجلة التصميم الدولية، المؤتمر الدولي الرابع لكلية الفنون التطبيقية في الفترة ما بين 28-29 فبراير2016م، ص: 1-30.
2. عماد خليل وآخرون: الواقع الافتراضي وعلم الآثار، دراسات في تاريخ الوطن العربي 15، الاتحاد العام للآثاريين العرب، القاهرة، ص: 364-382.
 .3Dennis Tsichritzis & Simon Gibbs, Virtual Museums and Virtual Realities, International Conference on Hypermedia & Interactivity in Museums.1991
ملحوظة؛ تقنية (VRML) هي اختصار (Virtual Reality Modeling Language)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها