فلنزرع الفرح بدواخلنا!

لـ: رومان مازنود Romain Mazenod

ترجمة: زهرة إباحسون

وباء، إرهاب، وأزمة بيئية... كلّها مصائب 2020 التي جلبت لنا من الأخبار كلّ ما هو متعب وصعب.. لكن حتى في الأوقات العويصة، من الممكن تذوق الفرح الداخلي. هذا هو وعد عيد الميلاد (النويل).
 

رومان مازنود

عندما حدثت الموجة الأولى من جائحة كورونا (Covid-19)، وذلك في الربيع الماضي من سنة 2020، تطوعت السيّدة ماريون، في سنّ 45 عاماً، وهي ممرضة من مدينة تولوز الفرنسية، للذهاب إلى مولهاوس "Mulhouse" (رين العليا (Haut-Rhin))، في المستشفى الميداني الذي تم إنشاؤه لهذه المناسبة. وكانت "الوحدة التي كُلِّفَتْ بها، مع مرضى القصبة الهوائية، لم يكن لديها حينها كلّ المعدات الطبّية اللازمة. ولقد كان هناك النظام "د" (le système D)، وفي بعض الأحيان كان الوضع سريالياً تماماً. لكن، ويا لحسن حظّها، فقد تلقت الدعم الكامل من زوجها وأولادها الثلاثة، الذين تحدثت معهم كثيراً قبل مغادرتها إلى منطقة الألزاس. أيضاً، تقول: "لقد كنت متفائلة بطبيعتي، وكنت أركز على العمل، وعلى مساعدة الآخرين التي تمنحني السعادة".
 

 الإحساس بكونك مفيداً 

يؤكد كريستوف، وهو البالغ من العمر 56 عاماً -يشتغل كمقدم رعاية الأسرة (مساعد اجتماعي)- أنّه، وبعد تعرضه للاكتئاب، قد وجد رضىً حقيقيّاً في وظيفته. فهو يقول: إنّ "الرجل الأعمى الذي اهتم به، قد أصبح الآن أكثر من مجرّد صديق، بل إنّي أعتبره أخاً لي، حيث نضحك كثيراً معاً، وأحياناً نضحك حتى على تلك الأشياء التي تبدو طفولية جدّاً؛ فلعلّ هذا التوافق بيننا هو مصدر راحة كبيرة لي".

كثيرون هم الذين مرّوا بتجربة الاختبار؛ أي مروا بأوقات الشدّة، بحيث يُتاح للمرء الإحساس بأنّه نافع ومفيد للحفاظ على الخيرات المتاحة والمساهمة في خلق الفرح. ولكن أيضاً يوجد هناك عديد من الطرق الأخرى التي يجب فيها أن يكون المرء حريصاً حتى لا يبتلعه الخوف أو الألم. وذلك لأنّه حتى في هذه الأوقات العصيبة التي تضعف فيها ثقتنا في الحياة؛ فإنه يلزم الحرص على ألا يهجر الفرح عالمنا. يقول مارتين ستيفنس (Martin Steffens) وهو أستاذ الفلسفة في ستراسبورغ الأولى (رين السفلى (Bas-Rhin)): "يتيح لنا النظر إلى فرح من بجوارنا تنمية هذه الهبة الإلهية داخلياً؛ لأنّه ببساطة عند قيامنا بذلك، نكون نحن أنفسنا مسكونين بهذا الفرح".
 

✲ لا حِظ... واستمع 

ينصح مارتين ستيفنس (Martin Steffens) بأن يفتح الشخص أذنيه منصتاً إلى "نشيد المخلوقات، حيث لا يعيد فرانسوا داسيز (François d’Assise) سحر العالم، بل يستمع أولاً إلى أغنية كائناته بنفسها. فها هنا يكمن مصدر فرحه». إنّ الاستماع إلى فرح هذا العالم لهو ما يمكن تجربته، على سبيل المثال، خاصّة أثناء إقامة الصلاة في حضن الطبيعة. من جهة أخرى، هناك طريقة أخرى للعودة إلى المسار الصحيح للحياة، إنّه التحكّم في التدفق المستمر للأخبار، وبخاصّة منها تلك التي تكون مقلقة في غالب الأحيان. تنصح ماري آن لورو (Marie-Anne Le Roux)، وهي كاهنة بينديكتية (Benedictine Oblate) بـ «التراجع عن كتلة المعلومات التي تأتي إلينا كل يوم. فعندما نبذل هذا الجهد، ندرك أننا في معظم الأوقات لسنا في حاجة إلى معرفة كل شيء، وعلى الفور».
 

✲ الثقة في الزمن الذي يفعل فعلته 

إنّه بمجرد ممارسة هذا التمييز، عندها يمكن أن تتحول نظرتنا إلى العالم كما هو. حقّاً هناك موقف آخر، وهو على كلّ حال موقف لا يقدر بثمن في اجتياز المحنة: إنّه موقف الثقة في الزمن الذي يقوم بدوره. فمنذ ما يقرب من سنتين، علمت ماري، 41 عاماً، أنّ ابنتها الصغرى، فوستين (Faustine)، مصابة بمرض التوحد. كانت الصدمة قوية. لكن شيئاً فشيئاً وجدت نفسها متغيرة: «الإعاقة ليس لها معنى في حدّ ذاتها؛ بل إنّي أجد أن هذه المحنة تمنحني المزيد من العمق الإنساني، وتجعلني أكثر انتباهاً للأشخاص الذين يكافحون. لذا أشعر بأنني أقرب الناس إلى إخوتي وأخواتي في الإنسانية. إنها تجعل حضور الله ملموساً عندي يومياً. لذا أرفض أن أحمّل نفسي أكثر مما لا تطيق، فمع فوستين (Faustine) أعيش يوماص بعد يوم في فرح تقبل الوضع. فمنذ إجراء التشخيص، ربما أصبح لديّ إحساس أقل بوطأة الألم، لكن بالمقابل الآن لدّي المزيد من الفرح الداخلي».
 

✲ "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" 

في كثير من الأحيان، وبطرق غامضة، تصبح بعض الوضعيات نماذج اختبار للتعلم. توضح الأخت ماري آن لورو (Marie-Anne Le Roux): «أنّ الأحداث التي تؤذينا، هي نفسها الوقائع التي تدعونا للقبول بالمشيئة الإلهية التي تجعل من الممكن خروج الخير من الشر». يستخدم المؤمن حكمة مجازية تقول: «يتعلّق قلبنا بصعاب المسالك كي يخرج أنقى ممّا كان؛ لأنّ المصائب تُتطهر القلوب. وها نحن الآن أنفسنا نشعر بذلك».

ينبهنا مارتين ستيفنس (Martin Steffens) إلى أنّ الفرح قد يأتي في منتصف رحلاتنا الصحراوية، فلنحرص على ألا «نفوت المحن دون أن نتعظ منها». ويؤكد على الأقل أنّه يحتفظ «بهذا المعنى على قلّته: ليذكرنا بأنّنا لسنا جميعاً أقوياء، إذ لا ينبغي أن نعتقد أنّه يمكننا المضي قدماً من مشروع إلى آخر، فنتخيل الإنجازات وتحقيقها بمفردنا دونما تواضع، ذلك أنّ الضربة قد تأتينا من حيث لا نعلم لتربكنا». غير أنّ ما هو غير متوقع، مهما كان مؤلمًا، قد يقدم أحياناً تجربةً حقيقية للإيمان.

يقول لِيا (Léa)، 42 عاماً، عازف كمان: «خيبة أمل، صداع، وإزعاج... أي شيء هذا الذي يمكنه أن يكون مكانك حين اللقاء مع الرب». أعتقد أن الفرح يأتي من سيرنا جنباً إلى جنبٍ مع الإرادة الإلهية، تماماً كطفل محبوب لدى أبيه. أحياناً نكون بعيدين، لكن إذا أردنا ذلك، يمكننا الاعتماد على وجود مُحب يحبنا ويمنحنا العطف. تعجبني صورة العاصفة على بحيرة الجليل. فقد يمكن أن تكون هناك رياح قوية، تهبّ على السطح، لكن قاع البحيرة يظل هادئاً».
 

✲ عدم اليقين باعتباره وعداً 

في حالة عدم اليقين التي نمر بها الآن، والتي لا نعرف كم مدتها، «من الممكن لنا إدراك التهديد فقط؛ لكن يمكننا أيضاً أن نرى في هذا الوضع وعداً بالسعادة»، يضيف مارتين ستيفنس (Martin Steffens). هذا هو معنى عيد الميلاد: فقد وُلِد يسوع في فلسطين تحت الاحتلال الروماني، حيث كان يتم التحكم في كلّ شيء، الإحصاء، والخوف. لا، بل إنّه وفي ظلّ هذا العالم الذي تم اختباره، يتجسد الوعد في الولادة، أو هكذا يتذكر الفيلسوف.

«الفرح الحقيقي، نحن لا نصنعه بأنفسنا، تضيف الأخت ماري آن لو رو، بل إنه دائمًا هدية من الله. في عيد الميلاد، ننال فرح الخلاص، ذاك الذي يمكن أن يفاجئنا، وهو فرح حلو وهادئ، نختبره في حياتنا اليومية العادية. وأنا أؤمن بشدّة أنّه حتى بالنسبة لأولئك الذين يعانون من العزلة أو الألم في هذا العام بالذات؛ فإنّ رحمة الله واسعة. فمن خلال مراسيم قدّاس مُتلفز هناك ندعو ونتوسل الله: رحمته، هدايته، غفرانه، وأن يعطينا هبة الفرح».




انقر الصورة لقراءة  المقال الأصلي: !Cultivons notre joie intérieure

• تم نشر هذا المقال على موقع المجلّة الفرنسية LE PÈLERIN في يوم 27 دجنبر 2020، على الساعة 1:48 صباحًا
• رومان مازنود (Romain Mazenod): هو صحفي مستقل، يتابع القضايا الدينية، ويكتب في الموضوعات الروحية لمجلّة بانوراما وموقع صلاة الكنيسة.
وهو الصحفي الذي ينشّط البرنامج السياسي "Face au chrétiens"، حيث يعمل ضمن شبكة الإذاعة المسيحية RCF.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها