الدَّوْشان وفنّ الدَّوْشنة!

التُّراث وَالموروث الشّعبيّ اليَمني

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

يَمتلك اليمنُ مَخزوناً هَائلاً مِن المَوروث وَالتُراث الحَضاري المَادي وَاللاَّمَادي، وَتُمثّل القَبيلة في اليمن الركيزة الأَساسية في التَركيبة الاجتماعية في الجُمهورية اليَمنية، وَلِلقَبائل اليَمنية تَقاليدها وَأعرافها وَتُراثها الشَعبي المُميّز، ويُعتبر فن الدَّوْشنة جُزء مِن هَذا التُراث وَالثقافة الشعبية اليَمنية؛ وَالدَّوْشنة هي أحد أشكال الفُنون الصوتية الذي يعتبر فَرعاً مِن المَديح الشِعري، وَيَرتبط هَذا الفَن بِشَخصية مُهمة تُعرّف بِالدَّوْشان؛ وَالذي يُعتبر المُتحدّث الرّسمي وَالإِعلامي لِلقَبيلة.
 

مفهوم كَلمة الدَّوْشان

الدَّوْشان مُفرد جَمعها الدَواشين، وأصلها في اللغة مِن كَلمة الدَوَش أو الدَوْشة، وَهي كَلمة عَامية تعني الصّراخ أو الإِزعاج، وَالدَواشين هُم فِئة مِن فِئات المُجتمع اليَمني مِن فِئة (بَني الخُمس)؛ ويُقصد بِهم المُستضعفين الذين لا يَحملون السِلاح، وَيُعطون مِن خُمس الغَنائم، وَيَنتشر الدَواشين في شَمال اليمن وَالمَناطق الوسطى خَاصة في مَناطق الجَوف وَمَأرب وَالبيضا، وَكانوا يَعيشون حياة قَبلية في جَماعات صَغيرة مُتنقِّلة مِن قَبيلة إلى أُخرى1، وَيُمثل الدَّوْشان شَاعر وَمَدّاح القَبيلة الذي يَحفظ الكَثير مِن الأَشعار، وَبِخاصة أَشعار المَدح وَالمُناسبات، فَبعض الدَواشين يَحفظ دِيوان المُتنبي كَاملاً، وَيُقال إنّ اسم (دَّوْشان) مُحرّف عن (ذُو شَأن)؛ وفي ذَلك دَلالة على الشَأن العَظيم وَالمَكانة الكَبيرة للدَّوْشان2.

وَيَرتبط الدَّوْشان بِفن الدَّوْشنة وَهو أَحد الفُنون الصَوتية التي تُعتبر مَزيجًا مِن المَديح الشِعري وَالأَهازيج الشَعبية، وَمِن شُروط الدَّوْشان الذي يَمتهن فن الدَّوْشنة طَلاقة اللسان وَالصُوت العَالي المُشبع بِالبَحّة اللينة وَالرِقة الغليظة؛ حيث كان يَعتمد الدَّوْشان عَلى طَبقات صَوته، وَعلى قُدرته عَلى التّلوين الأَدائي؛ بحيث يُساير أَداءه الصَوتي تَعبير وجهي وَحَركي، وَبِالرغم مِن أَنّ أَقاويله مُكرَّرة إلا أَنَّ أَداءه يَملك سِر التَجديد بِفَضل البَراعة التي يَحذقها الدَّوْشان في تَلوّن صَوته وَإِيهامه بِالجِدة، وَيُمكن تَشبيه صَوته بِالأَصوات الإِذاعية التي تَعلو وَتَخفت تَلوينًا لِلصُوت3.



وَظائف الدَّوْشان

يَقوم الدَّوْشان بِمَهام وَوظائف مُتعدِّدة في القَبيلة، مِنها المَديح في المُناسبات الخَاصة وَالعَامة، وَيَقوم بِدَور شَاعر القَبيلة المُتخصِّص في نَـشر أَمجادها وَمَآثـرها عَن طَريق التَـغنِّي بِها في المُناسبات المُتـنوِّعة كَالزَواج، وَالأَعياد وذكر الانتصارات في الحُروب وغَيرها، وَتتلخّص مَهام عَمله بحيث يَرفـع صَوته عَالياً بَادئاً كَلامه بِكـلماتِ مَعـهودة هي؛ (حِيـك، وَحيّا أَبـوك وَجِدك يَامُكرم الضِيفان.. ويَا، ويَا)، ثُم يَسترسل بِذِكر مَحامد وَمَكارم الشَخص المَمدوح وَمَكَارم وَالده وَجِده .. إلخ، ثُم يَنتـقل إلى مَدح شَخصٍ آخر وَهَكذا حتى يُكمل مَديحه لِكُل مَنْ حَضـر تِلك المُناسبـة، كَما أَنّ مِن أَهم مَهام الدَّوْشان خَاصة أَوقات الحُروب، حيث يَنظر الدَّوْشان إلى نَفسه عَلى أَنّه شَلّال (مُهيّج) القَوم، حيث كَان يَتقدم الصُفوف لِيُثير هِمم وَمَشاعر الأَشخاص المُتردِّدين وَالمُتخوِّفين أثناء القِتال في الحَروب، أو المُناسبات التي يَتطلَّب الحَال فيها ظُهور رِجال القَبيلة بِمَظهر الوِحدة وَالقُوة4.

الدَّوْشان وَسيلة الإِعلام التقليدية لِلقَبائل اليَمنية

يُمثِّل الدَّوْشان وَسيلة الإِعلام التَقليدية في اليمن مُنذ القِدم، وَالتي كَانت لا تـقل في أَهميتها عَن أَهمية وَسائل التواصل الإِعلامي في العَصر الحَديث؛ فَهو بِمَثابة الإِعلامي الذي يَقوم بِنَشر الأَخبار عَلى المَلأ، فَمثلاً يَقوم الدَّوْشان بِإعـلان مَا يُـسمَّى بـ(الظاهرة)، وَذلك في الأَسواق الشـعبية الأسـبوعية، وَالمَقصود بِالظاهـرة هي الإِعـلانات الرسمية التي يُصدرها مُمثـلو سُلطة الدولة أو حَاكم السُوق5، كَما كَان غَالباً مَا يَتم الإِعلان عَن حَالة الحَرب، وَقَطع العَلاقات السِياسية القَبلية بِوَاسطته؛ فَهو يُساهم بِنَقل الخَبر بعد اجتماع كِبار القَوم في قَبيلة مَا، وبَعدما يَتدارسون الرأي فيما بَينهم يَطرحون النّتيجة عَلى الدَّوْشان لِنَشرها6، كَما يَقوم الدَّوْشان كَذلك بِإعلان اتفاقيات الصُلح وَالسلام بين القَبائل المُتنازعة7.

كَما أنّ من أهم أدواره في فَترات الحَرب بين القَبائل المُختلفة؛ قِيامه بِدورٍ يُشبه دَور الهِلال الأَحمر أو الصَليب الأَحمر؛ حيث يَقوم عِند حُدوث الحَرب بين قَبيلة وَأُخرى بِنَقل الرّسائل وَمَطالب الهُدنة وَالصُلح، كَما يَقوم بِنَقل القَتلى وَالجَرحى وَالمُصابين بين الأَطراف المُتحاربة في مِيدان القِتال، وَيَقوم كَذلك بِنَقل العَتاد وَالمُؤن أثناء الحَرب، وَذلك لأنه يَتمتّع بِحَصانةٍ اجتماعية8 تُمكِّنه مِن الانتقال بِكُل حُرية بين الأَطراف المُتصارعة دُون أن يَتعرّض له أحد بِسُوءٍ أو مَكروه، وَذَلك لأنّ أي إِساءة وَاعتداء عَليه بِمثابة إِساءة وَاعتداء لِشَرف وَسُمعة القَبيلة التي يَرتبط بِحِمايتها، كما يعتبر انتهاكاً لِلقَواعد وَالأَعراف القَبلية لِلمُجتمع القَبلي كَكُل9.

الدَّوْشان مَوروثٌ شَعبيّ عَريق

يُعتبر الدَّوْشان جُزءاً من الثّقافة والموروث الشّعبي في اليمن، فَهي مِهنة يَتوارثها الأبناء عن آبائهم ويَكتبونها في بَصائرهم، ويتميز الدَّوْشان بِأنّ لَهم لُغةً ومُفرداتٍ خَاصة بِهم، ويَحرصون عَلى ألا تَنتقل أو يَعلمها غَيرهم، وَكَانت مَساكنهم مِن الخِيام التي تُسمّى (الخدر) تَماماً مِثل البَدو، كَما يَتميزون بِمِلابسهم الشعبية التُراثية التي تَجعله مُميّزًا ومُهابًا عن غَيره؛ فَغالبًا مَا يَرتدي الدَّوْشان جِلبابًا أَسود يُسمّى(القَميص)، له كُم طَويل مَفتوح الأَكمام وَمَربوط إلى الخَلف، وَغالباً مَا يَترك الدَّوْشان ذِراعيه عَاريتين، وَيَـلفّ نِصـف جَسده الأَسـفل بِثَوبٍ أَبيض يُـسمَّى (المـقطب)، وَيَحتزم عَليه بِحِزام العَسيب المُستقيم في وَسـط البطن، ويَعلو العَسيب الجَنبية اليَمنية الشَهيرة، وكِلا العسيب والجَنبية مَصنوع مِن الفِضة، وَيَحـمل الدَّوْشان دَائمًا عَصا طَويلة شَـبيهة بِالرُمـح عَلى رَأسها حَـربة، يقاوم بِها الكِلاب وَالضَواري في الطُرق؛ فَهو يَعيش حَياة مُتنقِّلة مَا بـين أَفخاذ القَـبيلة وَبُـطونها، كَما أَنّ هَذه العَـصا تُعـطيه مَهابة، وَهو يَـتكئ عَليها عِند إلقائه قَصائد المَـدح وَالثَناء، وَكَذلك يَحمل في يَديه فَأساً صَغيراً حَاداً جِدّاً يُسمّى بـ(الحطيبي)، وَيَضع الدَّوْشان عَلى رَأسه قُـبعة سَوداء10.
 

أَهمية الدَّوْشان في حِفظ التُراث اليمني

للدَّوْشان دورٌ كَبير في حِفظ الأَنساب؛ فَمِهنته تَفرض عَليه أَنْ يَكون قَادراً عَلى الإِلمام بِسِلسلة النّسب لِلأَفراد وَالجَماعات القَبلية، فَيَقوم الدَّوْشان بِالمَديح لِرِجال القَبائل وَاحد تِلو الآخر ذَاكراً سِلسلة نَسبه، كَما أنه شَاعر القَبيلة الذي يَحفظ أمجادها ومآثرها التاريخية ويُبرزها بِشَكل شِعري وَيُردِّدها في مُختلف المُناسبات، كَما أنّه يَروي القِصص وَالأَحداث التّاريخية بِأسلوب أَدبي جَميل، وَتَعكس مَلابس الدَّوْشان المُميَّزة المَوروث الحَضاري لِلمَلابس اليَمنية التّراثية، كَما أَنّ مِهنة الدَّوْشان في حَد ذَاتها تُمثل حِفظًا لِلتُراث وَالعَادات وَالتَقاليد اليَمنية القَبلية.


الهوامش: 1. فضل علي أبو غانم؛ البنية القبلية في اليمن بين الإستمرار والتغير، 1985م، هامش ص: 152. ┇ 2. عبد الرزاق محمد العمراني، سفينة العمراني معارف ولطائف، صنعاء، ط1، 2013م، ص: 460. ┇ 3. عبد الله البردوني، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية، 1988م، ص: 111-115. ┇ 4. محمد محسن ظاهري، الدور السياسي للقبيلة في اليمن 1962-1990م، القاهرة، ط1، 1996م، ص: 105. ┇ 5. أحمد الجبلي، قاموس العرف القبلي في اليمن، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، صنعاء، ط1، 2019م. ┇ 6. عبد الله يحي الزين، اليمن ووسائله الإعلامية، دار الفكر المعاصر، 1995م، ص: 57. ┇ 7. مصطفى أبو العلا، الأدب الشعبي اليمني، دار الهدى للنشر والتوزيع، 2001م، ص: 55، أبو غانم؛ البنية القبلية في اليمن، هامش ص: 152. ┇ 8. حسين سالم باصديق، في التراث الشعبي اليمني، 1993م، ص: 113. ┇ 9. مطهر علي الأرياني، المعجم اليمني (أ)، في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية، 1996م، ص: 315-316. ┇ 10. أبو غانم، البنية القبلية في اليمن، هامش ص: 152..  الصور مقدمة من الكاتب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها