مع توفر الشروط وسقوط الأعذار!

لا زالت الرواية البوليسية غائبة عربياً

جلال برجس

لقد أصبحت الجريمة المنظمة في العالم العربي -ولو أن نسبتها قليلة قياساً مع الأرقام العالمية- حالاً واقعاً خاصة بعد عام 1991، حيث بدأت الطبقة الوسطى بالتلاشي أمام ما شهده العالم من تبدل وانفتاح صادمين تجلت فيهما ثورة الاتصالات، وقفزت إلى أعلى مراميها فجعلت العالم عبارة عن قرية واحدة، صار فيها من السهولة بمكان التواصل بكبسة زر مقابل ثقافات متنوعة، وإزاء أسباب ونتائج لانهيارات كبيرة بدءاً من سقوط الاتحاد السوفيتي، وحادثة برجي التجارة العالميين، وغزو الكويت، واحتلال العراق، وانتهاءً باندلاع ثورات الربيع العربي وما نتج عنها من خرابٍ هائلٍ على المعمارَين الداخلي والخارجي (المكان والإنسان) مما أفرز العديد من ردات الفعل على مختلف الأصعدة، ومما أضاف إلى قائمة اللاجئين في العالم أرقاماً خيالية ترتبط بمعاناة الإنسان من جور الإنسان وخراب المكان على يده.
ومن هنا ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتساءل كروائي! ما الذي يقف وراء غياب الرواية البوليسية عن القلم العربي؟ فمجتمعنا قد حقق –وللأسف- شروط المأساة لتتحقق المسوغات للكتابة عنها، وتشكلت لدي أيضاً قناعة بضرورة كتابة هذا الصنف الأدبي ليس من قبيل المحاكاة أو التقليد، بل لأنني أصبحت أؤمن بأن الرواية البوليسية قادرة على الاقتراب من جانب واسع مما يعانيه الإنسان العربي؛ إذا ما كُتب هذا الشكل الأدبي بوعي حديث يبتعد عن شكل الرواية البوليسية الكلاسيكية التي تعتمد الواقعة الجرمية وعنصر التشويق فقط، وتقترب من الوعي السيكولوجي بالشخوص، ومن الظروف التي أنتجت جرائم مثل هذه، ومن اللغة المناسبة التي عليها أن تحمل الفكرة إلى وعي القارئ.

من المتعارف عليه أن الرواية البوليسية ظهرت في الغرب على يد (إدغار آلان بو Edgar Allan Poe) عندما كتب قصته البوليسية "جرائم شارع مورغ" The Murders in the Rue Morgue عام 1841، ومن ثم توالت الأسماء التي كتبت في هذا الاتجاه على سبيل المثال لا الحصر (آغاثا كريستي، غراهام غرين، سومرست موم، دان براون، ستيفن كينغ، إمبرتو إيكو)، وتطور هذا الشكل السردي ليحظى باهتمام واسع في العالم من جهة القراء والنقاد، لكنه بقي في الجانب العربي مظلماً رغم أن هنالك محاولات ربما لم يكتمل جزء كبير منها مثل: "المغامرون الخمسة" لمحمود سالم، ونجيب محفوظ في "اللص والكلاب"، و"ملف الحادثة 67" لإسماعيل فهد إسماعيل، و"الشيء الآخر أو من قتل ليلى الحائك" لغسان كنفاني، وكذلك رواية الموريتاني موسى ولد أبنو "الحب المستحيل"، وروايتي رشيد الضعيف "ليرننغ إنغلش" و"تصطفل ميريل ستريب"، وحديثاً رواية "الفيل الأزرق" لأحمد مراد).

ومن الطبيعي أن (إدغار ألان بو) لم يكتب أول قصة بوليسية إلا حينما تحققت الشروط لكتابة مثل هذا النمط الأدبي الذي لم يكتب من قبل، ومن الطبيعي أن تُقابَل كتابة جديدة مثل هذه من قبل قراء ذلك العصر الذي كانت تسوده مدارس أدبية لا تتوافق مع ما كتبه (بو) من قصة بوليسية آنذاك؛ لكنها كانت الانطلاقة الأولى نحو الرواية البوليسية التي تعتبر الآن مصدراً رئيساً للدراما والسينما العالميين، وصارت قادرة على الاقتراب مما يحدث للإنسان، وتسليط الضوء عليه، وتفكيكه. لكن ليس من الطبيعي أن تبقى الرواية العربية بعيدة عن الكتابة في هذا الشأن أو على الأقل المحاولة فيه مع الأخذ بعين الاعتبار المحاولات العربية القليلة غير المكتملة كما أسلفت القول، رغم أن شروط وأسباب نشوء الرواية البوليسية باتت متوفرة. فما يمكن أن يحتاجه الروائي القادر على كتابة مثل هذا النوع هو: جريمة ومحقق، ولا أعتقد أن عالمنا العربي يخلو من هذين الشرطين خاصة في هذه الأيام، رغم أن هنالك أسباباً يعتقد البعض أنها تكمن وراء تجنب كتابة الرواية البوليسية، وأسباباً أرى فعلًا أنها تقف عائقاً أمام ذلك لا بد من الخوض فيها.

طبيعة المجتمع الرأسمالي

في سياق تطور المجتمعات الرأسمالية أنتجت هذه المجتمعات أدواتها الخاصة فائقة الذكاء للدفاع والمحافظة على مصالحها أمام اختلال الطبقات الاجتماعية والتفاوت بينهما وما يمكن أن ينتج عنهما من أشكال شتى من الجرائم تضر بتلك المصالح. لكن التطور وهو إحدى سمات المجتمع الرأسمالي توازيه تطورات أخرى بالمسار نفسه، فقد أنتج هذا المجتمع بطريقة غير مباشرة طبقة من المجرمين الأذكياء الذين كانوا يتفوقون على ذكاء أدوات حماية تلك المصالح، وما ذلك السعي إلا شكل من أشكال صراع البقاء في هذه المجتمعات، وهو ما دفع أن يكون تطوير الأدوات مستمراً دون انقطاع. لكن هؤلاء المجرمين انضموا إلى (مافيات) خروجاً من العمل الفردي الذي يبقى عرضة للفشل، ومن هنا أنتجت طبيعة المجتمع الرأسمالي عقليات إجرامية خارقة الذكاء. والتساؤل الملح في هذا الصدد هو هل أنتجت المجتمعات العربية عقلية إجرامية؟ برأيي الخاص أرى أننا وللأسف الشديد في بداية إنتاج أنماط من الذكاء الإجرامي؛ لأن جل العالم العربي قد دخل المنظومة الرأسمالية منذ 1991 وحتى ما قبل هذا التاريخ، ولو أنه بمكونه العام لم يحقق الشروط الكاملة للمجتمع الرأسمالي إلا أننا أصبحنا نلمس أن جرائم ذكية باتت تحدث ليس فقط بسبب طبيعة المجتمع الرأسمالي، ومتابعة الدارما البوليسية العالمية وإنما أيضاً بسبب الاختلالات الطبقية التي طرأت على العالم العربي، وهذه الاختلالات من شأنها أن تنتج سلوكات، وبالتالي لا بد لها أن تؤدي إلى مخيلة بوليسية روائية قادرة على الكتابة في هذا الشأن ما دامت الواقعة باتت تحدث بشكل ملحوظ.

نظرة الناقد

ومن جانب آخر هنالك جزء كبير من أسباب العزوف عن الأدب البوليسي يكمن في كيفية نظرة النقاد والروائيين والقراء العرب إلى هذا النوع من الكتابة، رغم أن الأدب في الأصل قد تكون انطلاقاً من علاقته بالواقع. وهذه النظرة أراها نظرة تسلسلية ابتدأت بالابتعاد النقدي عن الدعوة لكتابة هذا الشكل، ومن ثم الابتعاد عن نقده إن كتب باعتباره في أدنى مستويات الكتابة الإبداعية إن لم يكن برأي الكثير خارجها، وبالتالي ظل هذا الشكل مغيباً جراء هيبة الروائي العربي من كتابته خشية من الناقد والقارئ على حد سواء. نقدياً وعلى الصعيد الثقافي العربي تعاني كثير من الكتابات من تراجع دور النقد الذي هو معني بإعادة تشكيل الوعي، كما أنه معني بمواكبة ما يصدر ليصار إلى تشكيل هذا الوعي بأدوات سليمة. هذا على صعيد الأجناس الأدبية المعترف بها، فما بالنا بالأجناس الأدبية الأخرى كالرواية البوليسية غير المعترف بها عربياً. لهذا تغدو المحاولات دون جهد نقدي محض محاولات غير محسوبة العواقب. والسؤال الذي يطرح نفسه هل اطلع النقاد العرب على التّجارِب الناجحة في الرواية البوليسية حتى يتمكنوا من المواكبة أو الدعوة لرواية بوليسية عربية. ورغم الفجوة التي تجذرت مؤخراً بين الناقد والقارئ إلا أن هناك تأثيراً على رأي القارئ بنوع جديد من الكتابات مثل الرواية البوليسية، لكنني مع هذا أرى أنه من الضروري تجاوز الاعتراف هذا والذهاب نحو الكتابة في الأدب البوليسي، كتابة مكتملة سوف تؤدي إلى اهتمام نقدي يفتح الأبواب أمام الكاتب والقارئ للمضي فيها.

الاعتقاد بخلو العالم العربي من المخيلة الروائية البوليسية

هناك بعض من الروائيين باتوا يبررون ابتعادهم عن الرواية البوليسية رغم قراءتهم لـ(ستيفن كينج) ومن سبقوه، بأن الوسط السردي العربي يخلو من مخيلات روائية بوليسية ذكية قادرة على إنجاز هذا النمط من الكتابة والذي يتشكل برأيهم فقط في الفضاءات المدنية العصرية، وهذا صحيح من جانب وخاطئ من جانب آخر، فكما أسلفت القول فقد نشأ جيل بأكمله في فضاءات المدن العربية التي شهدت تبدلات خطيرة، وأحداثًا صقلت هذا الجانب فيهم وباتت قابلة للكتابة، مع الأخذ بعين الاعتبار متابعة الكثير من روائيي هذا الجيل للدراما العالمية المأخوذة عن الروايات البوليسية، التي قرأ عدد كثير منهم جلها. إن المراقب لهذه المرحلة من عالمنا العربي والمتمعن بالتبدلات والتطورات التي حدثت سيكتشف أن جيلاً جديداً عاش تفاصيل مختلفة من تبدل في السياسات الاقتصادية وانعاكسها على السياسي والاجتماعي، وبالتالي ظهور نمط جديد منظم من أنماط الجرائم بخلاف التي كانت سائدة من قبل، وما كانت إلا عبارة عن ردة فعل لحظية بناء على مفاهيم ومعتقدات اجتماعية تختلف مرجعياتها عن مرجعيات المدينة؛ لهذا تسقط هذه العقبة التي ما عادت عقبة أمام اقتحام فضاء جديد في الكتابة.

طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية

حينما نتأمل مصطلح الرواية البوليسية ربما يتساءل البعض هل لدينا (بوليس) بالمفهوم الغربي حتى تكتمل المعادلة للكتابة في هذا المجال؟ وهل يسمح للكاتب أن يطلع على الملفات المتعلقة بالجرائم؟ هذان السؤالان كان يمكن أن يطرحا كعقبة لو أننا عدنا انطلاقاً من هذه المرحلة إلى الوراء، حيث كان العالم العربي وبنسبة مرتفعة يرزح تحت (بوليس) سياسي يختلف عما هو قائم في الغرب، والآن ورغم ما يحدث في العالم العربي من انهيارات إلا أن تغيراً على هذا الحال قد طرأ وبدأت النسبة تختلف من دولة إلى أخرى. ومع ذلك فقد شكلت طبيعة الحياتين الاجتماعية والسياسية جزءاً من أسباب الامتناع عن الكتابة في هذا الشأن؛ إذ نشأ الروائي العربي وشرع بالكتابة في ظروف سياسية واجتماعية جعلاه مُعاينًا ملتزمًا، جاداً بالقضايا القومية والاجتماعية عبر مراحل تطور الرواية العربية. فمن جانب ما لم يكن بالإمكان أن تسمح البنية الاجتماعية وسلطتها أن يتطرق كاتب إلى جريمة قد حصلت بالفعل إذ يعتبر ذلك انتهاكاً للخصوصية دون الانتباه أن هذه الجريمة ضارة بالمكون الاجتماعي برمته.

لهذا فقد تلقى القارئ العربي كثيراً من الأعمال التي تقترب من مواضيع تؤرقه هو في الأصل، ابتداءً من نكبة فلسطين، وهزيمة 67، وانتهاءً بمرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي)، وما تمخض عن كل ذلك من أزمات. فقد انشغلت الرواية العربية بالقضايا القومية، والصراع العربي الإسرائيلي، ومؤخراً بقضايا الإرهاب. وذهبت كثير من الروايات العربية إلى الكتابة في شؤون الحب، هذه الكتابة التي ما أراها إلا دفاعاً غريزياً مقابل كل ما سببته السياسية والاقتتال وما أدت إليه من كوارث فسيطرت الشعرية على نسبة لا يستهان بها من المنجز الروائي العربي وخاصة هذه الأيام. وهذه الشعرية بالطبع لا تتوافق مع الكتابة في القضايا البوليسية التي تحتاج إلى لغة مختلفة.

لذلك أضحى القارئ غير قابل -إلى الآن- أن يقرأ رواية موضوعها جريمة قتل، أو ما شابه ذلك، رغم أن هذا النوع من الروايات قادر على الغوص في مسببات ونتائج البيئات الفقيرة التي ما تزال تنتج أكثر من شكل من أشكال التطرف سواء الديني أم الاجتماعي. فهو-أي القارئ- يتبنى وجهة النظر ذاتها التي يتبناها كثير من النقاد العرب، والتي مفادها أن الرواية البوليسية جنس أدبي هابط، ولا هدف له إلا التسلية غير المقبولة في هذه المرحلة.
 

الخلاصة

 أرى أن المرحلة المقبلة قد تفرز أعمالاً من هذا النوع، وربما تتسم بسمات مختلفة عن الرواية البوليسية الغربية. ولا أرى في ذلك نزوعاً نحو أدب التسلية، وعنصر التشويق والإثارة بقدر ما أرى أنه انعكاسٌ لما تمخضت عنه المراحل التي مررنا بها، وما أدت إليه اجتماعياً. ثمة جريمة منظمة تحدث في العالم العربي خاصة بعد التبدلات التي نشأت عن تمخضات العولمة، والأشكال الجديدة من السوق، ومفاهيم المال، والحروب التي طرأت عربياً وما تزال تهدم المعمارين الخارجي والداخلي للإنسان. وهذا الانعكاس إن كُتب سيأتي جزء منه مُعايناً وطارحاً للأسئلة؛ وقوفاً على ما آلت إليه الأمور. ومن المعلوم أن الرواية البوليسية عالمياً تقسم إلى قسمين، واحد سطحي لا هدف له إلا التسلية، وآخر ينفذ إلى عمق الأزمة، ويتعاطى معها طارحاً أسئلته التي تهم الإنسان (الشخصية الضحية) في أعمال مثل هذه. إن المعيقات التي كانت تقف في وجه الكتابة في الأدب البوليسي برأيي ما عادت معيقات، وما عاد أمام الكاتب العربي إلا اقتحام هذا المجال دون ريبة من عدم إقبال القارئ على ما كتب، وعلى الصعيد الشخصي أتنبأ برواية عربية بوليسية قادمة يكتبها الجيل الجديد.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها