الصّحراءُ الموريتانية.. عناق الذهب والأسطورة

محمد فال ولد محمد أطفل

الصحراء ليست رمزاً للمداءات المفتوحة فحسب، لكنها بالإضافة إلى ذلك موطن أصيل للذهب؛ فرمالها المتحركة تسبح فوق بحار منه. والصحراء الموريتانية البالغة ثلاثة أرباع إجمالي مساحة البلاد التي تناهز مليون كلم، قد استوفت نصيبها من المعدن الأصفر الذي لا تغيب عنه الشمس؛ ففي أربعة أركان البلاد البريق الأصفر كلون الشمس، وهي تغتسل أصيلاً في مياه الأطلسي.
 

يلمع الذهب في عيون الرمال المتدثرة، فيشي بغنى المكان ودلال الصحراء، وهي تتستر على زينتها وتخفي حمولتها الباذخة منذ آلاف السنين. الموريتانيون والصحراء صحبة دائبة وعشق بحرارة المنتبذ القصي، لم تسخ خلاله المحبوبة (الصحراء) بمكنوناتها من الذهب؛ فلم تبح بسرها الذي يفضحه أديمها الأصفر، لرجال أنهكهم ذرع مناكبها ومطاردة سرابها، إلا بمقدار ضئيل. لكن هذا البوح على احتشامه كان كافياً لجعل الموريتانيين يعرفون الذهب ويألفونه ويقدرونه حق قدره؛ فتغلغل في تفاصيل حياتهم، مشكلاً أغلب ملامح الصورة الجمالية للمرأة الموريتانية. بيد أن هذه العلاقة الوطيدة بين أبناء الصحراء: الإنسان الموريتاني الملتحف بسمائها والذهب الهاجع في أعماقها، ظلت تحكمها مفارقة قلما سجلها أو انتبه إليها السوسيولوجيون والأنثروبولوجيون؛ إنها مفارقة نشأت على قاعدة الأسطورة، أي أنها تتأسس على نوع من الخرافة واللامعقول.

ولم يكن الذهب في أفق هذه النظرة الملتبسة بالدلالات الميثولوجية نعمة صرفة كما يجب أن يكون؛ وإنما كان نعمة في طياتها نقمة؛ فبقدر ما كان مدعاة للخيرات ومبعثاً للسعد والوفرة المادية؛ بقدر ما كان مجلبة للشر والشؤم.

لقد شكل الذهب في الميثولوجيا الشعبية مصدراً وملهماً للعقل الأسطوري؛ فنسجت القصص التراثية حول رجال ونساء وعائلات عثرت على كميات من الذهب، فسارع إليهم الفناء يسابق الثراء؛ فقطعُ الذهب التي يتم العثور عليها ويسمونها في الموروث الثقافي، (الكنز)؛ بصرف النظر عن حجمها تستمطر، حسب هذه النظرة الخرافية، لعنات الموت والأمراض الخطيرة والشياطين، فتصيب من يحظون بالعثور على (كنز).

 وفي هذا السياق تذهب المرويات الشفهية التراثية إلى إحصاء عائلات هلكت عن بكرة أبيها بسبب عثورها على قطع الذهب، وحيازتها لها وانتفاعها بها. ومن ثم تحولت قطع الذهب التي يتم العثور عليها مدفونة أو مخبأة في الكهوف، أو بين الأطلال الدارسة إلى مصدر رعب حقيقي لدى ساكنة الصحراء. فلا الإعراض عنها ممكن وهي تشكل مفتاح الثراء في بيئة قاسية. لكن هذا الثراء يصبح مصدر قلق ومنبع خوف من مكروه متربص وشر مستطير، وفوت أكيد إن عاجلاً أو آجلاً، وهنا يصبح الذهب محركاً لمشاعر متناقضة تزدوج فيها السعادة بالشقاء.

وللخروج من هذا المأزق النفسي، وتجاوز هاجس الشعور بالخطر الذي أصبح مترسخاً، ويقينياً؛ بناء على تجارِب وقصص متواترة صادمة، لجأ السلف إلى ممارسة طقوس عديدة مثل التزام من يكتشف قطع الذهب المخبأة التي يدعونها كنوزاً بعدم سحبها وتركها حيث هي، إلى أن يجلب جملاً أو جاموساً أو قطيعاً من الغنم، فيقوم بذبحه في عين المكان وتوزيع لحومها على المحتاجين، كما يتعين على مكتشف الذهب أن يوزع جزءاً من الكعكة الثمينة ولا يستأثر بها كلها.

ويتم ذلك كله من منطلق الاعتقاد بأنه يوفر نوعاً من الأمان والحماية ضد الشرور والعواقب الوخيمة الناجمة عن العثور على الذهب والانتفاع بثمنه حسب تجارب الأهالي، غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فالميثولوجيا الشعبية التي أكسبت مفهوم الذهب بعداً دلالياً غامضاً يحيل إلى معان متضاربة من الأمل والخوف والرغبة والرهبة: الرغبة في الثراء السريع، والخوف من النقم الثاوية في أعماق تلك الثروة، أنتجت علاقة اجتماعية ملتبسة بالمعدن الأصفر، كان من تجلياتها أن عرف المجتمع الموريتاني ظاهرة عزوف عدد من العائلات عن ملامسة الذهب واستخدام حليه ومجوهراته كزينة للنساء، خشية شرور وعواقب يعتقدون أن استخدام الذهب سيجلبها لهم كما جلبها لأسلافهم.

وما زالت في موريتانيا حتى الآن، عائلات عديدة من مختلف الأوساط الاجتماعية تتوارث تقاليد عدم لمس الذهب واستخدامه كحلي للنساء، لكن المجتمع الموريتاني بدأ منذ فترة يتحرر من النظرة الميثولوجية للذهب؛ فالحاجة إلى الثروة والمال، لا تترك مجالاً لمظاهر اللامعقول وحكايات الأجداد. لذلك ينتشر آلاف الشباب الموريتانيين في طول البلاد وعرضها، وهم ينقبون عن الذهب، فيستخرجون، رغم غياب تقاليد التنقيب، كميات كبيرة دون أن يكون لمشاعر القلق أي مكان في حياتهم.

والحقيقة أنه إذا كان للمعدن الأصفر من ضريبة لا بد من دفعها على نحو ما يبرز في الميثولوجيا الشعبية الموريتانية، فهي في الوقت الحالي تمثلها حالات الموت الكثيرة بين المنقبين، لا بسبب العثور على الذهب هذه المرة؛ وإنما بسبب البحث عنه في مقالع، وعبر خنادق عميقة يتم حفرها بطرق بدائية لا تستجيب للحد الأدنى من معايير السلامة، فتنهار في أحيان كثيرة على رؤوس المنقبين مبددة أحلام الثراء السريع.

ولم يبدأ التنقيب التقليدي عن الذهب السطحي بهذا الحجم الكبير الذي استنفر آلاف الشباب الموريتانيين وحتى من جنسيات أخرى: سودانية وإفريقية، إلا منذ فترة قصيرة، وذلك بالرغم من وجود عملاق الذهب الموريتاني شركة "كينروس تازيازت Kinross Tasiast" كمستثمر رئيس في حقول صحراء تازيازت الغنية بالذهب منذ ما يقارب عقدين من الزمن تقريباً.

ويطرح التنقيب التقليدي عن الذهب إشكالات العلاقة بالشركة المالكة للمناطق الأكثر غنى، والتي تمنع المنقبين من الاقتراب من حماها، كما أن المنقبين يعملون في ظروف بالغة الصعوبة؛ فالمناطق التي يتحركون فيها تكاد تنعدم فيها نقاط المياه، وهي غير مأهولة وجرداء بالكامل، ودرجات الحرارة فيها جد مرتفعة، كما يصبح مناخها قارساً في فصل الشتاء. ونظراً لبعدها من المراكز الحضارية وصعوبة الوصول إليها اتسمت المعيشة فيها بالغلاء الشديد؛ فبرميل الماء الواحد قد يكلف عشرات الدولارات، غير أن الدولة الموريتانية قد أنشأت شركة خاصة بالتعدين سمتها شركة معادن موريتانيا.

وعلى الرغم من أن المنقبين يشكون من الإتاوات والضرائب الضخمة التي تفرضها الشركة عليهم إلا أنه من الواضح أنها قدمت تسهيلات كثيرة؛ فأنشأت نقاط مياه، ونظمت مجال وطرق العمل أكثر من ذي قبل، كما أصبحت الاتصالات الخلوية أكثر يسراً بفضل توسيع شركات الاتصال نطاق تغطيتها؛ بحيث شمل أجزاء عديدة من المناطق المفتوحة أمام المنقبين التقليديين.

لكن هذا النشاط الاقتصادي الذي يمثل في الوقت الحالي، درة القطاع الحر، في البلد يواجه مشاكل متعددة المصادر، فالأهالي والساكنة ينظمون من حين لآخر تحركات مناهضة للطريقة التي تجري بها عمليات التنقيب، حيث يرى حراك (بيئتي في خطر) على سبيل المثال، أن المواد المستخدمة في استخراج وفرز الذهب مثل السيانيد والزئبق تلحق ضرراً بالغاً ببيئتهم ومواشيهم، وتسبب مشاكل لصحة الإنسان، ومن ثم فقد نظم هذا الحراك وغيره احتجاجات عديدة مطالبة بمنع المواد الضارة بالبيئة وإبعادها عن المدن ونقاط الانتجاع.

وعلى العموم؛ فإن علاقة الموريتانيين بالذهب تكتسي اليوم طابعاً اقتصادياً، بموجبه يتزاوج في تخوم الصحراء الموريتانية التنقيب التقليدي، المعتمد على الوسائل البدائية والعمل العضلي، مع التعدين الحديث المجهز بأرقى المعدات والوسائل اللوجستية، والذي يحتكر أكثر الأراضي غنى بالثروة الذهبية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها