جون لوك.. رائد التنوير الغربي

عارف عادل مرشد

يرتبط مفهوم التنوير (Enlightenment) في الفكر الغربي بعدد من المبادئ، التي تدور حول تمجيد العقل والتفكير العقلاني المتحرر من سطوة المسلمات الدجماطيقية، ومن سيطرة وتسلط الغيبيات، مع احترام الفرد والإعلاء من شأن النزعات والتوجهات الفردية، والتشكك في قيمة الماضي وأهميته وجدواه، وفي فاعلية التراث التقليدي الذي لا يصمد أمام التجربة الإمبيريقية، مع الإيمان في الوقت ذاته بقدرة الإنسان غير المحدودة على التقدم.

كما كانت أيضاً حركة التنوير موجهة بشكل صريح أو مستتر ضد سلطة الكنيسة، ثم امتدت هذه المعارضة لتشمل كل النظم السائدة في المجتمع الغربي حينذاك، أي أنها تجاوزت المجال الديني البحت إلى الأنساق السياسية والأخلاقية والعملية، بل والجمالية أيضاً.

وقد تجسدت حركة التنوير بأقوى صورها في فرنسا في القرن الثامن عشر الذي يسمى عصر الأنوار ( (Age of Enlightenment، واعتاد مؤرخو الفكر هنا أن يلحقوا لقب "فيلسوف" باسم كل من كتب بروح جديدة في هذا القرن، سواء أكانت كتاباته في التاريخ أو العلوم، أو الدين أو القانون أو السياسة... فكان أن دعي هذا القرن أيضاً "قرن الفلاسفة"، ودرجت كلمة "فيلسوف" كرديف لمن خالف الشائع والمعتاد باسم العقل، فترسخ معنى العقلانية على أنها بناء كل الإنتاج الذهبي متمحوراً حول العقل وقدراته، وتحولت العقلانية لتعني الثقة الكلية بالعقل والإيمان بقدرته، ورفض ما عداه من سلطة.

عرف الإنجليز التنوير في القرن السابع عشر أي قبل الفرنسيين، إلا أن عصر التنوير الإنجليزي لم يكن معروفاً وواضحاً مثل عصر التنوير الفرنسي، وسبب ذلك أن الثورة الفرنسية (1789) هي الأكثر شهرة وانتشاراً، وكان تأثيرها كبيراً على محيطها الغربي، والنخب السياسية في العالم، فالثورة الفرنسية غطت واكتسحت كل الثورات التي جاءت قبلها كالثورة الأمريكية (1776)، والثورة الإنجليزية (1688).

ومن أشهر فلاسفة التنوير الإنجليز جون لوك John Locke (1632-1704)، والذي يُلقب "أبو التنوير" في الغرب، فالعمود الفقري للفكر التنويري الغربي يرتكز بكل تأكيد على فكر الفيلسوف جون لوك.

فجون لوك يمثل النتاج الطبيعي للثورة الإنجليزية، فلقد عاصر مخاطر الثورة التي اندلعت في الحقبة الرابعة من القرن السابع عشر، التي تلتها الديكتاتورية الدينية لأوليفر كرومويل، ثم عودة الملكية مرة أخرى على يد تشارلز الثاني، الذي جرت الإطاحة به مرة أخرى فيما عُرف بـ(الثورة العظيمة) The Glorious Revolution عام 1688، وهي الثورة التي وضعت أسس الملكية البرلمانية في إنجلترا، التي أصبحت النظام السياسي لبريطانيا حتى يومنا هذا، والذي بمقتضاه يملك الملك ولا يحكم، وتكون السيطرة للبرلمان مع الإبقاء على الهوية البروتستانتية لإنجلترا، وقد كان من الطبيعي أن يكون لهذه الثورة فلاسفتها ومن يدافعون عنها، وكان جون لوك أبرز هؤلاء، وهو لم يعرف أن دفاعاته الفكرية عن الثورة الإنجليزية جعلت من كتاباته حجر الزاوية للفلسفة التنويرية الغربية.

لقد أصدر لوك مجموعة من المؤلفات من أهمها كتابين صدرا عام 1690 الأول، بعنوان (رسالتان في الحكم) Two treatises of Government، يشتمل على أنضج ما كتب في الفلسفة السياسية، والكتاب الآخر هو (مقالة في الفهم البشري) An Essay Concerning Human Understanding، والذي يُعتبر على الصعيد الفلسفي أشهر مؤلفاته.

وإذا كان مؤرخو الفلسفة يعتبرون كتاب (مقالة في الفهم البشري) بمثابة محاولة منظمة لفهم المعرفة البشرية، وتحليلها للفكر الإنساني وعملياته وطبيعته، فلوك في طليعة من استخرجوا النتائج الفلسفية للعلم الحديث، وحللوا مضمون هذا العلم تحليلاً ينتزع مدلوله بالنسبة إلى السياسة والأخلاق والدين، فلنا الحق كذلك في القول بأن أهمية لوك لم تكن مقصورة فقط على ميدان الفلسفة، بل تعدته وانتقلت بطريقة طبيعية تطبيقية إلى ميدان السياسة والتنظيم الاجتماعي. فحركة التنوير التي سادت أوروبا في القرن الثامن عشر لم تكن سوى امتداد طبيعي للفلسفة السياسية للوك، تلك الفلسفة التي كانت تقوم على احترام القيم الإنسانية والحرية الفردية، سواء في الدين أو الفكر أو السياسة، وتنادي بحرية الفرد الذي كان قد انطمست شخصيته في ظل من استبداد الكنيسة، وتلاشت حقوقه وانصهرت في نار من طغيان الملوك وتعصبهم، فأصبحت حياته كلها واجبات بلا حقوق.

فقد كان لوك نصيراً لسيادة الشعوب، ولما كانت هذه الشعوب مكونة من أفراد فإنه من الواجب أن يستمتع كل فرد منهم بكافة حقوقه، وأهمها حق الحياة، وحق الملكية الخاصة، وحق الحرية، وهذه حقوق تقوم على الإنتاج كما يقول لوك، وليست منحة من الحكام أو الملوك.

هذه الصرخة المدوية التي أطلقها لوك في إنجلترا في القرن السابع عشر تجاوبت أصداؤها في أوروبا كلها، وكان لها تأثير مباشر في نجاح الحركات التحريرية التي قامت بها الملايين المكافحة، والشعوب التي كانت تُسخر لخدمة الاستغلال والإقطاع الاجتماعي والاقتصادي والديني.

فكان لها تأثير مباشر مثلاً في نجاح الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وذلك نتيجة لتأثير أراء لوك في فلاسفة التحرير الفرنسيين، مثل: فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو. فقد تبنى فولتير أفكار لوك عن الحرية والتسامح، وظل طوال حياته يهاجم كل تعصب، وخاصة الديني منه وينادي بالحرية، بينما أخذ مونتسكيو عن لوك نظريته في فصل السلطات، وأخذ روسو عنه نظرية العقد الاجتماعي. كما نص إعلان الحقوق الفرنسي لعام 1789 على أن الهدف من أي اتحاد سياسي، هو المحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان، وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم والاضطهاد.

إلا أن أهمية لوك وتأثيره السياسي لم يقتصر على فرنسا ولا أوروبا فقط. بل تعدتها كذلك إلى أمريكا، فكما كان لأرائه تأثير على مفكري الثورة الفرنسية؛ فإنه قبل ذلك، أثرت على زعماء الثورة الأمريكية عام 1776 الذين استلهموا أفكاره، ومبادئ ثورة 1688 الإنجليزية، ووثيقة الحقوق لعام 1689 في صراعهم ضد جورج الثالث ملك إنجلترا في ذلك الوقت، وبرروا تمردهم عليه بانتهاكه للعقد الاجتماعي.

يؤكد ذلك محاور التركيز في وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي التي كتبها وأعلنها توماس جيفرسون، وكان جيفرسون قد صرح قائلاً، وهو بصدد التعليق عليها: "إنني لم أشعر بضرورة تدعو إلى ابتكار أفكار جديدة لم أسبق إليها"، فقد أكد الإعلان الأمريكي على الحقوق التي منحها الخالق لكل البشر، وهي حقوق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة، وأن الحكومات التي تستمد شرعيتها من رضا المحكومين مسؤولة عن حماية تلك الحقوق. وقد نصت الوثيقة على أن هذه أشياء واضحة بذاتها –أي بديهيات- لا يحتاج صدقها إلى إقامة البرهان، وأنها حقوق مستمدة من الله، وليست هي بالهبات يمنحها الحاكم إذا شاء ويحبسها إذا شاء، وهي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته، بحيث يستحيل تصور الإنسان إنساناً بغيرها، وأنه إن قامت بين الناس حكومة فالناس أنفسهم هم الذين أقاموها لتحافظ لهم على تلك الحقوق، وهم الذين يغيرونها، أو يزيلونها، إذا هي قامت عقبة في سبيل تلك الحقوق الإنسانية.

فهي تتضمن ما يصح أن يكون مثلاً أعلى للإنسانية جميعاً، وفي ذلك يقول أبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية: "إنني ما أحسست قط بشعور -من الوجهة السياسية- لم أجده نابعاً من العواطف التي تبلورت في إعلان الاستقلال". فمن أين استقت هذه الوثيقة عناصرها؟ إن مضمونها الفكري لم يكن من ابتكار واضعيها، فجون لوك هو مصدر التفكير السياسي، الذي ساد الولايات المتحدة إبان ثورتها، وليس هو بالمصدر الذي نستنتجه استنتاجاً مما كان يدور عندئذ عل ألسنة الناس وأقلامهم، بل هو المصدر الذي كان يتردد ذكره صراحة على أنه المعين الذي استقى منه القادة مبادئهم بطريق مباشر، فمن كتابات جون لوك –قبل أي شيء آخر- استمد الأمريكيون سلاح الحجج التي هاجموا بها الملك والبرلمان في حكمهما المتعسف، ولو كان هناك رجل واحد يجوز أن يقال إنه ساد الفلسفة السياسية في عهد الثورة الأمريكية، فذلك هو جون لوك؛ إذ لم يكن الفكر السياسي الأمريكي إلا تأويلاً لما كتبه لوك.

ولم يقف تأثير لوك التنويري على القارة الأمريكية والأوروبية فقط، بل امتد تأثيره إلى قيم عليا سياسية بدأت تتحقق باطراد خلال القرن التاسع عشر، عبر سياسة معظم الدول التي كانت تسودها ثقافة أوروبا الغربية. هذه المثل العليا كانت تتضمن الحريات المدنية مثل حرية الفكر، والتعبير، والاجتماع، وأمن الملكية، ورقابة رأي عام مطلع، وعليم على المؤسسات السياسية. ففي كل مكان كان مقدراً لهذه الحريات أن تحقق بالفعل عن طريق الأخذ بأشكال الحكم الدستوري، وتقبل القواعد التي تقضي بأن تعمل الحكومة ضمن نطاق الحدود التي يسمح بها القانون، وأن، مركز السلطة السياسية يجب أن يستقر داخل هيئات تشريعية تمثيلية، وأن كل فروع الحكومة ينبغي أن تكون مسؤولة أمام هيئة ناخبين كانت تميل إلى أن تضم البالغين برمتهم من السكان.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها