فـي رحيل شعراء الحداثة الإمـاراتية

إضاءة على كتـاب "مشيئة {حكايات وحياكات}"

سريعة سليم حديد


 

في زمن الكلمة الصادقة تتربَّع الأصالة على عرشها لتكتب تاريخ من مرُّوا بقلم يقطر إعجاباً وحبّاً واحتراماً.. لتكتب عن الشعراء في دولة الإمارات مخلِّدة بذلك مآثرهم تاركة لهم بصمة على جدار الزمن، هذا الجدار الذي لا يقدر أي أحد على محو محتواه، فيبقى علامة فارقة في الساحة الأدبية الإماراتية، وذلك بقلم الأديب (عبد الله محمد السبب) في كتابه الذي بعنوان: مشيئة {حكايات وحياكات} في رحيل شعراء الحداثة الإماراتية، الصادر عن دار الكتب والدراسات العربية في جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2019م.



بيَّن المؤلف أسباب تأليف الكتاب قائلاً: إن (الكتابة عن الموت هي الكتابة عن الذات)، وهذا نوع من الوفاء تجاه الزملاء الراحلين وتجاه الكتابة.

الكتاب يتناول جانباً من السيرة الذاتية والإبداعية لستة من شعراء الحداثة الإماراتية، ممن رحلوا بأجسادهم، تاركين وراءهم إرثاً إبداعياً لا يمكن تجاهله، إضافة إلى اثنين من المثقفين العرب ممن لهم حكاياتهم الإبداعية معه.

كذلك يعتبر الكتاب من أدب السيرة، حيث يتحدث المؤلف عن سيرته الثقافية المباشرة وغير المباشرة مع المبدعين الراحلين الثمانية، أضف إلى ذلك كونه ديوان شعر، إذ يتضمن الكتاب مجموعة من قصائد الشعراء الراحلين، وقصائد لشعراء آخرين، بالإضافة إلى المراثي الشعرية التي كتبها المؤلف نفسه.

أوّلهم الشاعر أحمد أمين المدني (1931م-1995م)، فكان مسقط رأسه في "ديرة" دبي، وتلقى تعليمه أول الأمر في المدرسة "الأحمدية" حيث جالس الشعراء وهو صغير.
غادر إلى العراق ونال "ليسانس الشريعة والعلوم العربية" من جامعة بغداد، ليتم تعيينه أستاذاً في إحدى مدارس بغداد ومذيعاً في إذاعتها.

ثم ينتقل المؤلِّف إلى ذكر آثار الشاعر، نوجز منها: ديوان (حصاد السنين): 1968م، و(الأعمال الشعرية الكاملة) إصدار "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات"، الشارقة: 2006م. كما خصَّه بعض الأدباء بالدراسة وذلك في كتاب (النورس المهاجر: الشاعر أحمد أمين المدني) د. هيثم يحيى الخواجة.

من قصيدة (أم الجميع)، نقتطف:
هي الأرض أمي...
أم الزهور
أغني لها ما بفكري يدور
من الشوق والحب مثل البذور
إذا انتفضت في عروق الحقول
براعم، نافحة بالعطور...
أغني، أغني إلهي...
وأنهل نور...
مع الشمس عند الشروق
مدونة بارتعاش البروق...

عرَّج الأديب "عبدالله محمد السبب" على ذكر الشاعر خليفة محمد خليفة المر، فهو بالنسبة له زميل الثمانينيات في صحيفة "البيان" الإماراتية... لم يلتقيا معاً، ولكن كانا يلتقيان روحياً من خلال الكتابات التي كانت تجمعهما من قصائد شعر ونثر.

الشاعر "خليفة" الذي لم يمهله القدر للمضي قُدماً نحو السير في دروب الشعر التي أخلص لها، وتعامل معها بشفافية مطلقة.

وقد شارك في نشرة "النورس" التي أسسها وتبناها الشاعر "مسعود أمرالله" في سنة 1983م بنص بعنوان: (تاريخ ما في رأسي)، وكانت له مشاركة أخيرة في العدد الثامن من "رؤى" في شهر يونيو من سنة 1990م، وقد توفي إثر مرض خبيث.

يقول "خليفة":
ويحملني الليل
فأجيء ارتجافاً
وعاصفة من هموم
أرسم بدمي وطناً
وأمدُّ جسداً في التخوم؟

انتقل المؤلِّف إلى ذكر السيرة الذاتية والأدبية للشاعر جمعة الفيروز (1955م- 2001م)، وقد اسسترسل في ذكر تفاصيل دقيقة حول لقائه به وفي توقيع يتيمته الشعرية (ذاهل عبر الفكرة)، الصادرة عن "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات" في أوائل عام 2000م، وقَدَّمَ الشاعر "الفيروز" نسخة من الكتاب للمؤلِّف، مدوناً فيها عبارةً أشبه ما تكون بوصية ضمنية لشيء ما:
"الصديق السبب عبدالله: الذهول لي، أما الفكرة فهي لك".

بعض مؤلفات الشاعر: (مسافة أنت ... العشق الأولى)، قصص، 2001م، الناشر: اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات - الشارقة. كما صدرت حوله بعض الكتب التي تُترجم له: (جمعة الفيروز، سنديانة لا تموت) د. هيثم يحيى الخواجة. الناشر: "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات"، و"وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع". (جمعة الفيروز، بين احتراقات الذاكرة واختراقات النسيان): عبدالله محمد السبب، الناشر: مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية.

يستشهد المؤلِّف بقصائد عدَّة من أشعار (جمعة الفيروز) نقتطف:
تعويذة للأرض
تعطي الدّهشة.. وتعطي القلق..
أخاطبها.. أيّتها الأرض تعالي!!
فأنا في غربتي..
مُلقى عبر المدى!!
والماء يحاصرني على الشاطئين..

"جمعة الفيروز، سنديانة لا تموت"، هكذا وصفه الأديب العربي د. هيثم يحيى الخواجة، فهل سيظل "جمعة الفيروز .. بين احتراقات الذاكرة، واختراقات النسيان"، كما حدثنا عنه عبدالله السبب؟

وبالانتقال إلى الشاعر علي العندل (1965م-2004م) يبيِّن المؤلِّف علاقته غير المباشرة بالشاعر وقد أوصاه (العندل) قائلاً: (يا عبدالله، يا صديقي: "الكتابة سلعتنا الخاسرة، ولا مفرّ منها الآن. اعتنِ بنفسك يا عبدالله، واستمر في رحلتك بحذر").
أثر الشاعر: (تداعي أشلاء الأرانب القزحية): "نشرة أدبية" مشتركة (1988م – 1989م). (الروليت): دفتر شعري مخطوط، 1991م. (سيف الماء): شعر، 2008م، تقديم: إبراهيم الملا، الناشر: دائرة الثقافة والإعلام–الشارقة. (كسر الهواء): شعر، 2016م، إعداد وقراءة عبد الفتاح صبري، الناشر: دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة. بالإضافة إلى ما أصدره المؤلف عبدالله محمد السبب عن الشاعر العندل: (لُفافة، قصائد مختارة: إلى "علي العندل" في ذكراه العاشرة): 2014م.

نقتطف من أشعاره:
ومن الشر ما قتل
سأكتب شعراً جميلاً
وأنادي المخلوقات المتوحشة... يا أنتم
كونوا قوس قزح يمشي..
السماء شجرة زرقاء..

وتتوالى الصفحات حول "العندل" وتجربته الشعرية وصولاً إلى الشاعر "أحمد راشد ثاني" (1962م-2012م) حيث نجده مثالاً يحتذى به في الصبر على الكلمة، وعلى البحث المضني عن المعلومة المرمية بين سطور التاريخ، وفي صدور الرواة، وفي كتب المؤرخين والباحثين.
من مؤلفاته: (سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه): شعر عامي، 1981م، الناشر: الدار العربية – دمشق. وهناك آثار مشتركة منها: (قصائد من الإمارات)، 1986م، الناشر: اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الشارقة.
ومما صدر حوله: (أحمد راشد ثاني، ما قاله الأصدقاء للموت): مؤيد الشيباني، 2013م، الناشر: مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية - دبي. وكتاب (صلاة): عبدالله محمد السبب، 2015م، الناشر: "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات" و"وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع". وكتاب: (أحمد راشد ثاني يبحر في مسرح التجريب والحداثة): "مؤلف مخطوط"، قيد الإصدار عن "دار نبطي للنشر"، أبوظبي.. لمؤلفه الأديب المسرحي د. هيثم يحيى الخواجة.

يقول الشاعر أحمد:
أنا أتكئ الآن حُراً
طليقاً من بقايا دمي
عصفوراً
على مقبض الهواء
راية
تسترسل في النافذة
أنا الآن
قِبَلي
هفوة البحر
في يدي، حقل الخواتم الملتهبة
دعوني لا أُيقظ أحداً.
.

ويأتي الحديث عن الأديب ناصر جبران السويدي (1952م-2017م)، أحد مؤسسي اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وقد اشتمل الكتاب على شهادات وقصائد قيلت فيه في حياته، وشهادات أخرى في رثائه بمناسبة رحيله، من قبل مجموعة من المثقفين الإماراتيين والعرب المقيمين. أما المؤلف عبدالله محمد السبب، فقد أطلق تساؤله بذهول: ("ناصر جبران"، ماذا لو أطلقنا ابتهالاتنا في الريح)؟! ثم أخذ يستحضر بشيء من التفصيل بعضاً من سيرته الثقافية والإبداعية الأدبية.
ومن منشوراته الشعرية: (ماذا لو تركوا الخيل تمضي) 1990م، الناشر: المجلس الثقافي لجنوب لبنان، و(استحالات السكون) 1993م، عن "دار الحوار للنشر والتوزيع" سورية، اللاذقية، وضمن منشورات "اتحاد كتاب وأدباء الإمارات". أما سردياته فتمثلت في قصصه المتتابعة في مسيرتها الحكائية: (ميادير) 1990م و(نافورة الشظايا) 1989م، عن "دار الحوار للنشر والتوزيع"، سورية، اللاذقية.

من أشعاره "دهاليز العتمة":
وعلى حد السيف الراجف
أمضي كالشفق المغسول بلون الدم
أنتزع الخوف
أزحف في بطء الليل
أجرجر جسداً مشلولاً
أقلّب أعضاء الصمت
فلعل الأخرس من ذاتي
ينطق

ويتحدث المؤلف "عبدالله محمد السبب" عن الأديب السوري الدكتور دريد يحيى الخواجة (1944م – 2018م)، بشهادة تحت عنوان (حِلٌّ وتِرْحال)، لخّص فيها سيرة الأديب الراحل، مؤكداً على أنه كان يترقب نشر شهادته النقدية حول الكتاب الشعري (صلاة) للأديب عبدالله السبب ضمن أحد كتابين: (عبدالله محمد السبب: شاعر الدلالات والحداثة.. دراسة في قصيدته النثرية)، لمؤلفه شقيقه الأديب الدكتور هيثم يحيى الخواجة، الصادر عن دار الكتب والدراسات العربية بجمهورية مصر العربية، في سنة 2019م، أو عبر الطبعة الثانية من كتاب (صلاة) للأديب السبب.. إلا أن ذلك لم يحدث، إذ غادر الحياة –رحمه الله– دون أن يصافح شهادته النقدية في أي من الكتابين المنتظرين!!
أما الجزء الأخير من الكتاب ففيه نقد ودراسات ومقالات: لما يتضمنه الكتاب من دراسات نقدية وشهادات ومقالات؛ سواء بقلم المؤلف نفسه، أم بأقلام الرفاق الراحلين من أترابهم، أو بأقلام معاصريهم من المثقفين الإماراتيين أو المطلعين على تجاربهم من المبدعين العرب.

ختاماً، ليس بوسعنا إلا أن نقول: إن كتاب "مشيئة حكايات وحياكات في رحيل شعراء الحداثة الإماراتية" ما هو إلا كتاب تراجم يشمل بانوراما لافتة عن أهم شعراء الحداثة الإماراتية الراحلين، وقد أبدى المؤلِّف "عبدالله محمد السبب" جهداً كبيراً في رصد تفاصيل حياة أولئك الشعراء بكثير من الدقة والعناية مرفقاً ذلك بالصور، واضعاً العديد من مخطوطاتهم في الضوء علَّ صوته يصل إلى من يهمه الأمر لتلقى تلك المخطوطات الرعاية والاهتمام.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها