السّردُ الوامضُ

عن نقد نقد القصة القصيرة جداً

حسان العوض


يندرج هذا الكتاب في حقل نقد النقد الخاص بالقصة القصيرة جداً.


يسلّم الناقد العراقي صالح هويدي بمصطلح القصة القصيرة جداً بعد أن شاع وانتشر مقابل العديد من التسميات التي توقفت مثل: الأقصوصة، والقصة الكبسولة، والأقصودة، والقصة الصغيرة جداً، والقصة اللقطة، والقصة اللوحة... وبالرغم من هذا التسليم؛ يسمي كتابه الصادر عن مجلة الرافد- دائرة الثقافة بالشارقة 2017 "السرد الوامض"، فهو يرى أن هذه التسمية أكثر دلالة على هوية النوع القصصي المقصود لتركيزها على أبرز خصيصة مميزة فيه؛ وهي خصيصة بنيوية، داخلية وليست شكلية، خارجية على عكس المصطلح الشائع الذي يمنح القصر أو الحجم ثقلاً أساسياً، دون أن يكون الميزة الجوهرية.


بدايات

يشير الناقد صالح هويدي إلى أن القصة القصيرة جداً ترجمة لمصطلح short short story الغربي، ظهرت واضحة في المشهد الثقافي العربي، منذ منتصف السبعينيات، جراء تأثر بعض قصاصي السبعينيات العرب؛ عراقيين وسوريين ومصريين على نحو خاص، بما ترجمه الكاتب جلال العشري، من كتاب للكاتبة الأمريكية ناتالي ساروت بعنوان: "انفعالات" عام 1971، على الرغم من ظهور كتابها عام 1938 في أمريكا، من دون أن تعده ساروت أو أي من الكتابات الغربية قصصاً قصيرة جداً؛ وإنما كان ذلك من عمل المترجم الذي ذكر ذلك صراحة.
وكانت التسعينيات هي مرحلة تراكم النصوص القصصية القصيرة جداً، والاحتفاء بها في ملتقيات أدبية خاصة في سوريا والمغرب، مع اتساع الزخم النقدي بها. في حين مثل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الفترة الذهبية للحوار حول القصة القصيرة جداً والتنظير لها في أبحاث ومقالات وكتب.
يرى الناقد هويدي أن الحركة النقدية المصاحبة للقصة القصيرة جداً أدت دورها، مشكلة بذلك ظاهرة غير مسبوقة في إطار الاشتغال النقدي العربي على موضوعة نقدية محددة، في شكل جمعي، إذ عرفت ثقافتنا العربية المعاصرة بجهودها الفردية، في مختلف أنشطتها الفكرية والنقدية والأدبية. ولأول مرة في تاريخ العقل النقدي العربي الحديث، ينتج تراكم الخطاب النقدي الأدبي حراكاً تتمخض عنه جهود نظرية وتطبيقية، لترسم ملامح مشروع منهجي ممكن، يرتقي إلى مستوى الطموح، ويعيد الأمل في إمكانية استئناف دورنا النقدي، بوصفنا أنداداً للعقل النقدي الغربي.

غياب الاتفاق

لقد كشف هذا الخطاب النقدي أن الخلاف بين النقاد المتحمسين للقصة القصيرة جداً أكبر من الاتفاق بدءاً من مفهومها؛ إذ اختلفوا على تعريفها. كما اختلفوا في استخدام المصطلحات الدالة على المفاهيم التي يقصدونها؛ ففي مجال العناصر الأساسية للقصة القصيرة جداً، يذهب بعضهم إلى وصفها بالأركان، في حين يستخدم بعضهم عبارة الأسس، ويذهب آخرون إلى الجمع بين الأسس والأركان، في حين يصفها بعضهم بالمبادئ، وآخرون بالمعايير، وبعضهم بالعناصر، أو بالعناصر والأركان معاً! علماً أن عدداً من الباحثين اختار تسمية الأركان أو تردد بينها وبين سواها، ربما جرياً وراء أحمد جاسم الحسين الذي استخدم مصطلح الأركان في كتابه الذي يعتبر أول كتاب في مقاربة القصة القصيرة جداً، وقد صدر في العام 1997 بعنوان: "القصة القصيرة جداً: مقاربة بكر".
وعلى مستوى تقنيات القصة القصيرة جداً، فالأمر هو الآخر لا يخلو من تباين في استخدام المصطلحات، فمنهم من يسميها تقنيات وآخرون يسمونها شروطاً تكميلية أو تقنيات عرضية.
لا يتوقف الاختلاف على استخدام المصطلحات الدالة على العناصر الرئيسة والتقنيات، بل يتعداه إلى تعداد كل واحد منهما، ويصل أحياناً إلى الخلط بينهما كما هو الموقف من المفارقة التي اعتبرها معظمهم محض تقنية، بينما اعتبرها الباحث يوسف حطيني ركناً لازماً غير كاف، ووصل به الأمر إلى أن يخرج النص السردي القصير الذي لا يتضمن عنصر المفارقة من "جنس" القصة القصيرة جداً.

يرى الناقد هويدي ارتباكاً في مصطلحات نقاد القصة القصيرة جداً، وغموضاً في ما يمكن أن تدل عليه، فضلاً عما ظهر لدى بعضهم من استسهال وسيولة غير منضبطة في استخدام تلك المصطلحات.

وفيما يخص الحجم النموذجي الملائم للقصة القصيرة جداً كما تصوره نقادها فإنهم غير متفقين عليه؛ فبينهم من لا يحبّذ تقنين الحجم الكمي للقصة القصيرة جداً، ومنهم من يقنّن حجمها على نحو حاسم ما بين جملة، أو خمسة أسطر أو عشر كلمات، أو خمسمائة كلمة كحد أدنى، ونصف صفحة أو صفحة أو صفحتين، أو مائة كلمة أو ألفي كلمة كحد أقصى.

نوع سردي أم جنس أدبي

بعض نقاد القصة القصيرة جداً رأوا فيها جنساً أدبياً قائماً بذاته وليس نوعاً سردياً فقط من دون أن يقدموا أطروحة نقدية مقنعة، منطلقين من خلط بين مفهومي الاستقلال والجنس، معتقدين أن القصة القصيرة جداً فن مستقل بذاته؛ ولما كانت كذلك فهي جنس بذاته!
بينما يراها الناقد هويدي نوعاً سردياً مثل الرواية والقصة الطويلة "النوفيلا"، والقصة القصيرة التي تنتمي جميعها إلى جنس السرد، وليست جنساً قائماً بنفسه. ومن المعلوم في نظرية الأجناس الأدبية أن الجنس أكبر من النوع.
لا يرفع من شأن القصة القصيرة جداً أن تكون جنساً أدبياً، ولا يقلل من شأنها أن تكون مجرد نوع سردي، من دون أن يحول ذلك دون تبين الخصائص الفنية التي تميزها، والتي سمحت لها باكتساب ملامح نوع جديد لم يحقق قطيعة مع إطاره السابق.
فما يميز القصة القصيرة جداً –حسب هويدي- هو نبرتها الخاصة التي ترتبط بدورها بخاصيتين جوهريتين هما: لغتها الخاصة التي تجمع بين لغة النثر ولغة الشعر معاً، والمقصود بلغة الشعر جانبه الدلالي المشع لا بعده الشاعري المجنح بالاستعارات والمجازات المجانية. بالإضافة إلى حبكتها الخاصة، المتأتية من طريقة معالجة الكاتب الموهوب وإدارته للعناصر والتقنيات التي لا تختلف عن عناصر وتقنيات القصة القصيرة إلا في طريقة توظيفها.

حماسة ومبالغة

يميز الناقد صالح هويدي بين نوعين من الخطاب النقدي المصاحب للقصة القصيرة جداً، الأول: خطاب حماسي، ينافح عن رؤيته، بلغة حاسمة ومشاعر عاطفية. والثاني: خطاب معتدل، يجنح نحو الهدوء والمنهجية والبعد عن الأحكام القاطعة.
ويميل الخطاب الحماسي إلى مبالغة واضحة في سعيه إلى التفريع والتقنين والتصنيف، لما لا تتسع له القصة القصيرة جداً، ولعل أكثر باحث امتاز بذلك هو جميل حمداوي.
وتظهر المبالغة أيضاً في استغراب بعض النقاد الذي قد يصل حد الاستنكار من عدم عنونة المبدع لنصوصه، أو تجنيسها؛ كأن لا يصرح على غلاف كتابه بأن ما أنتجه ينتمي إلى القصة القصيرة جداً، أو ينسبه إلى القصة القصيرة.
تبدو هذه المبالغات النقدية أقرب إلى الوصاية على الإبداع والمبدعين فضلاً عما فيها من غمز من الوعي النقدي لهؤلاء المبدعين. علماً أنه يوجد عدد غير قليل من كتّاب القصة الذين يكتبون القصة القصيرة جداً بحرفية فنية وجمالية عالية، من دون أن يسموها باسمها.
كما يلحظ على جهود الباحثين والمنظّرين للقصة القصيرة جداً، وقوعهم أحياناً في فصام بين ما ينظّرون له، وبين ما يختارونه من نصوص يسعون إلى التنويه بها أو مقاربتها والوقوف عندها، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى ما يكتبه بعض النقاد والباحثين أنفسهم، من نماذج بسيطة.

يرى هويدي أن الحماسة في الخطاب النقدي قد تقود إلى ضروب من الانحياز غير المفهوم أو المسوّغ، واقترح أن يكون الاشتغال النقدي على نصوص القصة القصيرة جداً أكثر من التنظيرات التي لن توصل إلى اكتشاف حقيقة هذا الفن، بعيداً عن مباشرته النصية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها