أحوال الحبّ وأهواله

عمران عز الدين

 

{ 1 }
 

تسريحة حياة

يرى محمود باروكا أنَّ حياةً الّتي تكبره بعقدين تقريباً، الطريّة والممشوقة القدّ والقوام، هي اللوحة الفنيّة المُشتهى الّتي لم يتوصل كلّ الرسامين لرسمها بعد، كما يرى أنّها القصيدة الحلم الّتي استعصى على أعتى الشّعراء تدبيجها. محمود، المفتون بجبال حياة ووديانها وشَعْرِهَا الحريريّ، يعمل حلّاقاً، كما أنّه يتذوّق الشِّعر، ولا يملّ، وهو يحرثُ قملَ الرؤوس بمقصّهِ عن افتتانه بِها لكلّ الزبائن الّذين صاروا يقصدونه لهذا الأمر تحديداً؛ عسى وعلّ أنْ يحظوا منه بتطورٍ جديدٍ ولافتٍ في حكايته الّتي بات القاصي والداني يتداولها، فهي الحكاية الأبرز، ليس في الحارة، وبين الحلاقين فحسب، بل على مواقع التواصل الاجتماعيّ أيضاً.

لم يسلم محمود باروكا في منزله ودكانه من غارات زوج حياة ولكماته، وقد اشتبكت العائلتان مرّاتٍ عدّة، فطلّق محمود على إثرها زوجته، وطُلِقَت حياة من زوجها، ثمّ هاجرت إلى ألمانيا بعد غارات داعش المتكرّرة على محافظة الحسكة.

كلّ ما تقدم لم يحبط محمود الّذي جاء يوماً بأحد الخطاطين، وطلب منه أنْ يُغيّرَ اسم دكانه من دكان محمود إلى: "تسريحة حياة"، عبارة عن قلبٍ ومِقصٍّ يخترقه، على خلاف أترابه من الحلاقين الّذين اختصّوا بِقَصات ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو والمارينز والكابوريا، ومثل لاعبٍ ماهرٍ يجيدُ الهروبَ من مصيدةِ التسلّل يكرّر محمود على مسمع زبائنه وهو يمشّطُ خصلات متفرّقة من باروكته، ويرشُّ عليها رشّات من زجاجة الكالونيا: تسريحة حياة هي الهدف الشرعيّ الّذي سينتزعُ الكأسَ مِنَ العذّال، وسيروي القلب الظمآن.

وكانت التسريحة الّتي برعَتْ أصابعه بها وهي تتلاعبُ بالمقصّ، أصابعه الّتي كانت تنبضُ حياةً كلّما أوغلَ المِقصّ في قلبه.

 

{ 2 }
 

ندم زبيدة

تقف زبيدة مثل نخلةٍ يابسةٍ كلَّ مَسَاءٍ، وقبل أنْ تخلدَ للنومِ أمامَ الخزانةِ، ثمّ تسحبُ من أحد أدراجها صندوقاً نُحاسيّاً، يضمُّ الرسائل والهدايا الّتي كان قد أهداها لها عشّاقها الكُثر، تفتح الصندوق برفقٍ، وتخرج منه رسالة لا على التعيّين، تشعل سيجارة غلواز، وتسحبُ منها نَفَسَاً عميقاً تعبّئ منه رئتيها، ثمّ تشمُّ حتّى مخّها الرسالة الّتي قد وقع عليها الدور قبل أنْ تشرعَ في قِراءتها.

تتنهّدُ زبيدة وهي تحدّق في حروف الرسالة، تتنهّدُ وهي تتلمظُ أحرفَ الغَرام، تتنهد وهي تُعيد قراءة الرسالة عشرات المرّات، تذوب ولهاً وتنهّداً وصبابةً وهي تتأمّلُ فراشات كلمة أحبّك الّتي يُنهي بها المُرسل العاشق رسالته الّتي تشبه قوس قزح بألوانه المورّدة، وبعينين متورمتين، على خدّين صفراوين متهدّلين، قبيل الفجر، تنزلق منحنيّةً مثل موزةٍ مستويةٍ ورخوةٍ في فِراشها.

كلّ شباب الحيّ ورجاله كانوا أيام عزّ زبيدة المَلبن وتدفقها يطمعون في وِصالها، أو قُبلةً يفجرونها على شفتيها، أو حتّى نظرةً خاطفةً من عينيها الّلتين في طرفهما حَوَرٌ، لكنّها كانت تتطاوس، تتمنّع، تتدلّل، تغيظهم، وتنتظر بفارغ الصبر فارس أحلامها ندم، الّذي كما أخبرتها بصّارة غجريّة قرأت طالعها كانت قد عبرت حيّهم ذات مصادفةٍ سيرغم أهلها على الموافقة عليه، ثمّ سينتزعها من بينهم، وسيحضنها أمامهم، ثمّ يقبّل يدها، وسيركبها في ليلةٍ قمراءَ خلفه على حِصانه الأبيض... ويطير.. ويطير بها.

ندم الّذي لمْ تهنأ زبيدة برؤيته قط، ندم الّذي لمْ يهدِها بخلاف عشّاقِها أيّ شيءٍ: لا مِنديلاً، ولا شَالاً، ولا عِطراً، ولا حتّى رسالةً، هو الوحيد الذي استحوذ على قلب زبيدة الّتي بعد أنْ فاتها قِطار الزواج باتت تعضُّ أصابعها نَدَماً على نَدَمٍ.

{ 3 }
 

سارق القلوب

دَأَبَ غانم منذ أنْ هَامَ بنادية، وهَمَّتْ به، أنْ يُسمعها ما تيسرَ من الشِّعر عند عودته ليلاً من الحانة إلى البيت، كان المُغرم الولهان يكرع من زجاجة خمرٍ يثبّتها تحت إبطه، ويسترقُ النظر هنا وهناك؛ ليتأكدَ من أنَّ الشّارعَ خالٍ من المارّةِ، إذْاك ينقرُ بحصى صغيرة على النافذة، فتفتحُ نادية كوّة قلبها المطلّة على الشّارع، ويسبلان بعيونهما لبعضهما بعضاً، ثمّ يتنهّدان تنهّدات تروي ظمأ سنين وقحط قلبيهِما، إلى أنْ يمطرها غانم همساً بأشعاره:
إنَّ العيونَ الَّتي في طرفها حورٌ... قَتلننا ثُمَّ لم يُحيينَ قتلانَا

- آهٍ

كلُّ السيوف قواطعٌ إنْ جُردتْ ... وحسامُ لحظكِ قاطعٌ في غمده

- آآه

أَغَرَّكِ مني أنَّ حبكِ قاتلي ... وأنكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القلبَ يفعل

- آآآه

وإنِّي لأهوى النومَ في غير حينـه ... لعلَّ لـقـاءً فـي الـمنامِ يـكونُ

- آآآآه

ولولا الهوى ما ذلّ في الأرض عاشــق ... ولـكن عـزيـز الـعـاشـقـيـن ذلـيـل

آآآآآه

وهكذا ترفرفُ نادية في كلِّ ليلةٍ بجناحين مسبوكين من أشعار حبيبها غانم لعوالمَ رومنسيّةٍ، كما وتشرعُ صدرها لنسيمِ الصورة الشِّعريّة المُكثّفة والحُبلى بالموسيقا والمفردات المُبتكرة.. إلى أنْ جاء يوم وسألته ما إذا كانت هذه الأشعار من تأليفه؛ فأكّدَ لها غانم أنّهُ ما إنْ هَامَ بها حتّى جادت عليه بالشِعرِ هديل قريحته الشِعريّة في كلِّ الأوقات: فجراً، مساءً، حتّى وهو نائمٌ.
منذ ذلك اليوم ونادية تنتظرُ أنْ ينقرَ شاعرها الطائر النافذة؛ ليرفرفَ بِها مثل حمَامات شِعره بجناحيه، لكنّهُ تبخّرَ مثلَ حلمٍ، اختلَّ مثل وزنٍ، مثل قافيةٍ، سرق قلبها، وسرق معهُ الشِّعر الّذي قيلَ فيه.

 

{ 4 }
 

أريد أختي

كان ذلك في الخريفِ الفَائتِ، وكانت الشّمس أصبوحة ذلك اليوم، الهادئ جِدّاً، كليلة، فآثرْتُ البقاءَ في سريري.. وأنا أقلّبُ الحديثَ المقتضب، غير المفهومِ، الّذي كان قد دَارَ بين أبي وكوثر ليلة البارحة على العشاء:

- استرينا

- حاضر

- أصبحتِ صبيّةً

- حاضر

...

حاااضر

ما الّذي فعلتْهُ كوثر يا ترى! لِيرتجفَ صوتها ويختنقَ كلّ ذلك الارتجاف والاختناق أمامَ كلِّ ما أملى بهِ أبي عليها مِنْ نَهيٍ ومن أمرٍ؟ لا أذكرُ أنَّ كوثراً قد خرجَتْ يوماً مِنْ هذا البيت بمفردها، ولا أذكرُ أنَّ أحداً من فتياتِ الحارةِ قد زرنها، أو قامتْ هي بزيارةٍ لإحداهنَّ، لا في الأعياد، ولا في أيّ مناسبةٍ من المناسبات -وما أندرها طبعاً-.

فجأة شقّت أذنيّ صرخة أمّي المدوّية، وثَبْتُ، وركضْتُ مثل مجنونٍ إلى فناءِ الدارِ، كانت أختي كوثر مثل عصفورٍ مذبوحٍ ممدّدة وهي تنتفض تحت كوّةٍ صغيرةٍ تطلّ على الشّارع.. تلتهمها النار.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها