مُلتقى الراوي.. محفل حضاري للموروث الشفاهي الإنساني

هشام أزكيض



منذ عام 2001 يجتهد "معهد الشارقة للتراث" في إقامة "يوم الراوي" كفضاء ثقافي اجتماعي سنوي، يحتفي بالموروث الشفاهي والروايات السردية المتواترة، باعتبارها منجزاً تاريخياً عقلانياً يجب توثيقه وحفظه. ومع الوقت تحولت المناسبة -بما لاقته من نجاح- إلى مهرجان دولي تحت مسمى "ملتقى الراوي"، يُنظّم في أيلول/ سبتمبر من كلّ سنة، مع توسيع دائرة المشاركين فيه إلى مجموعة كبيرة من الدول العربية والأجنبية.
 

يسعى الملتقى إلى تكريس أهمية الرواية الشفاهية للدول المشاركة؛ من أجل تضفير التراثين العربي والإنساني نهوضاً على ذاكرة الرواة وخبراتهم وإبداعاتهم، واستدعاءً لإعادة اكتشاف مضامين نصوصهم التي قد يكون معظمها قد عالج قضايا أو تقاليد اجتماعية، أو بسط لنا تاريخاً محلياً غنياً بديناميات اللهجات والخطابة، والشعر والحكم، والأماكن والأسماء، والطبائع والشخصيات البطولية، وأساليب الحياة، وغيرها مما ينافس الكلمة المكتوبة في الحقائق والصدقية والرؤية، ومما يعيد للإنسان العربي توازنه النفسي عند كل مطبّ حضاري قد يواجهه.

وفي الواقع؛ فإن المراقب لهذا الملتقى يلحظ مع الوقت تطوراً إيجابياً باتجاه تعزيز الوعي الشفاهي/ السردي في المعهد، حيث يتوقع أن تتسع دائرة الجهود فيه، لتشمل المجال الأثنوغرافي، أو علم دراسة الأجناس البشرية وسلالاتها وعاداتها. وبمثل هذا التصور انطلق "ملتقى الراوي" هذا العام في نسخته الثانية والعشرين تحت شعار: "حكايات البحر"، فافتتحه الشيخ سلطان بن محمد بن سلطان القاسمي، ولي العهد نائب حاكم الشارقة، برعاية وتوجيهات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ليقدم لنا نشاطاً كبيراً في الاجتهاد والعمل على توثيق الموروث السردي الشفاهي، والاعتناء بأصحابه، وضمان سيرورته كنقطة التقاء مدينية حضارية بين الأدب الشعبي والمجتمع.

رئيس معهد الشارقة للتراث ورئيس اللجنة المنظمة العُليا للملتقى، الدكتور عبد العزيز المسلّم، أكد أن دورة هذا العام من الملتقى: "تميزت بالكثير من النشاطات، وحازت بما تضمنته من إنجازات ثناء المشاركين والمهتمين؛ إذ نستمر في سبر أغوار هذا العالم المدهش المليء بالحكايات". فعلى امتداد ثلاثة أيام وتحت شعار "حكايات البحر"، وبمشاركة محلية وعربية وإقليمية واسعة، لأكثر من مائة وستين باحثاً ومتخصصاً في الأدب والتراث الشعبي حضروا من ست وأربعين دولة، حرصت إدارة معهد الشارقة للتراث على إيفاء المناسبة حقها، حيث قدم الملتقى عشرات الورقات العلمية، والمقاربات البحثية الغنية بالمعلومة والفكرة والمفارقات على منابر أكاديمية رصينة، لا سيما حلقات البرنامج العلمي التي امتدت لثمان جلسات، ناقشت خلالها حكايات البحر وتاريخه في التراثين العربي والعالمي: عوالمه وعجائب مخلوقاته، أهواله وأساطيره في أدب الرحلات، رجالاته، الألفاظ البحرية في الشعر النبطي، البحر عند الفراعنة وفي المصادر العربية القديمة، وفي ألف وليلة والأمثال الشعبية، وفي حياة المرأة الإماراتية، الشخصيات الهلامية في البحر، وتراث الغوص، وعناصر الماء في التراث العربي.

وقد شارك في الجلسات: سعيد يقطين، سعيد حداد، إيهاب الملاح، نجيمة طاي طاي، مصطفى جاد، محمد سالم هويدي وشيخة المطيري، ورؤى قداح، دلال المقري، محمد الجويلي، خالد الشحي، محمد بغدادي، صالح اللهيبي، مروة مهدي، وليد علاء الدين، عبد الإله أوفلاح، محمد يوسف، عبد الإله عبد الرحمن، فاطمة المغني، حياة بنت مناور الرشدي، أنيسة فخرو، خالد الهنداسي، سالم الطنيجي، حمد بن صراي، طلال الرميضي، محمد فالح زغل، خالد ققة.

وعطفاً على فعاليات فنية تراثية توزعت على أرجاء الملتقى، من ورش ترفيهية تعليمية إلى عروض للحرف البحرية، ومعرض مقتنيات ومخطوطات العالم الفلكي والملاح الإماراتي الشهير أحمد بن ماجد. كما تضمن الملتقى –أيضاً- جلسات حكائية للأطفال، تتخللها الموسيقى والأداء الحركي وألعاب الدمى، التي تسافر افتراضياً بهم إلى أعماق البحر لاكتشافه، مع بسط مهارات صنع القوارب للأطفال أيضاً، ثم حكايات آسيوية كورية عن البحر، إلى مذكرات العديد من البحارة، وزيارات لمتحف التراث البحري.

كما تم تنظيم عدد من العروض الحية للصناعات البحرية، بجانب عرض نماذج للؤلؤ والأدوات التي كانت تستخدم في مهنة الغوص قدمها "نادي تراث الإمارات" المشارك في الملتقى.

ومن ضمن مشاركات الملتقى مشاركة الفنانة الكويتية حياة الفهد، التي كُرّمت عن أول فيلم روائي لها في الكويت بعنوان: "بس يا بحر". كما كرم الملتقى أيضاً عدداً من الشخصيات الفنية المبدعة في مجال الحكاية الشعبية، ومنهم الإماراتي "إبراهيم جمعة الحاج" (ضيف الملتقى)، وعائلة الشاعر الكويتي الراحل محمد فايز العلي، إلى راشد محمد الزعابي، وناصر خليفة عبيد بو شبص، وحثبور محمد كداس الرميثي، وحميد بن خليفة بن سالم بن ذبيان.

وبهذا المستوى من التميّز أكدت عائشة الحصان الشامسي، المنسق العام للملتقى أن أيام الملتقى الثلاثة حفلت "بتجربة ثرية ومفيدة، تعرفنا من خلالها على رواة جدد ومعارف شعبية عالمية، تكشف لنا عن الخيط الناظم لتراث الإنسانية الذي يجمعنا تحت مظلة واحدة". كما رفعت الشامسي في ختام فعاليات الملتقى عدداً من التوصيات، من بينها أهمية التسريع بإرساء بنيات رقمية تفاعلية، ذات صلة بالرواة والكنوز البشرية الحية المحلية والإقليمية والدولية، وتعزيز وتقوية العمل بمعايير منظمة اليونسكو مع توسيع المواد التراثية، وإتاحتها عبر بوابات رقمية، تحت إشراف خبراء ومتخصصين في المجال، ورصد التراكم الكمي والكيفي في العمل مع الرواة، عبر وضع كشاف ببياناتهم ومهاراتهم وتحديد خصائص مادتهم.

كما أوصى الملتقى بضرورة توسيع دائرة مشاركة الأطفال، واليافعين، والشباب، خصوصاً على المستوى المحلي، في فعاليات الملتقى وتحديداً في سرد الحكايات، وتشجيعهم ورعايتهم ومتابعتهم، من خلال المدرسة الدولية للحكاية التابعة لمعهد الشارقة للتراث. وكان من المهم جداً، ومن أجل تعزيز العمل العربي المشترك، الدعوة التي وجهها المشاركون إلى تأسيس اتحاد للعاملين في التراث الثقافي العربي، يضم أعمالهم، ويكون له دور في صون التراث غير المادي، والمحافظة عليه.

وقد حرصت إدارة الملتقى على تكريم أبرز الرواة والفرق، والجهات الرسمية والضيوف من داخل وخارج الدولة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها