مسرح المتحف.. المفهوم والتلقي

د. شوق النكلاوي

تعد محاولة التثقيف المتحفي للطفل من خلال البحث عن وسائط اتصال تساعد القائمين على المتاحف في أداء مهمتهم في نقل الثقافة التي يتضمنها المتحف ومعروضاته إلى زائريه هي الهدف الأسمى، ومن ثَم فقد ظهرت فكرة التربية المتحفية.. مستهدفة جذب انتباه الأطفال وتثقيفهم عبر تشجيع التحرر البدني والنفسي للطفل، وتقوية الصور الذهنية والابتكار، وتعزيز الانسجام وقبول الآخر، والتطبيع الاجتماعي والإشباع الذاتي.
 

والأنشطة المتحفية -وفي مقدمتها المسرح المتحفي– تسعى إلى تحقيق النمو المعرفي والثقافي للطفل من خلال خلق علاقة تفاعلية بينه وبين المقتنيات المتحفية.

ومسرح المتحف هو نوع من أنواع المسرح يقدم داخل المتحف أو خارجه في مسرح ملحق به، أو في الفصل الدراسي مستنداً في كل أشكاله إلى معروضات المتحف وما يتعلق به من مفاهيم علمية أو شخصيات أو أحداث أو فترات زمنية أو مظاهر للعمارة، تقدم بطريقة مسرحية بعيدة عن التقريرية والمباشرة التي تدفع إلى الملل، تقدم في قالب يجذب عقل المتلقي ويستثير خياله مما يجعله يتفاعل مع المتحف بطريقة أكثر فاعلية وجذباً.

كما يعد من الأنشطة التي تهتم بها معظم المتاحف العالمية، ويضم مسرحيات مستلهمة من موضوعات ومعروضات المتحف ومرتبطة بأنشطة الورش الفنية؛ حيث يفخر الأطفال عندما يظهرون في المسرحية بالزينة والملابس والأدوات التي صمموها ونفذوها بأنفسهم بالورش الفنية. فالمسرح المتحفي له قدرة كبيرة على إحياء التاريخ والتعبير عن الأحداث والبطولات التاريخية من خلال استخدام التقنيات والجماليات، فإذا كان المتحف يوفر متعة المعرفة والمسرح يوفر متعة الحياة؛ فإن المسرح المتحفي يمكن أن يوفر تجربة حية تضم الاثنين معاً، فالتفاعل بين المسرح والمتحف قد يساعد في معالجة القضايا التي يصعب معالجتها بالطرق التقليدية، ويعمل على تحقيق الأهداف التعليمية والتثقيفية التي تسعى إليها المتاحف، كما يعمل على زيادة دفع الزوار نحو التعلم والتثقيف المتحفي.

وليس المقصود بالمسرح المتحفي مكاناً أو مبنى داخل المتحف فحسب؛ بل هو عرض مسرحي له نص مكتوب أو مرتجل يعرض في أماكن معينة ومدة قصيرة حتى لا يشعر الزوار –لاسيما من الأطفال- بالملل، ويقدم داخل قاعة العرض بالمتحف على أن يكون الديكور من المتحف ومقتنياته، وهو أيضاً تقديم مسرحيات يؤديها ممثلون محترفون أو هواة في أماكن مغلقة أو مفتوحة، أو يمكن أن يكون تفاعل الشخصيات مع الجمهور لتقديم التاريخ من خلال نشاط مخطط يستخدم عناصر العرض المسرحي كالأزياء والمؤثرات الصوتية، وقد يقدم بوساطة العرائس والتي عادة ما تكون كائنات أو حيوانات محببة لدى الأطفال تتفاعل معهم.

ويمكن تقديمه على مسرح منفصل خاص بالمتحف يتم فيه تسليط الضوء على العنصر المعروض، كما يمكن تقديمه خارج المتحف أيضاً داخل الفصل الدراسي. ومن أهم شروطه الأساسية أن يدور حول موضوع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمتحف، وهو لا يقتصر على نوع بعينه من المتاحف، حيث يمكن تقديمه في متاحف العلوم، ومتاحف الفن والمتاحف الحربية ومتاحف التاريخ والآثار، وهو وسيلة ترفيهية للتواصل بين المتحف والزائر كما يعد وسيطاً للعلاقة بين المتحف والمجتمع.

ومسرح المتحف يقوم على فكرة تبسيط المعروضات للجمهور وبخاصة الأطفال منهم، وذلك عن طريق تحويلها إلى صورة أخرى أكثر تفاعلاً مع الزوار عن طريق المسرح بما يمتلكه من تقنيات تسهم بشكل كبير في تقريب الفكرة، وتتضمن تلك التقنيات والوسائل: الديكور، الإضاءة، النص المسرحي، الأداء التمثيلي، الموسيقى، الأزياء، وغيرها من الأدوات الأخرى التي تحول المقتنى إلى كائن حي متكلم تتفاعل معه طبقة عريضة من الجمهور.

والمسرح في المتحف ربما كان موجوداً منذ عصور ما قبل التاريخ؛ حيث كانت العروض تقدم داخل المتاحف والمعابد لا باعتبارها مسرحًا متحفيًا بل باعتبارها طقوسًا دينية.

ومع بدايات ظهور المسرح في المتحف -وبينما رأى متخصصو المسرح أنه طريقة مثلى كوسيط لتوصيل مفهوم المقتنيات المتحفية بأسلوب شيق يساهم في اجتذاب المزيد من زوار المتحف- شعر بعض متخصصي المتاحف بتهديد من تقديم المسرح داخل المتحف، خشية التأثير على كيان المتحف واستقلاليته أو عدم الفهم الصحيح للفكرة، ومن ثم فقد كان تطور المسرح المتحفي في بدايته صعباً.

وترجع البدايات الحقيقية الأولى لاستخدام العروض المسرحية داخل المتاحف إلى منتصف القرن التاسع عشر، وهو ما تؤكده (إليزابيث بلا كويل عام 1849، بعد زيارتها للمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك "لقد شاهدت بالمتحف قطعة تمثيلية هزلية وحيوانات محنطة مقلدة رديئة الصنع".

وهو ما يؤكد أن المسرح المتحفي ظهر في أولياته في صورة بدائية لم تكن تحتوي على كل عناصر المسرح؛ فكان العرض سطحيًا يقدم المقتنيات المتحفية لكنه يغفل شرحها وتوضيحها، ومن ثم اتسمت العلاقة بين العرض والزائر آنذاك بالسلبية، فافتقد المسرح إلى أهم ما ينبغي أن يتسم به، حيث إن الهدف الأول للمسرح يتشكل من قدرته على التواصل من خلال الخبرة والنموذج مع المشاهد؛ من أجل إحداث تغيير في أفكاره واتجاهاته، وهذه أبسط أهداف العملية التعليمية التي تنظر إلى عملية التعلم باعتبارها عملية ذات شقين: بين المعلم (الممثل)، والمتعلم (المشاهد).

وترجع أول تجربة جادة وجديرة بالملاحظة إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهي تجربة متحف سكانسن أول متحف مفتوح يعرض العناصر في بيئتها الطبيعية، وأسسه "آرثر هازل يوس" عام 1891 في ستوكهولم بالسويد، حيث قام بإضافة عنصر آخر وهو أشخاص في العرض يقول: "بدون أي نشاط فإن المتحف سيكون بلا فاعلية، وكان ما فعله خطوة أولى في اتجاه الدراما في البيئة المسرحية لذلك المتحف".

ولعل أهمية هذه التجربة تكمن في توظيفها للممثل داخل العرض المتحفي وهو ما أكسبه القدرة على التواصل بشكل أكثر إيجابية مع الزوار، مما رسخ هذا الشكل من العروض المسرحية المتحفية وعلى إثرها تتابعت عروض المسرح المتحفي، التي تعتمد على توظيف الممثل باعتباره ركيزة أساسية في ذلك النوع من العروض. وقد قدم متحف الفن الحديث بنيويورك مسرحية تتكون من مونولوج يعرض فيه الفنان اللوحة، ويحث الزائر على الملاحظة والعناية، ومن ثم اتسع توظيف العنصر البشري داخل هذه العروض المسرحية، فشمل جمهور الزوار ولم يعد مقتصرًا على الممثل فحسب، وهو ما يؤكد على المسرح المتحفي التفاعلي أو المسرح بالمشاركة، حيث "قدم متحف فالرافريتشارتس في كولونيا عرض "ذكرى لوحة"، وأشرك في عمل المشهد أفراداً من الزوار.

وقدم المسرح أيضاً في متاحف التراث والحضارة كما في متحف سيمثوسونيان القومي للهنود الأمريكيين بنيويورك، الذي قدم مسرحية "ما بعد أسطورة عيد الشكر"، والتي تعد مثالاً لدور المسرح المتحفي في الربط بين الثقافات المختلفة وحوار الحضارات، كما قدمه أيضًا "متحف العلوم ببوسطن" من خلال مسرحية بسطت اللغة العلمية الجافة الصماء للمقتنيات إلى لغة سلسة يسيرة تصلح للمسرح، مما سهل للمتحف تقديم المعلومات العلمية بأسلوب سلس وواضح.

والمسرح عمل من أعمال التعاون -لا بين المؤلف والممثل والمخرج فحسب- بل بين هؤلاء جميعًا، وبين جمهور المشاهدين، فمن الواضح أنه لا مسرحية بلا جمهور، وهذا الجمهور يعد عنصرًا ضروريًا ومنتجًا متميزًا في فن المسرح؛ لأن المسرح ماهية متكاملة من خلال عناصر العرض المختلفة والجمهور هو أحد هذه العناصر، ولكي يتطور فن المسرح فلا بد من تطوير الجمهور وجعله عنصراً منتجاً فعالاً، يقف موقف الناقد للأحداث لا المتلقي الغارق بالإيهام، لهذا فالعرض بدون متلق لا يشكل إلا نصف عرض... والمتلقي الذي استدرج إلى العرض المسرحي يجب أن يكون مشاركًا في المسرح.

وجمهور المسرح المتحفي يجب أن يحظى باهتمام القائمين على النشاط المسرحي في المتاحف كافة، بل ويمكن للاهتمام بالجمهور المتلقي أن يكون عاملاً من عوامل الجذب السياحي.

والجمهور "الزوار" في المسرح المتحفي هو هدف العملية برُمتِها، بل هدف العملية التعليمية ككل وليس المسرح فقط، ومن ثم فإن الإخراج للمسرح المتحفي وبخاصة المقدم للطفل يعتمد على عدد من المعايير والعناصر المرتبطة بالجمهور، والتي قد تختلف نسبيًا عن المسرح التعليمي في المدارس، فجمهور المسرح التعليمي في المدارس لا يدفع ثمنًا للمشاهدة فلا يوجد شباك لبيع التذاكر في المسرح المدرسي، ومن هنا يختفي دور المنتج في المسرح المدرسي وهو ما يبدو على عكس المسرح المتحفي فهو مدفوع الأجر؛ ولذا وجب على جميع أفراد العملية الإبداعية أن يضعوا الزائر الطفل وخصائصه نُصب أعينهم منذ اختيار الفكرة حتى تتحقق الغاية المنشودة من العرض المتحفي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

ماهيتاب

موضوع جديد فعلا وجديد بالتناول والاهتمام في الثقافة العربية ويمكن أن يساهم كثيرا في الجذب السياحه وتطوير العروض التصفية.. تحياتي للكاتبة

12/15/2020 6:41:00 PM

أحمد رسلان

موضوع رائع وجديد وطرح لنشأة هذا اللون من الفن المسرحي الذي يمكن الاستعانه به بوصفه وسيطا محببا لتبسيط المعروضات عوضا عن المرشدين السياحيين الذين يبذلون جهدا كبيرا يضيع سدى لأن المحتوى يقدم بشكل تقريري مباشر خالص الشكر للرافد وللباحثة

12/17/2020 9:29:00 PM

1