مسرح فرسان التحدي

أحدث إصدارات دائرة الثقافة بالشارقة

نبيل مرسي

المبادرات الثقافية التي تزُفُّها إلينا دائرة الثقافة بالشارقة متعددة، فمنها: الثقافي والأدبي والمسرحي... وغيرها، وسنحاول في هذا المقال الوقوف مع كتاب مسرحي إنساني تاريخي، يعتني بذوي الإعاقة أصحاب الطاقات الإنسانية الخلاقة على حد وصف محمود كحيلة مؤلف هذا الكتاب، الذي اقترح أن نصفهم تأدباً بأنهم: "فرسان التحدي"، وتأكيداً لفكرته النبيلة في البعد عن ما يشبه المعايرة بأن نصف المرء بما يبدو أنه نقص فيه، جعل الكاتب هذا المسمى على صدر كتابه الصادر عن دائرة الثقافة بالشارقة لهذا للعام الثقافي الجاري 2020م، ليوسم الكتاب الذي بين أيدينا بالعنوان التالي: (مسرح فرسان التحدي).
 

يؤسس هذا الكتاب لفكرة أنه لا أحد بلا إعاقة، وأنه ليس في عالمنا من يتمتع بالكمال، ولكن أكثر الناس يكون ضعفهم من الداخل مخفي في الظاهر؛ لأنه في عمق الجسد أو عمق النفس، وأن كل الناس معرضون للإعاقة بين ساعة وأخرى فالكل واحد.. تلك هي المسألة الرئيسة لذلك الإصدار الهام الذي بادرت إلى نشره كعادتها دائماً الشارقة صاحبة المبادرات الثقافية المبدعة، التي تنتصر لإنسانية إنسان هذا الزمان.

مؤلف هذا الكتاب محمود كحيلة أحد كتاب ومنظري المسرح المصري والعربي، وقد أراد بهذا الإصدار أن يؤكد على حق كل إنسان في ممارسة المسرح معارضاً بذلك قاعدة كانت متداولة سابقاً في مجال الدراما المسرحية تقول: بأن المسرح مقصور على أشخاص عاديين خاليين من أي مشاكل ظاهرية، وكان في ذلك إهانة كبيرة للموهوبين فنياً ومسرحياً من ذوي الإعاقة، الذين أثبت كثيرٌ منهم تفوقاً كبيراً في مجالات الفنون بمجرد أن فتح لهم باب الدخول، كما أوضح الكاتب بقوله: "إن البشرية مدينة بالاعتذار والندم على عهود مرت من دون أن يكون لـفرسان التحدي الحق في نشاط إنساني رفيع وبديع"، وقد ارتفعت أصوات بعضهم مطالبة بالمساواة، وشرعت البلدان في عرض قضاياهم والتعامل معهم، ومحاولة الاستفادة ممن هم أصحاب ذكاء وبصيرة فيهم ومنهم. وقد أوضح لنا الكاتب حقوق هؤلاء الفرسان الذين حصلوا على حقهم الإنساني بشق الأنفس، وقد عرض ذلك وكأنه تذكير يأتي ممن سبقوا كحيلة إلى الكتابة في هذا الموضوع، ودليل قوي وواضح ومتقن يستضيء به من يأتي بعده، سواء في الكتابة أو العمل المسرحي بأي من ألوانه وأشكاله.

ويعرض محمود كحيلة في المقدمة سيرة شخصيات كبيرة آمنت بأهمية المسرح كنشاط إنساني في دعم وتغيير المفاهيم التقليدية، مثل فاتسلاف هافيل رئيس تشيكوسلوفاكيا الراحل، وأيضاً الزعيم الوطني مصطفى كامل الذي كتب بالفعل مسرحية بعنوان: (فتح الأندلس)، وأوضح كذلك أن بعض علماء الأزهر الشريف أسهموا في الكتابة المسرحية.

ومن رسائل هذا الكتاب أنه ينادي بدمج أصحاب الهمم أو (فرسان التحدي) في الفن والمسرح؛ كي يساعدهم ذلك على تقبل الواقع بشكل أفضل ليشعروا بسعادة تلقي بظلالها عليهم وعلى ذويهم بل والإنسانية جمعاء. ولكي يسجل التاريخ البشري عن هذه الفترة من الزمان أننا كنا بشراً نحترم إنسانية الإنسان.

ويعرف لنا محمود كحيلة صاحب تلك الدراسة المسرحية الجيدة ماهية الإعاقة بقوله: "المعاق هو ذلك الشخص الذي تكون قدرته على آداء المهام العادية في الحياة اليومية أقل مما هو متوفر لدى الشخص العادي"، ويكشف لنا الكاتب أيضاً عن أمر مهم جدّاً وهو أن الشخص (المعاق) قد يقدر في بعض الأحيان على ما لا يقدر عليه غيره، وأن منهم فائق العبقرية مثل: (لينين مورينو) الذي أصبح رئيساً لبلاده الإكوادور عام 2017م، والذي يأتي في الترتيب الثاني كحاكم معاق لبلاده، بعد رئيس أمريكي سابق هو "فرانكلين روزافيلت"، والذي كان معاقاً أيضاً.

ويطالب الكاتب في نهاية مقاله الأول (ماهية الإعاقة) بدمج أصحاب الهمم أو فرسان التحدي في العملية التعليمية بكل مراحلها، بحيث تشتمل فصول ومدارس التعليم العام على جميع الطلاب بغض النظر عن الذكاء، أو الموهبة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعي، والاقتصادي أو الخلفية الثقافية للطالب، ويجب على المدرسة دعم الحاجات الخاصة بكل طالب.

وينتقل بنا كحيلة إلى جانب هام من موضوع الكتاب آلا وهو ماهية المسرح، ليخبرنا ويعلمنا بأن المسرح ابتكار إنساني قديم الأزل لم يتجه إليه لهدف التسلية؛ وإنما يهدف جانبه الإيجابي إلى التوعية والتنبيه والعبادة، وأضاف أن المسرح دنيا صغيرة تستقبل كل ما يدور في دنيانا.. يرصده ويعرضه ويبدو من قلمه إلى أي مدى يقدر كاتبنا المسرح، اقتناعاً بأنه صالح كوسيلة تربوية غير تقليدية لتقويم الشعوب. وقد أكد ذلك بقوله: إن المسرح يشغل أوقات الفراغ فيما يفيد، وأنه يفرغ طاقة الأفراد في الخير بدلاً من إفراغها في الشر، وأنه بديل جيد لما يقدم في التلفاز ومشتقاته من وسائل التواصل الدرامية، وأنه يسهل توصيل المعلومات عن طريق الشخصيات والأحداث، وأن اللعب المسرحي وسيلة لعلاج كثير من المشكلات النفسية، وأنه يربي النشء على فضيلة (التعاون) الذي يضمن النجاح، واللعبة المسرحية بالفعل في قناعتي الشخصية أنها وسيلة لغرس كل شيء طيب في النفس البشرية وتهذيبها من كل سوء.

ويخبرنا الكاتب في كتابه الشيق "مسرح فرسان التحدي" أنه يجب علينا أن نمهد لهم الطريق، يعني ذوي الاحتياجات الخاصة للمشاركة بكل أنشطة الحياة؛ لأن في ذلك صحة للمجتمع ولهم ولأنهم استطاعوا بالفعل الوصول إلى القمة، مثل الشاب الذي حصل في 2019 على أرفع الجوائز العربية للتأليف المسرحي، وهي جائزة الشارقة للإبداع العربي التي تنظمها دائرة الثقافة بالشارقة، صاحبة السبق والريادة في دعم وتأسيس هذا الإنجاز الإنساني المقدر، وكذلك هادي جلال وفاطمة مجدي اللذان اقتنصا جوائز تمثيل أولى في المهرجان القومي للمسرح المصري دورة 2019م، وهو أحد أهم المهرجانات المسرحية العربية كما هو معلوم.

ويطوف بنا الكاتب على مجموعة من النصوص المسرحية التي تتحدث عن أصحاب الهمم ليبين أهميتها وجودتها، وأهمية كاتبيها وممثليها ومخرجيها، موضحاً أنها أبداً لم تكن من بطولة أو صنع أحد من ذوي الإعاقة الحقيقيين، ولكنهم مؤلفون وممثلون عاديون استطاعوا بكفاءة عالية تجسيد شخصيات أصحاب الإعاقة. وهو يرى أن المطلوب أن يجسد فرسان التحدي قضاياهم، وأن يتحدثوا بأنفسهم وبلسانهم من خلال أعمالهم الفنية لتصل إلينا أحاسيسهم ومشاعرهم، وأرى أن الأمر سوف يكون أصدق.

ومما لا شك أن الإنسان الذي يرى نفسه غير قادر على ممارسة الحياة بشكل عادي وطبيعي لا يكون في حالة نفسية جيدة، ودائماً وأبداً تحاصره المتاعب والآلام النفسية، أوضح المؤلف كيف يمكن أن يساهم المسرح في علاج ذلك مبيناً كيف يساعد العمل المسرحي المنظم في العلاج النفسي لكل الناس عموماً سواء بالمشاهدة أو بالممارسة والحركة والأداء أو حتى الكتابة؛ فأي عمل يقوم به أي إنسان يعاني من أي نوع من المتاعب النفسية يساعد اللعب الدرامي في علاجها والتقليل من أثارها بما يحسن من الحالة المزاجية للإنسان إلى أن يصل به متعة التنفيس، ويجعله ينسى ما به من هموم، ومع فرسان التحدي يجعلهم في بعض الأحيان ولو لوقت قصير وممتع جدّاً ينسون أنهم غير عاديين، وقد يشعرهم أنهم أفضل من غيرهم لذلك كله يرى الكاتب -مثل كثيرين- أن المسرح العلاجي ضرورة لكل الناس وفي القلب منهم فرسان التحدي، الذين لخص الكاتب رسالته بشأنهم في العمل على التمكين والدمج، كما تحدث في دراسته عن الصعوبات التي قد تواجه تمكين عمل الفرسان في المسرح، وبين أن الجهد المطلوب والمبذول منهم وممن يتعاملون معهم أو يساعدونهم من العاديين أو المدربين، لا بد أن يكون أضعاف ما يبذل بالتجارب التقليدية، ولذلك يكون العائد المعنوي والإنساني مضاعفاً بدوره عن نظيره في الأعمال التقليدية؛ ولأجل كل ذلك يرى أن كل العامليين في هذا النوع المسرحي يستحقون جميعهم التقدير والمساندة والمساعدة وتذليل العقبات.

ويعرض لنا المؤلف تجربةً في المسرح العلاجي بطلها الناشط والمنظر المسرحي البرازيلي (أوجستو بوال)، ليخبرنا أنه ليس مبتكر العلاج بالمسرح فقط، ولكنه أيضاً يجعل المسرح وسيلة لحل المشكلات، وتعليم البسطاء كيفية الحوار وممارسة رياضة الفكر ومحاربة قضايا الفقر والجهل، وإثبات أن المسرح قادر على حل المشكلات وتوعية الناس بشكل عام في جميع القضايا الإنسانية، يقول الكاتب: "اصنعوا مسرحكم الخاص مع أصدقائكم ومحيطكم، اكتبوا حكاياتكم واخلقوا أحلامكم واجعلوا المسرح أسلوب حياة... إن حياتنا هي نفسها مسرح، وكل ما يجري فيها من أحداث هي بنية درامية صالحة لأن تكون مسرحًا" [رسالة بوال عام 2009م].

ويعرض كذلك تجربة الأكاديمية الكويتية "هيفاء السنعوسي" ونصها العلاجي (خلف أسوار الجنون)؛ ليثبت كيف أن كليهما تمكن من تقديم العلاج النفسي عن طريق المسرح، وأنه إذا تحدث الإنسان أمام حشد كبير من الناس عن همومه وآلامه النفسية فإنه يشقى بهذه الآلام والأمراض.

وطوف بنا الكاتب محمود كحيلة في الفصل الثالث من كتابه حول التعامل العربي مع مسرح فرسان التحدي؛ لكي يحيطنا علماً بما قدم من عروض وما صيغ من نصوص تمت بصلة ما إلى متحدي الإعاقة، وخصوصاً ذوي الإعاقة البصرية أصحاب النصيب الأكبر من المعالجات المسرحية؛ ويبين لنا كيف استخدم مسرح العرائس والموسيقى والألوان مع المعاقين فكرياً، وينقل وجهة نظره في النمط الذي قدم ويقدم به الكفيف في الدراما بكل أشكالها، وأنهم أي المكفوفين مستاءون جداً من نظرة المخرجين والمؤلفين الذين يكتبون عنهم ويظهرونهم بصورة ثابتة، وهي أن الكفيف شخص فكاهي أقرب إلى الأفّاق؛ ليردوا ويرد معهم المؤلف أنهم جميعاً كمكفوفين منهم من لديهم البصيرة، وأنهم مثل كل الناس منهم الذكي ومنهم متوسط الذكاء، ومنهم شديد الغباء مثل كل الناس، ويعد من الأدلة على وجود البصيرة وقوتها المخرج الكفيف مبارك بن جمعة المعمري الذي حدثنا عنه الكاتب قائلًا: إن له إنجازاً مسرحياً عربياً، وتجربةً ثرية تستحق التأمل، وأكثر ما يدعو للتوقف والتأمل قول المخرج المعمري نفسه: "أستطيع فعلًا أن أشعر بنظرات الإعجاب في عيون المشاهدين). ولا يمكننا أن ننسى حديث الكاتب عن فرقة المفتحين وفرقة شمس والعروض التي قدموها، وسنذكر دائماً أن هناك من قدم سندريلا معاقة كابتكار جديد؛ ولأن كل الناس معرضون لذلك.

وفي خاتمة الإصدار الرائد يقول الكاتب: إذا لا أحد بلا إعاقة، لا أحد يتمتع بالكمال، وإن بدا ذلك، لكن أكثر الناس ضعفهم من الداخل، مخفي غير ظاهر؛ لأنه في عمق الجسد، أو عمق النفس، كما يذكرنا الكاتب بقول عدنان السبيعي: "يمكننا، بل يجب علينا أن نقطع الطريق، ونتدخل بين الضعف الجسدي والعجز، فنمنع الضعف أن يتحول إلى عجز".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

محمود كحيلة

شكرا للأستاذ الكاتب نبيل مرسي علي هذه القراءة الجيدة لهذا الإصدار الهام الذي تفضلت بنشرة دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة

1/16/2021 8:45:00 PM

1