من كرامة العمل.. إلى طغيان الجدارة!

حـوار مع مايكل ج. ساندل

ترجمة: يحيى بوافي


المقال الأصلي: Philosophie magazine - n°143 - October 2020©


إنه لَتشخيص قوي لأزمة الديموقراطية ذاك الذي توصَّل إليه مايكل ساندل، بوصفه وجهاً بارزاً من وجوه الفكر السياسي الأمريكي، فما أقدم عليه هذا الفيلسوف هو التشكيك في الميريتوكراسية la méritocratie أو النظام القائم على مبدأ الاستحقاق والجدارة، الذي يسمَحُ للرابحين بالنظر إلى الموقع الذي يشغلونه باعتباره حقاً واجِباً لهُم، ويخلِّف لدى الخاسرين فكرة أنَّهم هم المسؤولون عن مصيرهم. وعلى سبيل علاج ذلك، يدعو هذا الفيلسوف إلى نهج سياسة للخير المشترك تكون قائمة ومتمحورة حول قطب حِفظ الشُّغل للكرامة وللاعتبار.



يتمثل مشروع مايكل ج. ساندل Michael Joseph Sandel في جعل سؤال الخير المشترك في قلب النقاش، وبمثل هذا المشروع البسيط حَدَّ الظهور بمظهر المشروع الساذج، يحاول هذ الفيلسوف، الذي شنف أسماع من يحضرون محاضراته حول العدالة وقدَح انتباههم وتركيزهم، تقديم إجابة على ما تعيشه الديموقراطيات من أزمة راهنة. مشروع سكنَهُ لمدة طويلة. ويُعدُّ كتاب الليبرالية وحدود العدالة (Liberalism and the Limits of Justice)، أبرز كتبه الذي يناقش فيه أطروحات جون راولز John Rawls وروبير نوزيك Robert Nozick، وهو يعارض مسبقاً الفكرة القاضية بقدرتنا على تعريف العدالة من خلال اتخاذ وضع "خلف حجاب الجهل"، دون أن نحيل إلى ما نحمله من تصورات حول الخير والحياة الخيِّرة أو الحياة الجيدة. كما طوَّر بعد ذلك في كتابه العدالة Justice، بوصفه الكتاب الذي حقَّق أفضل المبيعات على الصعيد العالمي، طوَّر نقدهُ للنزعة النفعية والنزعة الليبرالية من خلال الاستناد إلى سلسلةٍ كاملة من المشكلات الملموسة المرتبطة باتساع السوق أو التمييز الإيجابي، لعجْزِنَا عن الحسم في هذه المشكلات بالارتكاز على مبدأ احترام الحريات الفردية وحده. وبالتالي سيكون لزاماً علينا الإعلان عن أعمق قناعاتنا الأخلاقية ومواجهة بعضها مع البعض بشكل عمومي... أو معاودة اكتشاف تلك القناعات التي تعود إلى كل من: جيرمي بنثام وهيوم وكانط، إنه تفكير غني يُغذّيه تَشْخيصُ قوي جداً للمنعطف الديموقراطي المعاصر؛ فما الذي يوجد في قلب الاستياء الذي يخيم على شعوب العالم؟ إنه "طغيان الجدارة La tyrannie du mérite حسب عنوان آخر كتاب لمايكل ساندل، والذي صدر مؤخراً في العالم الأنجلوساكسوني وسيصدر باللغة الفرنسية سنة 2021 عن دار النشر ألبان مشيل Albin Michel. فما الذي يعنيه مايكل جوستيس ساندل بذلك؟ إنما يقصده هو أن واقعة امتلاك شهادة عليا قد صارت هي الفيصل الذي يتيح لـ"الرابحين" من وراء العولمة الليبرالية اعتبار أنفسهم مستحقين لحظهم وجديرين به، بينما "الخاسرون"، وكل من لهم نمط حياة راكد ليس أمامهم إلا أن يلوموا أنفسهم. وهذه الفكرة القاضية بكون الطريق الأوحد للارتقاء وبلوغ أعلى مستويات، تجعَلُ من لا يريدون متابعة دراستهم أو يعجزون عن القيام بذلك يشعرون بأنهم لا يستحقون تقدير المجتمع واعترافه. إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وانتخاب دونالد ترامب بالولايات المتحدة الأمريكية، وموجة الشعبوية، كلها أحداث تشهد، حسب مايك ساندل، على "تمرد ضد طغيان الجدارة Révolte contre la tyrannie du mérite". وما يقترحه الفيلسوف، على سبيل علاج هذا الشر، هو عقْدُ مدني جديد يكون متمحوراً حول "كرامة العمل La dignité du travail". تلك هي العبرة والدرس العظيم الذي خرج به من تجربة الحجر الصحي: أي اكتشاف سلسلة بأكملها من المهن التي يتم التقليل من شأنها وتقويمها بصورة دونية لكنها تظل على الرغم من ذلك "مهناً أساسيةً" للخير المشترك أو الصالح العام. وقد قدم لنا على ذلك الدليل من بوسطن، أثناء مناقشة لا يمتلك مفاتيح إنجاحها إلا هو: مناقشة بسيطة وهادئة، دون أن تفرط في العمق والإقناع.

 

كيف عشتم تجربة جائحة كوفيد-19 وما الدرس الذي خرجتم به منها؟

لقد قضيت فترة الأزمة ببقائي هنا بمنزلي الأسري في بوسطن، إذ لبثت فيه طيلة فترة الحجر الصحي، وما تحقق لي وعي عميق به هو أن الإمكانية التي سنحت لي بأن أنجو بنفسي داخل منزلي بكل أمان هي في حقيقة الأمر متوقفة على سلسلة كاملة من العاملين الذين ظلوا مرابطين "في الجبهة"؛ من عمال نظافة وموظفي المصارف، وعمال خدمات التسليم، ورجال المطافئ، وموظفي الخدمات الاستشفائية، ومسيري المستودعات... لكنهم رغم ذلك لا يحصلون لقاء أتعابهم على مرتَّبَات مناسبة ولاهم يتمتعون بالتقدير الاجتماعي الذي يستحقونه. وما آملُه هو أن تكون هذه الأزمة قد جعلتنا نفهم ما ندين به لهؤلاء "وفَطَّنتنا إلى ما سلَوْنا عنه".
 

ألا تلاحظون أن هذه الأزمة قد أرغمتنا على الربط بين مبدئين متعارضين: أن نحمي أنفسنا من بعضنا البعض، وأن نعوِّل على التضامن. ألاَ تصِحُّ الحالة حتى على الصعيد الدولي حيث تعمل الدول لمصلحتها الخاصة، بينما الواجب هو أن تقوم بالتنسيق بين أفعالها؟

من الناحية المثالية، كي نَقْوى على التحكم في وباء يعُمُّ العالم بأسره، نحن بحاجة إلى تعاون دولي، والحال أن إرساءه يواجه صعوبة جمة. ذلك ما صحَّ بالنسبة للكمامات بالأمس وستتأكد صِحَّته غداً عندما تظهر اللقاحات. لقد أخرجنا الوباء من أربعة عقود من انفتاح الأمم على بعضها البعض. ففي الوقت الذي عرّى فيه هشاشتنا المشتركة، هَرعْت جميع الدول إلى بناء استجابة له ورد الفعل عليه عبر انطوائها على سياداتها الوطنية. وهذا الانطواء هو ما سيشكل إحدى نتائج هذا الوباء السياسية القابلة للاستمرار، فالحدود ستحظى في المستقبل بأهمية أكبر.
 

ما الحكم الذي كوَّنته عن رد فعل دونالد ترامب وإدراته على الوباء؟ وماذا عن حُكمك على المجتمع الأمريكي بهذا الخصوص؟

إنما أظهَرته هذه الجائحة وسلَّطت الضوء عليه هو انعدام كفاءة هذه الإدارة، فالسيد الرئيس قضى وقته في نفي خطورة الوضعية. وقد أشارت مجموعة من الدراسات أنه لو تصرف بكيفية أسرع، لكان بالإمكان تفادي 80% من الوفيات تقريباً... بيد أن هذا الإهمال لم يسفر عن النتائج التي يمكن أن نتوقعها. وإذا كانت نسبة 60% من الأمريكيين يعترضون على سلوكه؛ فإن 40% منهم يواصلون الانخراط وفقاً لإحداثيات انقسام عميق وسابق على الأزمة. لقد مثَّل وباء كوفيد 19 اختباراً موضوعياً لدونالد ترامب، لا اختباراً سياسياً.
 

تُميِّزُ في تأملك بخصوص العدالة، بين أخلاق نفعية قائمة على تَأْوِيجِ رفاهيّة أكبر عدد ورفعها إلى أقصى حد، والأخلاق الديونطولوجية [أخلاق الواجب] المرتكزة على احترام كرامة كل شخص وأخلاق الفضائل التي تتمحور حول القيمة الداخلية [الجوانية] لبعض القيم. ألَسْنا نجد هذه المقاربات الثلاث في مواجهة وباء كوفيد19؟

إن الأمر كذلك وصحيح بكامل الدقة، فما يستهدفه الحجر الصحي هو حماية حياة كل واحد، أما فكرة المناعة الجماعية [مناعة القطيع] فترتكز على حساب التكاليف، في حين نجد أن الإعجاب الذي نبديه تجاه المُعالجين ومن يساهم في عملية الاستشفاء يَستند على فكرة أن الشجاعة هي القيمة الحقَّة والجوهرية. وأضيف أن استراتجية المناعة الجماعية [مناعة القطيع] تندرج في إطار الداروينية الاجتماعية التي طبعت بشكل عميق فكر المدرسة النفعية. "فمن سيظلون على قيد الحياة هم الأكثر قوة، وبالتالي سيكون المجتمع قادراً على أن يسير قدماً إلى الأمام! (ويستمر في الوجود بشكل أصْلح)"، وهنا نعثر على الاستدلال النوعي الخاص بأصحاب النزعة النفعية. وقد أبرز الوباء قساوة هذه المقاربة، بل يمكنني أن أصل إلى حد القول بأنه كشف عن عدم إنسانيتها.
 

يجادل البعض قائلين بأننا قمنا بحماية حياة الأشخاص المُسنين لكننا ضحَّينا بمستقبل الشباب. وهو مشكل أخلاقي غالباً ما قمتم بمعالجته، أقصِدُ مشكل إمكانية حساب ثمن الحياة الإنسانية، فهل هو أمر غير مقبول دائماً؟

أعتقد أن إسناد قيمة نقدية للحياة يظل أمراً إشكالياً على الدوام، ويصير كذلك بدرجة أكبر كُلَّما بحثنا عن حسم مشكل أخلاقي بهذه الوسيلة، فمن يحلِّلُون الأمور بعبارات التكاليف والمكاسب، يعتبرون أننا كي نتغلب على اختيار أخلاقي صعب ونعمل على تدليله، يمكننا أن نعمد إلى تحويل الخيرات التي تكون على المحك، بما في ذلك الحياة الإنسانية، إلى قيمة وحيدة هي النقود. لنكتفي بعدها بإجراء الحساب، حتى نعرف أي اختيار يكون أقل كُلْفة. وأنا من جهتي أستبعد هذا النمط في التفكير، ما دام يتعذَّر نقل كل قيمة والتعبير عنها بعبارات نقدية monétaires، بيْد أن ذلك لا يعني أنه من غير الواجب التساؤل عمَّا إذا كنا نعرِّض من هم أصغر سنا لتضحية غير متناسبة، لأن سؤالا من هذا القبيل يمثِّلُ مشكلاً أخلاقياً لا يمكن تجنُّبُه، لكن الإجابة عليه لا تكون عبر إقامتنا لضرب من التوازي؛ توازٍ بين الخسارة الاقتصادية المترتبة عن الحجر الصحي، وبين ما نقدِّرُ أنه يمثِّل القيمة الاقتصادية للحيوات الإنسانية التي تم إنقاذها.
 

كيف ستقومون بصياغة هذا الرهان الأخلاقي؟

ما التضحيات التي يمكننا طلبُها من المواطنين لأجل الخير المشترك؟ في الماضي، في زمن الحرب، كانت تتم دعوة الشباب للتضحية في المعركة، بينما يتم إعفاء من هم أكبر سنا منها، ونظريات العدالة لا تقصي ولا تستبعد التضحيات في زمن الحرب. أليست هناك مماثلة بين ذلك وبين الوضعية التي نجتازها الآن؟ يتعلق الأمر بمعرفة التَّضْحيات المناسبة والمقبولة باسم الخير المشترك بالنسبة للأجيال الشابة، وهو الخير الذي يتضمن، من بين خيرات أخرى، خيْرَ الأشخاص المُسنين. إن الحسابَ النفعي يُسقط من اعتباره المشكل الأخلاقي للالتزامات التي تكون لبعضنا تجاه البعض بوصفنا مواطنين ونظيره (المشكل الأخلاقي) الخاص برابطة الحضارة والمدنية القائمة بين الأجيال، كما أن المجتمع هو أيضاً عقد اجتماعي بين الأجيال نراه قائماً داخل الأسر، حيث الآباء يقومون بالتضحية من أجل أطفالهم، قبل أن يفعل هؤلاء نفس الشيء تجاه آبائهم عندما يبلغون من الكبر عتياً. غير أن هذا الأمر يصِحُّ بالنسبة للمجتمع برمته وفي كُلِّيته، وبالتالي يكون العقد الاجتماعي مستلزِماً لشكل من التضحية المتبادلة بين الأجيال.
 

يمكن أن يُعْتَرض على ما ذهبتم إليه، بأننا في زمن الحرب نقاتل من أجل الحرية، بينما الصحة هي التي توجد على المحك مع وباء كوفيد 19. والحال أن الصحة خير، لكنها ليست بالضرورة قيمة أو فضيلة.

أنا مُتَّفق [مع هذا الرأي]، الصحة في ذاتها ليست فضيلة، بل هي خير وُهِبَ لنا، وأن نكون بصحة جيدة ليس لنا فيه أي جدارة أو استحقاق. غير أن ما يَنِمُّ عن الفضيلة في هذه القضية، هو حس المسؤولية الذي يحسُّ به جيل أكثر قوةً تجاه جيل آخر أكثر هشاشة.
 

تبحثون عن تنزيل مشكل الخير المشترك منزلة المركز من مناقشاتنا، فما الذي يجعله على المحك اليوم؟

مثلما سبق لي أن قلت، دفع الوباء إلى دائرة الضوء ما يحظى به بعض العمال من أهمية [في حياتنا] مع أنهم لا يستفيدون من الأجر والاعتراف الاجتماعي بشكل يرقى إلى مستوى إسهامهم. لكن لئن كنا قادرين على توجيه نظرة نقدية لتثمين هذه المهن وإضفاء القيمة عليها، فلأننا نقوم بالاستدلال في انفصال عن حكم السوق، وفي هذا السياق نجد أن مارتن لوثر كينغ حل سنة 1968، فترة قبل اغتياله، بولاية تنيسي Tennessee ليساند عمال النظافة في إضراب خاضوه احتجاجاً على عدم احترامهم. فعملهم، كما يؤكدون، مهم على غرار عمل علماء الفيزياء والأطباء؛ لأنهم إن لم ينجزوه على الوجه الصحيح، لَصارت الجماعة برمتها مهدَّدة بالسقوط فريسة بين براثن الأمراض. إنها حجة مُؤسَّسَة على العدالة، لأنهم يستحقون أجراً مُشَرِّفًا، لكنها كذلك حجة قائمة ومؤسَّسة على الخير المشترك وعلى أخلاق المساهمة. وهو ما يبقى محافظاً على صلاحية بالنسبة لكل المهن التي نسميها بـ"المهن الأساسية"، فسياسة الخير المشترك ترى أنه يجب علينا ألا نقبل حكم السوق لقول ما تساويه مهنة من المهن. فهذا حكم ينم عن الخير المشترك bien commun وليس عن المنفعة المشتركة utilité commune فحسب، ونحن بحاجة إلى التداول بخصوص غايات الحياة المشتركة حتى نُقَوِّمَ طبيعة المساهمات التي يقدمها كل واحد في تحقيق هذه الغايات. وأضيف إلى ذلك أننا لا نستطيع التداول حول الغايات المشتركة دون أن يتم اعتبارُنا أعضاءَ داخل الجماعة التي ننتمي إليها؛ لأن هذا الارتباط هو الذي يتيح لنا أن نقول: نحن مجتمعون على متن نَفسِ المركب [ونواجه ذات المصير].
 

ما الفرق بين مفهوم المنفعة المشتركة لدى أصحاب المدرسة النفعية ومفهوم الخير المشترك الذي تدافعون عنه؟

يزعُم أصحاب النزعة النفعية مثل جيريمي بنثام Jeremy Bentham القدرة على تحويل جميع القيم إلى قيمة أساس هي بمثابة عيَّار وحيدétalon unique . فالمنفعة المشتركة بالنسبة لهم يتم تصوُّرها على أنها هي رفاهية أكبر عدد، والتي تبقى بدورها قابلة للقياس بعبارات نقدية. بينما يمكن للخير المشترك أن يُحرِّك ويعبئ الكثير من القيم يوجد بينها توتُّر وهي لا تتطلَّبُ حسابا ًبقدر ما تستدعي تداولاً جماعياً، فما الذي يتوجَّبُ علينا اعتبارُه لأجل تقديم تعويض عن العمل هل هو الحاجة والجهد المبذول والموهبة أم الكفاءة؟ وكيف السبيل إلى تمويله؟ هل سيتم تمويله عن طريق الضرائب والرسوم التي يتم فرْضها على المعامَلات المالية أو على الاستهلاك؟ إن الخير المشترك بطبيعته محَطُّ نزاع، بينما المنفعة يتمُّ تقْديمُها بوصفها معطى موضوعياً تتم صياغتُه من طرف الخبراء. أضف إلى ذلك أن الخير المشترك ينِمُّ عن التداول المدني ويقتضي بالضرورة حجاجاً فلسفياً.
 

في إطار ما لا يمكن للنقود أن تشتريه، أثرتم الانتباه إلى أنه يكفي أحياناً "أن نلصق ثمناً" بنشاط حتى يكون له تأثير يُقلِّلُ منه، على سبيل المثال دَفْع مبلغ للأطفال مقابل قراءَتِهم أو دفع مبلغ نقدي مقابل قنص الوحيش، يمكنه أن يُفقد هذه الخيرات قيمتها. واليوم تدافعون على وجوب تقديم تعويض أفضل للأنشطة التي يثَمِّنُها السوق ولا يمنحها ما يكفي من قيمة. كيف يمكننا أن نعيد إضفاء القيمة على الأنشطة المفيدة للخير العام وتثمينها دون إفْقادِها قيمتَها الأخلاقية؟

سيكون من الواجب علينا العمل على السجلَّيْنِ معاً في نفس الوقت، بحيث يكون من اللازم علينا تحسين الأجور، وتلك كيفية من كيفيات الاعتراف بالأهمية التي تحتلها بعض الأنشطة. كما يلزمنا أيضاً العمل على صعيد التقدير الاجتماعي، الاحترام والحظوة. فجزء من الاستياء الذي يشعر به بعض العمال بعد انصرام عقود من العولمة، نابع من أن التفاوتات قد استفحلت وازدادت عمقاً. والكثيرون منهم، سواء في قطاع الخدمات أو في أوساط العمال اليدويين، يعاينون ركوداً وتراجعاً في عائداتهم. لكن ذلك لا يمثِّل السبب الوحيد لهذا الشعور بالامتعاض والاستياء. ففي اللحظة التي هيمن فيها المال وما هو رقمي على الاقتصاد، تكوَّن لدى هؤلاء العمال شعور بأن عملهم لم يعد البتَّة مصدر اعتراف، لم يعودوا يتمتعون بتقدير اجتماعي يكون عند مستوى ما يقدمونه من مساهمة، وهو التقدير الذي لا تكفي النقود لإنتاجه.
 

في كتابكم الأخير الذي صدر مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان: "طغيان الجدارة والاستحقاق"، تقدمون نقداً للنظام القائم على مبدأ الاستحقاق والجدارة (الميريتوكراسية)، الذي سيكون في قلب أزمة الديموقراطيات المعاصرة، خصوصاً الديموقراطية الأمريكية من بينها، فما الذي تؤاخذونه على مِثَال نظام مبدأ الجدارة والاستحقاق؟

إن ما يولِّدُه النظام القائم على مبدأ الاستحقاق والجدارة لدى الرابحين من وراء نظام العولمة هو قناعتهم الراسخة بأن نجاحهم حق عادل لهم، ومبدأ هذا النظام (الميريتوكراسية) مؤدَّاه أن من يحتلون القمة هم الأكثر موهبة، ونجاحهم يقوِّي فكرة أنهم يستحقون ما يخصصه لهم السوق من مكافآت، كما يجعلهم يعتقدون أيضاً أن من هم أقلُّ حظاً ليس لهم إلا لوم أنفسِهم؛ لأن الموهبة تعوِزُهم، ولم يبذلوا ما يكفي من جهد ليحققوا نجاحهم. إن هؤلاء وهم يتجرَّعون مرارة هذا الحكم يتملَّكُهم الغَضَبُ جرَّاء ذلك، وغضبهم هذا هو الأصل في التمرد الشَّعْبَوِي.
 

لكن؛ هل في مقدورنا تَجاوزُ فكرة الاستحقاق؟ لقد دافعتم أنتم أنفسكم لمدة طويلة، مقتفين في ذلك أثر أرسطو، عن أن فكرة العدالة إنما تتأسس على رؤية تَخُص ما هو من نصيب كل واحد؟!

أنت على حق في تذكيري بهذه النقطة! لقد ارتبطنا وتَعلَّقْنا بمبدأ الاستحقاق أو الجدارة، لأنه يفترض مفهوماً قوياً جداً للمسؤولية الفردية. فلو عملتُ بجدّ ونجحتُ، لَكَانَ لي ميل إلى أن أعتبر نفسي مستحقاً لنجاحي، حتى وإن كان ينِمُّ في جزء منه عن الحظ. أما لو أَخذت في الحسبان الأحداث العارضة المستقلة عني التي أسهمت في نجاحي، لأسهم ذلك في إضعاف موقفي وجعله هشّاً. فلئِنْ أنا انتقدتُ إيديولوجيا الليبرالية الجديدة التي تريد أن يكون الناجحون بالضرورة مستحقين لنجاحهم، فليس معناه أنني أستبعد الفكرة الفلسفية للاستحقاق التي تبعاً لها يجب أن تكون المكافأة الاجتماعية متناسبة مع المساهمة التي يقدمها كل واحد. غير أن تلك الفكرة تمثل تصوراً للاستحقاق غيرَ ذي علاقة بالنجاح الاجتماعي، بل مُحدّد بفكرة أنني أنا من يحقِّقُ الخير المشترك بنفسي.
 

لقد أثَرْتُم الانتباه إلى ما تحظى به الشهادة الأكاديمية أو الدبلوم من ثِقْلٍ مبَالَغ فيه، إذاً؛ لماذا تُمثِّل عاملاً حاسماً في نظركم؟

عندما نَنْظر إلى التطور الذي عرفته المسارات المهنية منذ أربعين سنة مضت، نلاحظ ما صارت تتمتع به الشهادات أو الدبلومات من ثقل ساحق، لأن العولمة حملت معها مكافآت قوية للشهادات العليا، ولم تحملها لأكبر عدد من العمَّال. وإذا كانت الانتاجية شهدت زيادة واستفادت من الاقتصاد، فإن تلك الزيادة لم يستفد منها العمال. ففي الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن الدخل الفردي قد شهد زيادة تقدَّرُ بنسبة 85% منذ سنة 1979، لكن الأفراد البيض الذين ليس لهم شهادة عليا، يكسبون في الواقع أقلَّ مما كان نُظراؤهم يكسبون في تلك الحقبة... وفيما وراء الأجر نجد أن التَّثْمين الفائق أو إضفاء القيمة على المِهَن تستَلْزِمُ شهادة جامعية مما يقلل ضمنياً من قدر من ليست في حوزتهم الشهادات الجامعية، ويُوَجِّهُ لهم رسالة ضمنية مفادها أن العمل الذي يزاوِلونه هو مساهمة أقل في الخير المشترك. وبصورة عامة هناك صعوبة في الحصول على التقدير بالنسبة لمن لم يحصلوا على شهادات جامعية عليا. وهذا الحكم يُشَوِّهُ تقويم الأدوار الاجتماعية.
 

يمثل بحسبِكُم، عدم ولوج التعليم العالي على قدم المساواة، الكسْرَ الاجتماعي الأكثر حسْماً، قبل التفاوتات الاجتماعية والتفاوتات بين الجنسين وتبعاً للعِرْق... لكنكم تضيفون بأن ذلك لا يعني أن نضع كهدف إرسال الجميع إلى الجامعة، لماذا؟

طبعاً أنا على اقتناع تام وراسخ بأهمية التربية والتعليم؛ لقد قضيت سنوات عمري في الجامعة وأعتقد بأنه من الواجب أن نيَسِّر الولوج إلى التعليم العالي، غير أنني على خلاف قسم من اليسار الليبرالي لا أعتقد أن الحل [الذي يمكن تقديمه] للتفاوت هو إرسال الجميع إلى الجامعة. ففي فرنسا كما في الولايات المتحدة الأمريكية ثلث الراشدين هم الذين بحوزتهم شهادة جامعية، مما يعني أن أغلبية المواطنين يفتقدونها. وبالتالي إذا ما أقدمنا على بناء سياسة حول فكرةٍ فحْواها أن المرْء كي يكتسب احتراماً وتقديراً اجتماعياً ويُحقِّق حياة لائقةً، وحتى يكون قادراً على إعالة أُسْرَتِه، من اللازم أن ينال شهادة جامعية، سيكون ذلك كيفيَّةً للسخرية بقساوة من الاحترام الواجب علينا تجاه الغالبية العظمى من المواطنين. لذلك فعوض أن ندفع الناس إلى الاعتقاد بأن الجميع يجب أن يلج الجامعة وأن الجميع يريد ذلك، سيكون من الواجب علينا طرح سؤال آخر مؤداه: كيف يمكننا أن نحترم ونُكافئَ المهن المهمة والتي يمارسها معظم الناس دون أن يكونوا قد درسوا بالجامعة؟


كنتم زميلاً وصديقاً لجون راولز  بجامعة هارفارد، كما قَدمْتُم بصورة مُبكِّرة جدّاً اعتراضات على كتابه الشهير "نظرية العدالة"؛ ففي الوقت الذي يعتبر هو "الأفراد غير ممتلكين لمواهبهم"، بالشكل الذي يتلاءم مع عائِدَاتِهم "الانتظارات المشروعة"، التي تتم إثارتها من قبل المؤسسات ولا تكون مكافئةً لمواهبهم الطبيعية، نجدك تدافع رفقة الفيلسوف المُؤَكِّد على مبادئ الحرية روبير نوزيك، عن أن الأفراد لا زال يمكن أن يُنسب إليهم الفضل في الاستعمال الذي يقومون به لمواهبهم. واليوم بنقدك للوهم الاستحقاقي l’illusion méritocratique للناجحين، يظهر أنك انقلبت في موقفك جهةَ جون راولز؟!

لا أظن أنني غيَّرت زاوية النظر... فأنا أتفق مع جون راولز في قوله بأننا لا نستحق مواهبنا وأن التربية وما يمنحنا المجتمع من فرص هو ما يُعتدُّ به بدرجة أكبر، وهذه الحجة "السالبة" تكفي لاستبعاد النظرة الليبرالية والتخلي عنها، تلك النظرة التي ترى أن من يكسِبُون الكثير من المال يستحقونه ولا يمكن أن يتم فرض ضرائب عليهم. لكن الموطِن الذي أظن أن أطروحة راولز تعاني فيه ضعفاً، هو المتعلق بالوجه الإيجابي للحُجَّة؛ أي لنقبل بأنني لا "أمتلك" مواهبي، فما الذي يمكنني فعله بها؟ ألا ينبغي حثُّ الأفراد وحضهم على استثمارها مما سيسمح فيما بعد بإعادة توزيع المكاسب والفوائد التي تم خلقها وإنتاجها. لأنه إذا كان كل شيء اعتباطياً [ومتواضعاً عليه]، لن يكون عندها في الإمكان بتاتاً حَثُّ كل فرد على تنمية مواهبه وعلى المطالبة بأفضل إعادة توزيع للثروات التي تم إنتاجها. والحال أن راولز امتنع عن تقديم أجوبة على هذه الأسئلة؛ لأن إقدامه على ذلك سيستلزم تأسيس العدالة على تصور جديد للخير. وحتى أوجِز، أقول: أنا على اتفاق مع راولز في اعتباره الفرد غير ممتلك لمواهبه، لكنني أعتقد أنه قد فشل في الإجابة على سؤال معرفة كيف يمكن أن يتقاسم مواهبَه ومع منْ؟ وفي إطار أي غرض ولأجل أي غاية؟ ذلك هو السؤال الذي رفض راولز الإجابة عليه، والذي أعتقد بأنه ليس في مقدورنا تجاهله، رغم أنني لا أمتلك إجابة نهائية عنه.


نظمتم حديثاً بالشراكة مع جامعة هارفارد وقناة BBC مناظرة بين ما يقارب ستين مخاطباً ينحدرون من ثلاثين دولة، لمناقشة الرهانات الفلسفية للتغير المناخي والعمل على تحقيق انبثاق للتصورات الأخلاقية المتباينة للعدالة المناخية.

الواقع أن المشاركين الصينيين والهنود دافعوا عن أن العالم الصناعي الغربي هو الذي خلق المشكل بنشره الكاربون في الغلاف الجوي لمدة أكثر من قرن من الزمن، وبالتالي سيكون من العادل أن يدفع الثمن عن ذلك. وهو ما يمثل تصوراً تاريخياً للعدالة المناخية. لكن يوجد تصور صراعي يرى أنه من الواجب توجيه النظر إلى من يُلَوِّثُ اليوم أكثر، ومن هُم المسؤولون الحقيقيون عن الاحتباس الحراري داخل الأمم نفسها... إن سؤال العدالة المناخية ينصب على تعريف وتحديد المسؤولين ولكنه يمتد أيضاً إلى الغايات وإلى وسائل الفعل، ونقاش من هذا القبيل لا يمكن أن يتم على الصعيد الوطني، بل هو نقاش عالمي، لكننا لا نتوَفَّر على منصة لأجل فتْحِ مناقشات من هذا النوع تطبعها الأصالة المطلوبة، وهو ما أسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع.
 

طيلة فترة ولاية دونالد ترامب قمت بدقِّ ناقوس الخطر والتنبيه إلى أن المعارضة الديموقراطية أظهرت عجزها عن تحمُّل مسؤولية التعاطي مع الرهانات التي أمَّنَت فوز ترامب سنة 2016، أي ظهور تفاوتات جديدة على مستوى الهُوية الوطنية. هل أجاب جو بايدن عليها خلال حملته الانتخابية؟

الرهان الذي يرفعه جو بايدن هو أن يظهر بمظهر الرجل المتَّزن والعقلاني، وبذلك فهو يظهر بمثابة بديل لترامب وهو ما سيكون كافياً بنظره ليكسب الانتخابات. قد يكون على صواب في ذلك، وفي هذه الحالة، سيتم تأجيل الرهانات المهمة وإرجاؤها إلى فترة ما بعد الانتخابات. لكن من اللازم ألا يتم تجاهلها وإغفالها؛ لأن عجز الديموقراطيين عن الإستجابة لغضب قسم من الشعب الأمريكي هو الذي أدى لفوز ترامب، ومن أجل التغلب على هذه الأزمة العميقة جداً، لا بدَّ لنا من تجديد المشروع المدني الأمريكي لا أقل ولا أكثر.


 

 
Michael J. Sandel, propos recueillis par Martin Legros publié le 22 septembre 2020
Article issu du magazine n°143 Sept/Oct 2020

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها