من أخطاء كرنكو في تحقيق "معجم الشعراء"

حسن الحضري


"فريتس كرنكو Fritz Krenkow مستشرق ألماني، وُلِد سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة وألف، في قرية شونبرج بشمالي ألمانيا، وتعلَّم الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية، ثم الفارسية والعربية والتركية والعبرية والآرامية، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي، وكان يسمِّي نفسه بالعربية: سالم كرنكو؛ وانتقل إلى لندن، ثم اتفق مع دائرة المعارف في حيدر آباد الدكن بالهند، على أن يتولى تحقيق بعض المخطوطات العربية ويعلق عليها بما يبدو له، فحقق عددًا من الكتب والدواوين، وانتدبته جامعة عليكر بالهند لتدريس العربية فيها، فأمضَى نحو سنتين، وعاد إلى لندن، فاستقر في كمبردج إلى أن توفِّيَ سنة ثلاثٍ وخمسين وتسعمائة وألف، قيل عنه: كان يحب العرب والإسلام محبة لا تُرجَى إلا من العريق فيهما، يتعصب للعرب على سائر أمم الإسلام من الفرس والترك والهند، ويعتقد أن زوال الدولة العربية، وظهور الفرس على العرب؛ كان أول سبب للحيلولة دون انتشار الإسلام في الأمم النازلة في الشمال الغربي"1.

 ومن كتب الأدب التي حققها فريتس كرنكو: كتاب "معجم الشعراء" لأبي عبيد الله المرزباني [384هـ]2، وقد وقع في تحقيق هذا الكتاب عدد من الأخطاء العلمية، يتعلق معظمها بالتصحيف والتحريف في بعض الأشعار الواردة في الكتاب، والذي جعلني أعزو هذه الأخطاء إلى كرنكو؛ أنَّ جميعها تقريباً غير موجودة في النُّسَخ الأخرى من الكتاب، التي حقَّقها آخرون؛ بل مثبتة هناك بوجهٍ من وجوه الصواب، وليس عليها تعليقات من قِبَل المحقِّق يوضح فيها أنه وجدها مصحَّفة أو محرَّفة وأنه أثبت الصواب، مما يعني أنها ليست من قِبَل المؤلف (المرزباني)، ولا من قِبَل الشعراء أصحاب تلك الأبيات، كما أن هذه الأخطاء التي وقعت في تحقيق كرنكو؛ قد جاءت بصورة تناسب فهْمه غير الدقيق للعربية، إضافة إلى أنَّ دوره في الكتاب -كما هو واضح في مقدمته- التصحيح والتعليق، وبالتالي فإنه على افتراض أن هذه الأخطاء كانت واردة في الكتاب قبل تحقيقه؛ فقد كان يجب على كرنكو -المحقق والمصحح- أن يناقشها ويبيِّن وجوه الخطإِ فيها ويذكر الصواب، لكنه لم يفعل ذلك، ولو كانت هذه الأخطاء من قِبَل المؤلف؛ لكان كرنكو معذوراً في عدم فهمه إيَّاها؛ نظراً إلى طبيعتها وارتباطها بالعَروض العربي، وما يتطلَّبه التعامل مع الشعر من قدرات لغوية وأدبية وسعة اطِّلاع، لكن في النهاية الخطأ خطأ ويجب توضيحه، مع ذكر الصواب.

وفي هذا المقال أتناول نماذج من تلك الأخطاء، مع ذكر الصواب فيها، وقد رأيت في هذا الصَّدد؛ أن أبدأ بذِكر الصواب أولًا في كل بيت، ثم أذكر في تعليقي، ما وقع في تحقيق كرنكو من أخطاء في ضبطه.

قال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي3:
يا أيُّها النَّاسُ سِيروا إنَّ قَصْرَكُمُ ... أنْ تُصبحوا ذاتَ يومٍ لا تَسِيرونا
كُنَّا أناسًا كما كنتم فغيَّرَكم ... دَهرٌ فأنتُمْ كما كنَّا تَصِيرونا

وقد أثبت كرنكو البيت الأول بلفظ (إلى قصركم)4 بدلًا من (إنَّ قصركمُ)، وهو وهَمٌ فاحشٌ من كرنكو، ولعله لم يعرف أن رسم الكلمة (قصركم) له أكثر من معنى، فظن أن المقصود بها هو القصر الذي يُسكَن، فحذف (إنَّ) وأثبت مكانها (إلى)، فكسر الوزن، وحرَّف المعنى، بينما المقصود هنا بقول عمرو بن الحارث (قَصْرَكم): غايتكم.

وقال عمرو بن ترنا5:
قريبةُ قَدْ نأتْ غيرَ السُّؤالِ ... وأمسَتْ منكَ بائنةَ الرِّحالِ

وقد أثبت كرنكو في الشطر الأول كلمة (سؤال)6 بدون الألف واللام، فكسر الوزن، وقد فعل ذلك بِناء على ما يوافق فهمه الخاص.

وقال عمرو بن شراحيل من بني قيس بن ثعلبة7:
ألا أبلِغا عنِّي لقيطًا رسالةً ... فما أنتَ أَمْ ما ذِكرُكَ اليومَ أشيَما8

وقد ضبط كرنكو الشطر الثاني بواو العطف بدلًا من (أو) فكسر الوزن9، ولعل كرنكو حين فعل ذلك ظن أن الواو أقوى في موضعها لغةً، فغيَّر ما رُويَ عن الشاعر، ولم يعلم أنها ستكسر الوزن، فضلًا عن أنها ليست أقوى في هذا الموضع في تأدية المعنى.

وقال ريش لغب؛ وهو عمرو بن جابر10 أخو تأبط شرًّا [ت: 80 ق. هـ]11:
وما كنتُ فقعًا نابتًا بقرارةٍ ... ولا كنتُ ريشًا مِن ذنابَى ولا لَغْبِ12

وقد أثبت كرنكو الشطر الثاني دون قوله (كنت) فكسر الوزن13؛ ولعله التبس عليه لمَّا رأى قول المرزباني بعد ذِكر البيت: "ويروى: فما ولدت أمي من القوم عاجزًا... ولا كنت ريشاً...". حيث ظن كرنكو أن المرزباني أراد توضيح الفرق بين روايتَيِ البيت، فلما ذكر بداية الشطر الثاني الذي لا اختلاف فيه؛ ظن كرنكو وجود اختلاف، فهداه تفكيره إلى إسقاط قول الشاعر (كنت) من الرواية الأولى.

وقال عمرو بن شراحيل بن عبد العزى الكلبي14:
تركت كعبًا، وكعبٌ قائمٌ رَدِنٌ ... كأنه من جمالِ الرِّيفِ مَهشومُ15

فأسقط كرنكو قوله (وكعبٌ) فكسر الوزن16، ولعله ظنها زائدة دخيلة على البيت بحسب فهمه.

وقال أبو النجم العجلي [ت: 130هـ]17:
المَرءُ كالحالِمِ في المَنامِ ... يقولُ إنِّي مُدرِكٌ أمامي

وقد أثبت كرنكو البيت الثاني بلفظ (أنا)18 بدلًا من (إني)، وهذا خطأ ينكسر به الوزن.

وقال مالك بن حريم الهمداني19:
فقلتُ له قولًا فألفيتُ عِندَهُ ... وكنتُ حريًّا أنْ أُصَدِّقَ قِيلي
بذلك أوصاني حريمُ بنُ مالكٍ ... بأنَّ قليلَ الذَّمِّ غيرُ قَليلِ

فأثبت كرنكو في البيت الأول (حريمًا)20 بدلًا من (حريًّا)، ولعل كرنكو أثبتها هكذا لما رأى في البيت الذي يليه، قوله (حريمُ بنُ مالكٍ)، فالتبس الأمر عليه ولم يدقِّق في المعنى الذي أراده الشاعر.

وقال ابن طباطبا محمد بن أحمد العلوي الأصبهاني [ت: 322هـ]21:
لا وأُنْسِي وفَرحَتِي بِكِتابا ... تِيَ منه في عيدِ أضحًى وفِطْرِ

وقد صحَّف كرنكو وحرَّف، فأثبت في نهاية الشطر الأول كلمة (بكتابٍ)، وفي بداية الشطر الثاني (أتَى)22؛ ولعله نظر إلى المعنى الأقرب إلى ذهنه، دون أن يفكر في المعنى الذي يوافق اللفظ الذي ذكره الشاعر، وهو الذي ينضبط به الوزن.

وقال ابن طباطبا أيضاً:
ولَهُ حسامٌ باترٌ في كفِّهِ ... يَمضي لِنَقضِ الأمرِ أو توكيدِهِ

فأثبت كرنكو في الشطر الثاني واو العطف بدلًا من (أو)، فكسر الوزن23.

وقال محمد بن أحمد الوراق الجرجاني [ت: 309هـ]24 في الرثاء:
ولمَّا نَعاه النَّاعيانِ تبادرَتْ ... عليه عيونُ الطَّالِبِيِّينَ هُمَّعا

وقد أثبت كرنكو هذا البيت بحذف إحدى الياءين من قوله (الطالبيِّين)، فجعلها (الطالبِين)25، وكسر الوزن، ولعل كرنكو ظن أن الياء الثانية زائدة سهوًا، ولم يدرك أنها ياء النسب.

وقال محمد بن أبي الأزهر [ت: 325هـ]26:
فاشتَغِلْ دوماً بِها عنْ شَغْلِها ... لا تُفكِّرْ في حَمِيمٍ ووَلَدْ

فحذف كرنكو قول الشاعر (دومًا) في الشطر الأول، فكسر الوزن27.


هوامش: 1. انظر "الأعلام" للزركلي (5/ 144)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م. ┊2. المصدر السابق (6/ 319). ┊ 3. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊ 4. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 205)، تصحيح وتعليق: الأستاذ الدكتور ف. كرنكو، طبعة: مكتبة القدسي -دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان، الطبعة الثانية 1402هـ- 1982م، والبيتان من البسيط. ┊ 5. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊ 6. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 222)، والبيت من الوافر. ┊ 7. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊ 8. لقيط هو ابن زرارة التميمي، وأشيم هو ابن شراحيل، أخو عمرو قائل هذا البيت. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 222). ┊ 9. انظر المصدر السابق (ص: 223)، والبيت من الطويل. ┊ 10. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊11. "الأعلام" للزركلي (2/ 97) ┊12. ذُنابى: جمع ذنَب، وذَنَب الرجل: أتباعه من السَّفَلَة الذين لا شأن لهم. انظر "لسان العرب" لابن منظور (1/ 389)، طبعة: دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ؛ لَغْب: هو الرجل الضَّعيف الأحمق، وهو أيضًا الرِّيش الفاسد. "لسان العرب" (1/ 742)، والبيت من الطويل. ┊ 13. انظر "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 226). ┊ 14. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊15. رَدِنٌ: متشنِّج متقبِّض. انظر "لسان العرب" لابن منظور (13/ 178)، مهشوم: مكسور العظام. انظر "لسان العرب" (12/ 611). ┊ 16. انظر "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 238)، والبيت من البسيط. ┊ 17. الأعلام للزركلي (5/ 151). ┊ 18. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 311)، والبيتان من مشطور الرجز. ┊ 19. لم أقف على تاريخ وفاته. ┊ 20. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 357)، والبيتان من الطويل. ┊ 21. "الأعلام" للزركلي (5/ 308). ┊ 22. "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 463)، والبيت من الخفيف. ┊ 23. انظر المصدر السابق (ص: 463)، والبيت من الكامل. ┊ 24. المصدر السابق (ص: 464). ┊ 25. المصدر السابق (ص: 464)، والبيت من الطويل. ┊ 26. "الأعلام" للزركلي (5/ 309). ┊ 27. انظر "معجم الشعراء" للمرزباني (ص: 464)، والبيت من الرمل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها