بدر شاكر السيّاب.. رائد الحداثة الشعريّة

عبد الرحمن مظهر الهلوش


في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين، بدأ اسم الشاعر بدر شاكر السيّاب يتردد في المحافل الأدبية والفنية في بغداد. حيث وُلِدَ في قرية "جيكور"، والمقتبس اسمها من الفارسية (جوي كور)، وتعني (النهر الأعمى). كان ذلك في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1926. إنَّ قرية جيكور التي أحبها حتى الثمالة هي تابعة لقضاء (أبي الخصيب) في محافظة البصرة، تُحدّثنا كتب التاريخ على أنها كانت موقعاً من مواقع الزنج الحصينة، دورها بسيطة مبنية من طابوق اللبن، الطابوق غير المفخور بالنار، وجذوع أشجار النخيل المتواجدة بكثرة في بساتين جيكور. أتمّ دروسه الابتدائية، وانتقل إلى البصرة وتابع فيها دروسه الثانوية، ثم انتقل إلى بغداد حيث التحق بدار المعلمين العالية، واختار لتخصصه فرع اللغة العربيّة، وقضى سنتين في تتبّع الأدب العربي تتبّع ذوق وتحليل واستقصاء؛ وفي سنة 1945 انتقل إلى فرع اللغة الإنجليزية وتخرّج منه سنة 1948.


لم يكن السياب يعتني بهندامه، ويعود ذلك لوضعه المالي المتردي، فالسياب عاش فقيراً ومات فقيراً، كما تؤكد سيرته، ولم يكن ينتمي إلى عائلة كبار الملاكين، كما أنه لم يكن ثابتاً في موقفه السياسي، فقد كان دائم التنقل بين اليمين واليسار1. كان السياب متأثراً بأشجار النخيل حيث هيمنت تلك الشجرة على مخيلته، ويرجح بعضهم أنّ (كلمة سياب بتشديدها بضم السين أو فتحا، اسم يطلق على البلح أو البسر الأخضر)، إشارة إلى التصاق النخلة حتى باسمه، رغم أن بعضهم يزعم أن (جده دُعي بهذا الاسم لأنه فقد جميع أقربائه وسيب وحيداً).
 

بَيْنَ البَصْرةِ وبَيْروْت

في قرية صغيرة من قرى أبو الخصيب جنوب مدينة البصرة العراقية، كتب الشاعر بدر شاكر السياب قصائده الأولى التي جمعها في ما بعد في ديوانه (أزهار ذابلة)، لكن هذا الديوان لم يكن الانطلاقة الحقيقية له في عالم الريادة الشعرية، بل بقي يبحث وينقّب حتى تمكّن من كسر العمود الشعري والخروج بقصيدة التفعيلة. لقد اعتادت مجلة (شِعر) اللبنانية لصاحبها يوسف الخال تقديم أمسية شعرية مساء كل خميس، يحضرها شعراء من لبنان وسورية، وقد وقع الاختيار على الشاعر بدر شاكر السياب من العراق لحضور تلك الأمسية، فذهب إلى بيروت وألقى بعضاً من أشعاره، وفي تلك الجلسة قررت الجامعة الأميركية (قسم اللغة العربية) الاعتراف بالشعر الحر، وإدخاله في مناهج الدراسة للسنوات المقبلة. وفي تلك الجلسة صرح الشاعر اللبناني جورج صيدح الشاعر المهجري المعروف، برأي جديد حيث اعترف بوجود الشعر الحر بغض النظر عن الأسلوب في التعبير2.

وكان السياب قد زار بيروت في عام 1960، وهناك تم طبع أحد دواوينه الشعرية، وزار بعض مكاتب المجلات الأدبية مثل مجلة الآداب، وحوار، وشِعر...

وقد أكد السيّاب بِأَنَّ في لبنان شعراء يزاولون نظم الشعر الحر منهم: يوسف الخال، وخليل حاوي، والشاعر السوري أدونيس. يُذكر أنّ السيّاب أول من نظم الشعر الحر وأنه كان من اكتشافه. حيث كان السياب متعلقاً بالشاعر (ت.س. إليوت) الأميركي الأصل البريطاني الجنسية (ت: 1965)، حيث تعلم السياب الكثير من خلال أشعار ذلك الشاعر في مجال الشعر الحر، وقد ترك أثراً عميقاً في شعر السياب، حيث كان السياب يجيد اللغة الإنكليزية التي ساهمت في اطلاعه على أشعار كُتبت بالإنكليزية، وقد شكلت حافزاً للسياب في الاتجاه إلى الشعر الحر، والذي كان أول من نطق به على مستوى الشعراء العرب.

إنَّ نموذج السياب يشكل فاصلة معيارية أو (الباراديم)، بحسب (ديفيد كون)، في متوالية ثورات الشعر العربي القليلة. لم يكن السياب شاعراً فحسب؛ إنما كان يكتب القصص القصيرة ولكن بوتيرة أقل من كتابته للشعر، فعَدّهُ بعض النقاد بمنزلة الروسي تشيخوف، ومومبا سان الفرنسي. قدم السياب قصائد رائعة تمثل آثاراً خالدة، يمكن أن تكون من بين القصائد الأنموذج الدالة على الشعرية العربية الحديثة، مثل قصائد (أنشودة المطر)، و(النهر والموت)، و(شباك وفيقة) بجزئيها.

لقد كان السياب من رواد المقاهي البغدادية، حيث اللقاء اليومي مع الشعراء والأدباء، وكانت مقهى (البرازيلية) في شارع الرشيد (الصالون الأدبي) الذي يقصده عدد من أدباء تلك الأيام الذهبية. كان بدر أحد أولئك الرواد. لا يمكن لنا بالطبع أن نضع أعمال السياب وقصائده في خانة واحدة على الصعيدين الرؤيوي والأسلوبي. فللسياب، تجرية شعرية مرت بأريع مراحل صاحب (شناشيل ابنة الجلبي)، وهي الرومانسية، والواقعية، والرمزية التموزية، ومن ثم مرحلة الانكفاء إلى الذات في فترة اشتداد المرض. حيث كان السياب خير وارث للتراث الشعري القديم والنهضوي. كان على أهبة كي يواصل ثورته من قلب هذه القصيدة، هو المثقف الملمّ بالشعر العالمي، قارئ شكسبير وإليوت وجون كيتس، ولويس ماكنيس، وأديت ستويل، وستيفن سبندر الذي تأثر بنظريته حول (الواقعية الجديدة)، وقارئ بودلير الذي حاكى لديه صورة (الشاعر الرجيم)، وهذا عنوان قصيدة كتبها السياب وأهداها إلى شاعر (أزهار الشر)3.

أنشودة المطر

كان يحلم دائماً بطبيعة غسلها المطر، طبيعة أخرى غير التي نراها ونعيشها في الواقع، وكانت رؤاه وأحلامه البعيدة وخيالاته المجنحة تلك ترفرف بهدوء، وتحط على قصائده فتترك ريشها الملون الساحر. كما فعل مع مجموعة من أشعار إيدث ستويل، التي أُغرم بقصيدتها (ما زال يهطل المطر)، التي أوحت إليه بقصيدته الكبرى (أنشودة المطر). يقول عبد الوهاب البياتي واصفاً السياب: (إنّ روحه كانت تبدو مسكونة باللون الأبيض للطبيعة التي لم تدركها الشيخوخة)4.

فالسياب كان وسيبقَى شاعراً كبيراً لعب دوراً ريادياً متميزاً في حركة الشعر العربي، وكان القنطرة الموصلة ما بين رومانسية الأربعينيات وحركة التجديد في الخمسينيات.

أَمَّا ما سيبقَى من السياب فهو كثير؛ لأن شِعره يمتد بين الكلاسيكية والرومانسية، والحداثة التي تشكل ينبوعاً ثرّاً للشعراء المبتدئين وللقراء وهم يكتشفون سر الموت والعبقرية الخلابة.
 

"أنشودة المطر"
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحر
أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسِمان تورِقُ الكُروم
وترقصُ الأضواء كالأقمارِ في نهر
يرجُّه المجداف وهناً ساعة السَّحر
كأنما تنبضُ في غوريهما النّجوم
أنشودة المطر
مطر .. مطر .. مطر

 

شاعر الأرياف

المدينة لم تعنِ للسياب سوى في كونها بؤرة الشر وموئل الإثم5. كما في قصيدته (المومس العمياء)، في مقابل سكون القرية وعفويتها وعذوبة هوائها فالسياب كان ناقماً على المدينة، ومنها بغداد التي وصفها بـ(مبغى كبير):
وتلتفّ حولي دروب المدينة
حبالاً من الطين يمضغن قلبي
ويطين عن جمرة فيه طينة
حبالاً من النار يجلدن عري الحقول الحزينة...

قبل خمسين عاماً عاد جثمانه في إحدى ليالي الشتاء الباردة الممطرة إلى مسقط رأسه في قرية (جيكور) في البصرة، مغادراً عالمنا بعد رحلة قصيرة، بدأت مع ولادته في 1924، وانتهت بوفاته في المشفى الأميري في الكويت سنة 1964. عن سبعة وثلاثين عاماً.. عاشها السياب متنقلاً بين البصرة وبغداد، والكويت، ولندن، وبيروت، وكان للسياب عدد من الأعمال الشعرية نذكر بعضاً منها:
أزهار ذابلة، والأسلحة والأطفال، وحفار القبور، وأنشودة المطر، وشناشيل ابنة الجلبي. لم يبقَ من السياب في ذاكرة العراقيين سوى تمثاله المنتصب بجوار شط العرب في شارع كورنيش العشار6. حيث اشتهر العراقيون عبر التاريخ في تخليد أعلامهم عن طريق النُصب والتماثيل منذ أيام جلجامش حتى عهد قريب. وليس بالمستغرب تبعاً لذلك أن تُنقش على قاعدة تمثال السياب المرفوع فوق شط العرب، هذه الأبيات المؤثرة: (الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلامْ\ حتى الظلامُ هناك أجمل، فهو يحتضن العراق\ وا حسرتاه متى أنامْ\ فأُحسّ أن على الوسادة\ من ليلك الصيفي طلاً فيه عطرك يا عراق\ بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة\ غنّيت تربتك الحبيبة)7.
 


الهوامش: 1. راجع: الربيعي، عبد الرزراق: هنا ولد (السياب)، وكتب قصائده، مجلة دبي الثقافية، العدد (68) يناير/كانون الثاني 2011، ص: 116.┊2. راجع: الشيخلي، عبد الوهاب: بدر شاكر السياب (ذكريات الشعر والألم)، مجلة العربي، الكويتية، العدد (542) يناير/ كانون الثاني 2004، ص: 78.┊3. راجع: وازن، عبده: ما أُحبّ في السياب، صحيفة الحياة 21 ديسمبر/كانون الأول 2014.┊4. راجع: صحيفة الشرق الأوسط، اللندنية، تاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول 2018.┊5. راجع: البياتي، عبد الوهاب، مجلة المجلة، العدد (973) تاريخ 25/10/1997 ص: 30.┊6. راجع: وازن، عبده، مجلة دبي الثقافية، العدد (75) أغسطس/ أب 2011، ص: 96.┊7. راجع: بزيع، شوقي: بدر شاكر السياب... شاعر المكابدات القصوى واللغة المأهولة بالنيران، صحيفة الشرق الأوسط، اللندنية، العدد (14624) تاريخ 12 ديسمبر 2018.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها