إبراهيم الـمِعْمار

​حرفِيٌّ شاعر.. من العصر الـمملوكي في مصر

ترجمة: د. محمد فؤاد نعناع

تأليف: د. توماس باور

شاعر بين الصَّفوة والشعب

على الرغم من أن المرء لا يتكلّم اليوم1. في علم الأدب على "الشعر الشعبي والأدب الشعبي" بلا تحفظات، فإن هذا المفهوم يُسْتَعمل في الدراسات العربية لإجراء مقابلة -كما يُقال- بين الشعر العربي الأصيل والبكر، والشعر الفصيح المحافظ. وعلى هذا النحو ما زال هيث HEATH يعتقد حديثاً أنه يمكن وصف الشعر العربي منذ بداية القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي كما يلي: "بينما كان الشعر العربي الفصيح في مرحلة الانحطاط، لقي الشعر الشعبي العربي نهضة كبيرة عبرَ قوى خلاّقة"2. ولكن هذا التشخيص خاطئ لسبب بسيط؛ هو أن الشعر العربي الفصيح لم يظهر عليه أيّ أثر للانحطاط من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي حتّى القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ولاسيّما القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي الذي يجب أن يُنْظَر إليه على أن الشعر العربي بلغ ذروته فيه. ويفكر المرء في التبعية المتبادلة الملموسة، ولاسيّما في هذا الوقت، لثقافة الصفوة والشعب، ومن ثمّ يظهر ما يناقض مقولة هيث السابقة ظهوراً معقولاً؛ ذلك أن الازدهار غير المألوف للشعر الفصيح أثناء العصر الأيوبي والمملوكي، هو الذي يبني خلفية وشرطاً للرواج المدهش للأدب الشعبي فيه.

ويصعب رسم حدود واضحة في العصر المملوكي (648-922هـ/ 1250-1517م) بين ثقافة الشعب وثقافة الصَّفوة، وهذا ما يوضّحه نتاج شاعر، يمكن أن يُعَدّ شعره بمجمله شعراً شعبيّاً، إلا أن كتب التراجم والسير ترجمتْ له بسبب شهرته، إضافة إلى بعض الظروف. إن الأمر يتعلق بإبراهيم الـمِعْمار، الذي يُعَدُّ شخصية مدهشة للغاية، ولكنها غير مميزة، فقد كان يسكن في القاهرة في النصف الأول من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، إلا أنه ما زال مُهملاً في الدراسات الشرقية الحديثة، أكثر مما لدى أدباء عصره المثقفين3. وتقدّم هذه الدراسة انطباعاً أوّلياً مؤقتاً عن آثار المعمار، ومكانته في شعر العصر المملوكي، بالاعتماد على قصائد غير مطبوعة حتى الآن.

إن ديوان المعمار الذي على ما يبدو جمعه مصنفون مختلفون أكثر من مرّة يُعَدُّ المصدر الأساسي لآثاره4. وتحتوي نسخة مخطوط برلين التي اعتمدناها على 223 مقطوعة، يتراوح عدد أبيات كل مقطوعة ما بين بيتين وخمسة أبيات، إضافة إلى قصيدة في مديح (ابن فضل الله)، ويلحق بذلك 25 موّالاً، وبعض البلاليق5. ولن يكون مدهشاً إذا ما جهلنا اسم جامع شعره، فالمعمار نفسه لم يعتن بجمعه6. إن المقطوعة الشعرية التي رواها ابن حِجَّة للمعمار وذكر أنه استقاها من (تذكرة عز الدين الموصلي، ت: 789هـ/1387م) لا يتضمنها الديوان7، وهذا يظهر أن مثل هذا الجمع حدث بعد عشرات السنين من وفاة المعمار على الأقل. إن المجموعة الخطية الكبرى التي تحتوي على مواد متعلقة بالمعمار بعد الديوان، ترد في خزانة الأدب لابن حِجّة الحموي (ت: 837هـ/1434م)، حيث يذكر في فصل التورية 58 مقطوعة و7 من المواليا. ويُذكر أن قطعاً كثيرة يوردها ابن حجة لا يحتويها المخطوط الذي عدنا إليه، كما أن أغلب المختارات الشعرية في القرنين الثامن والتاسع للهجرة (للنَّواجي، وابن أبي حجلة، والسيوطي)، تحتوي على مقطوعات شعرية للمعمار.

ويُعَدُّ الصَّفدي (ت: 764هـ/1363م) أهمَّ مصدر لسيرة المعمار، وذلك في كتابه (أعيان العصر)، وهو يتضمن مجموعة من مقطوعاته الشعرية أيضاً، وكما يقدّم الصفدي معلومات مختصرة للمادة نفسها في كتابه (الوافي)8. ويبدو أنه لم تكن هناك مادة أخرى حول حياة المعمار تحت تصرّف ابن تَغْري بِرْدي وابن حَجَر ما عدا مقالة الصفدي وديوانه9. وتخبرنا مقدمة ديوان المعمار أنه كان حجازيَّ الأصل، وأنه ولد في القاهرة، حيث نشأ ومات (المخطوط 76أ). وما عدا ذلك فإن جامع الديوان يعود إلى الصفدي أيضاً. هذا ومن المحتمل أن خبر أصله الحجازي قد يكون خطأ في قراءة اسم المهنة: (الحجّار) التي يذكرها الصفدي.

وتشير قلة المعلومات المتعلقة بحياة المعمار، إضافة إلى عدم ذكر اسمه الكامل، إلى بُعده عن دائرة علماء عصره. ومما لا شكّ فيه أن اسمه (إبراهيم)، وأنه سمّى نفسه المعمار. ولا غرابة في أن الصفدي في إحدى مقطوعات المعمار (أعيان العصر 1/148) يشير إلى كنية (برهان الدين)، التي غالباً ما كانت مرتبطة باسم (إبراهيم)، إلا أننا نجد في الديوان (المخطوط 76أ) كنية (جمال الدين)10 أيضاً. هذا، ويُذكر شاعرنا تقريباً في كل مكان باسم (المعمار) بوصفه غلام النوري، كما يرد في مصادر ومخطوطات أخرى على أنه (غلام النووي/النويري/الثوري)، أو (ابن غلام النوري، وابن غلام الثوري)، حسب (المخطوط 76أ). ويبدو أن الصفدي علم متأخراً بأن اسم أبيه عليّ؛ لأنه يصنّف (المعمار) في الوافي وأعيان العصر خلف ترجمة (إبراهيم بن يوسف)، وهذا يظهر أن اسم أبيه لم يكن معروفاً بالنسبة إليه في وقت تأليف هذين الكتابين. ويذكر الصفدي في كتابه (ألحان السواجع)، حيث يورد قطعة متبادلة مع المعمار أنه (برهان الدين بن علي)، المعروف (بابن غلام النوري، وبالمعمار وبالحجّار)11. وهذا الخبر لا يعود إلى معاصريه فقط، وإنما يتوفر بخطه. ويجوز أن يكون الأمر متعلقاً ببيان موثوق دائماً. ويبقى مصدر بروكلمان (تاريخ الأدب العربي 1/10) عندما ذكر اسمه الكامل بأنه (إبراهيم بن علي بن إبراهيم) غامضاً. هذا، وقلما يستطيع المرء أن ينظر بجدّية إلى الكنية المذكورة فيه، وهي (أبو الظرائف) على أنها جزء من اسمه.

الحُبُّ والبناء

إن كان الصفدي يقدّر أشعار المعمار؛ فإن اهتمامه بالشاعر لا يذهب بعيداً إلى حدّ الاهتمام بمهنته. وهكذا تبدأ الملاحظات عنده في الوافي وأعيان العصر بكلمات غامضة تقريباً، فهو يسمّيه: "إبراهيم الحائك أو المعمار أو الحجار"12. ومع الأسف فقد دفع هذا بروكلمان في تاريخ الأدب العربي أن يذكر شاعرنا على أنه الحائك، مع أنه لم يُذكر في المصادر بهذا الاسم، ولم يستعمله –نفسه- على الإطلاق. ولأن تاريخ بروكلمان وضع المعيار لترتيب السير والتراجم؛ فإن شاعرنا بقي يُذكر في فهارس المكتبات تحت اسم الحائك لمدة طويلة13. إن شاعرنا يسمّي نفسه بالمعمار، متحدثاً عن ذلك بسرور في أشعاره، ولا ينقص هذا أيضاً في الإشارات إلى مهنة البناء. ومن ذلك قوله في مقطوعة الغزل التالية14:
لَـــــمْ أَنْسَهُ إذْ قــالَ لــي ... أَتَـــراكَ تـعشَـقُنـي بِـنِــيَّــــــهْ
بالله يا مِـعْمـــــارُ؟ قلــ ... ـــتُ وَرافـــــعِ ذا الْــبَــنـِــــيَّـــهْ

فإلى جانب الإشارة إلى مهنة المحب والقافية بين الكلمتين (بِنِيَّه والبَنِيّه) اللتين لا تتميزان في الكتابة، تقع النادرة الحقيقية لهذه المقطوعة في أنه يوحي إلى قلب الشكل الرائج "لمقطوعات المهن الشعرية". فهو يبيّن في مثل هذه المقطوعات حبَّ شاعر من أصحاب المهن المحددة، ويعبّر عن هذا في مقطوعة تكون نادرتها مقترنة بعلاقة ما مع المهنة المذكورة. هذا، ومن الطبيعي أن ترد مقطوعات شعرية متعلقة بالنساء أيضاً15. ولكن بسبب الاختيار القليل لمهنهن آنذاك، فإن "مقطوعات المهن الشعرية" تتصف في غالبيتها الساحقة بالشهوانية. لقد نظم المعمار مجموعة كاملة من المقطوعات الشعرية المهنية هذه، ومن المؤكد أنه ليس صدفة أن تتمثّل مهنة البناء تمثيلاً جيداً من جديد؛ فكثير من هذه المقطوعات تتناول الحجّار16. وعلى الرغم من أن النادرة اللغوية تحتل مكانة الصدارة في هذه "المقطوعات" فإن المرء يتعرّف شيئاً عن المهن في العصر المملوكي أيضاً. وهكذا توجد مجموعة من تسميات المهن التي لا شاهد عليها إلا في مثل هذه المقطوعات. وهذه مقطوعة على سبيل المثال من ديوان المعمار، وهي تتضمن معنيين واضحين لتاجر القطن، وترد فيها تسمية (قطّان) إلى جانب (نَدّاف)17:
قَـطَّـــانُـنــا مُـــهَـــفْــهَــــفٌ ... ثَقِـيْــــــلـــــةٌ أردافُــــــــهْ
ناديــتُ مِــــن عِـشْـقٍ لَـــهُ ... ياليــتَـــني نَــــــــدَّافُــــــهْ

إن التزام دائرة موضوعات "مقطوعات المهن الشعرية" عند أحد الشعراء بحالة المهن، التزاماً جيداً يجب ألا يبعث على الدهشة، ذلك أنه لا يجوز للمرء هنا أن ينسى أن أغلب شعراء الأدب الفصيح وجد عنده الاهتمام بمثل هذه الموضوعات. وهنا يُشار إلى أديبين من أشهر أدباء العصر المملوكي، وهما ابن نباتة والصفدي اللذان كانا معاصرين للمعمار، وكان لهما عدد لا يُستهان به من هذه المقطوعات. وأخيراً يُذكر أن النّواجي الذي يمكن للمرء أن يسميه محقّاً "صفدي القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي"، قد جمع عشرات الأمثلة في مختاراته الشائعة للغاية (مراتع الغزلان)، كما خصّ الإبشيهي صفحات عدة في (المستطرف)18. لهذه الأمثلة. هذا، ويُنظَر إلى "مقطوعات المهن الشعرية" على أنها نوع اشترك فيه ممثلو أدب الصّفوة والأدب الشعبي في العصر المملوكي، على حد سواء.

الـمِعمار والعلماء والتعليم

إذا ما غضّ المرء طرفه عن قصائد المعمار نفسها، فإن الأخبار كلها التي بحوزنتا عن حياته تعود إلى مصدر وحيد، أي الصفدي. فهذا العالم والأديب المؤرخ يعدُّ إحدى الشخصيات الفائقة في عصره، ويُشتهر اليوم بوصفه مؤلفاً لموسوعتين شاملتين من موسوعات التراجم والسير، إحداهما (الوافي بالوفيات) وهي تتضمن سيرة للشخصيات المشهورة في العصور كلها، بينما الثانية (أعيان العصر) تقتصر على معاصريه. وتتضمن الموسوعتان معلومات عن المعمار، وما يوجد في كتاب (الوافي) عن المعمار يعدّ صيغة مختصرة لما في (أعيان العصر). فالصفدي يبدأ ترجمة المعمار المختصرة ببيانات مهنية مضطربة ذكرناها من قبل، وتستمر بوصف مختصر للشاعر بأسلوب مسجوع، فهو: "عامّي ظريف، وشاعر عَرِيَ من حُلَل النحو والتصريف، لكن قريحته نظّامة، وطباعه لبرود شعره رقّامة، له ذوق قد شبَّ عمرُه فيه عن الطوق، وتوريات تسير الثريا من تحتها وهي من فوق، واستخدام له إلى تحريك الأعطاف وهزّها شوق"19. ويتابع الصفدي ثناءه بعد ذلك، إلا أنه يقيده، ببيان أن شعره لا يخلو من لحن، وبأن استعماله النهايات النحوية يقوم على تعسف مجرد، ولكنه إذا ما استطاع أن يتحرر من قيود اللغة الفصحى، وينظم بالعامية فإنه يطلق عبقريته الكاملة. ونعلم أخيراً أن المعمار كان إنساناً زاهداً وقنوعاً، يتجنّب مخالطة ذوي الجاه، ولا يتلهف على المال، وأنه كان يعيش في ضاحية باب اللوق، ومات سنة 749هـ بسبب الطاعون الأسود. ولعل هذا ما كان سبباً عند الصفدي أن يذكر قصيدته المشهورة في الطاعون، التي سنعود إليها في نهاية دراستنا. ويخبرنا الصفدي أن المعمار خصّه بقصيدة ترحيبية عندما عاد إلى القاهرة سنة 745هـ، وأنه ردَّ عليه بقصيدة شكره فيها، ومن الطبيعي أن الصفدي يورد القصيدتين20، ويتبعهما بمقطوعات أخرى للمعمار بلغت 18 مقطوعة. هذا، ولا نعلم مزيداً من الأخبار عن حياة المعمار.

ويستطيع المرء أن يلقي بظلال الشك حول لقاء الصفدي بالمعمار21. وبأن المعمار لم ينظم أي قطعة ترحيبية بالصفدي، وكذلك إن كان الصفدي قد كتب مقالة عن المعمار؟ وهو الذي يتحلى بالطموح بالتعرف بأكبر عدد من رجال عصره المشهورين (على الأقل عن طريق الرسائل). ولكن إن لم يكن قد حدث هذا، فإن الأقوال الأخرى عن المعمار التي تتصدر ديوانه أيضاً، والتي ترجع إلى الصفدي وحده تقريباً لا يمكن أن تكون مكتوبة، وإن لم تكن مكتوبة، فإنه قلّما يوجد سبب لتزويد هذا الرجل لدى الاقتباس باسمه الذي لا يمكن لأحد أن يبدأ معه بشيء. وهكذا ربما تكون هذه القصائد كغيرها دون نسبة باستخدام الصيغة المألوفة: "وقال آخر/ بعضهم"، ومندرجة في كمية الأدب المجهول.

وندين بالفضل للصفدي الذي جعل المعمار معروفاً لنا، على الرغم من أن الأمر لم يكن سهلاً عليه في كتابة هذه الأقوال، وإدراجها في موسوعته. ويُظَنُّ أنه لو لم يحدث لقاء شخصي واحد بينهما، فإنه من المحتمل ألا ينهض بهذه المهمة. ومن المؤكد لدى تقديم الشاعر بأنه "عَرِي من حلل النحو والتصريف"، فإنه يترك لنفسه مسافة آخذاً موضوع النحو في المقدمة مرةً ثانية، ومسجّلاً أربع مقطوعات اختارها متحفظاً بأنها تحتوي على لحن صغير. ومثل هذا التحفظ لا يصدر عن خبث كما يفترض ابن تَغْري بِرْدي بقوله: "ما أورده الصفدي هو الرديء من شعره، فله أحسن من ذلك، مثل قوله..."22؛ ذلك أن المقطوعات التي اقتبسها الصفدي اقتبسها مؤلفون آخرون (ابن تَغري بِردي أيضاً، الذي عدَّ إحداها الأفضل) من جانب، ومن جانب آخر فإن قصائد المديح التي يقدمها الصفدي إلى جانب نقده اللغوي لا تقوم على رياء. ذلك أن هناك شعراء آخرين قام بذكرهم بفتور وبرود واضحين، وبالتالي فإن ما كان الصفدي يضمره للمعمار فقد كان انطلاقاً من إعجاب صادق حقيقي. لقد فقد الصفدي شهرته أكثر من صبي المماليك ابن تغري بردي، ذلك أن علماء هذا العصر ألّفوا جماعة متجانسة نسبياً، فقرؤوا الكتب نفسها، وامتلكوا المعارف والقدرات ذاتها، ولكن تقوم بينهم فروق من ناحية التخصص، ومن ناحية المستوى الذي وصلوا إليه. لقد كان تخصص علماء الفقه والحديث أكثر بساطة من تخصص الأدباء؛ لأن هؤلاء الأدباء الذين أرادوا أن ينتموا إلى صفوة العلماء اشتُرط عليهم ثقافة أدبية شاملة، تتضمن المقدرة على نظم القصائد الصحيحة، وربما الطريفة. وهكذا وجب على المرء الذي يسعى للاعتراف بوصفه أديباً، أن يكون عارفاً بتقاليد الشعر، وراعياً للقواعد اللغوية للثقافة العربية – الإسلامية ووسيطاً لها، إضافة إلى المقدرة على نظم الشعر نظماً حسناً مقارنة بزملائه المتخصصين بفروع أخرى. ومثل هذا الأديب الطموح كان الصفدي الذي لم يكن سهلاً عليه أن يتغاضى عن أخطاء وقع المعمار فيها، وإنما وجب عليه على الأقل أن يشير إلى أنها لفتت نظره. ولعل مما يوضح موقف الصفدي أيضاً أنه نوَّه بشعر المعمار العامي، لكن لم يقتبس23. مقطوعة واحدة من المواليا. وبناء على حقيقة قلّة ما ورد من شعر شعبي لهذا العصر، فإن الأمر لا يتعلق بأنه قلما حظي بتقدير العلماء24، وإنما يعود السبب إلى عدم توافق هذا الأدب مع المتطلبات "المهنية" لتطابق صورة أدباء هذا العصر لأنفسهم.

لقد كان الاحتفاظ بمعيار المهنية هذا لحرفة الأديب ذا أهمية بالغة أكثر من الثقافة الواسعة لهذا العصر، فقد جذب اهتمام طبقات المجتمع الأكثر اختلافاً، وساعد25، على نحو قليل أو كثير، في بناء ثقافة عميقة متوسطة. ويعد المعمار أحد هؤلاء المشاركين الساعين لتلقي العلم في حلقات العلماء، فقد ذكر ذلك في إحدى مقطوعاته26. ويمكن القول إنه لم يستفد كثيراً من التعليم النظامي، وعلى ذلك فليس نظم الشعر الوحيد الذي لم يكن مألوفاً بالنسبة إليه، وإنما المبادئ الأساسية للنحو العربي أيضاً27. لقد عرف المعمار علماء عصره المشهورين، وحاول أن يتلقّى علومهم، وأقدم على ذلك أكثر من مرة مقترباً منهم؛ وما عدا الصفدي فقد اقترب من علاء الدين بن الفضل العُمري28. (ت: 769هـ/ 1368م) وخصّه بقصيدة مدحية، وهي التي تُعد الوحيدة التي رواها المعمار، وتتألف من 18 بيتاً، وتحتوي كما تقضي بنية المدحية على جزأين، ولكن الجزء الأول منها ليس نسيباً، وإنما شكوى من البرد القارس، مما استدعى الشاعر شمس الدين بن الصائغ (الذي سيأتي الحديث عنه) أن يعبر عن إعجابه، ولعله تعبير حسد، وإن كان قليلاً، وذلك بقوله: وهذا مع أنه لا يتقن العربية إتقاناً سديداً. ويقابل المعمار هذا المأخذ -لا ينص على العربية والتعبير السليم– بوسائله، أي بارتجال قطعة شعرية ساخرة معتمداً البحر الطويل الذي غالباً ما يُخَصص للمناسبات الاحتفالية، ونادراً ما كان يستعمله عدا عن ذلك. وهو يظهر موهبته في هذه المقطوعة مستعيناً بالتورية، التي تعد وسيلة أسلوبية للثنائية (والتي سيتم الحديث عنها مراراً فيما بعد). فالكلمة (عربية) لا تُطلق على اللغة العربية الفصحى فحسب، وإنما على عربة التحميل التي يجرها الحمار. فهو (لا يخلو الأمر هنا أيضاً من صرامة نحوية) يقول29:
يقــولونَ هـذا مـا لَــهُ عَـرَبـيـَّـــه ... ولـيسَ نراهُ للـنُّحاةِ بــمــــارِ
فقلتُ لهمْ مِنْ أينَ ليَ عَـربـيَّـه... وما فُزْتُ في الدُّنيا حقّ حمـارِ

الحبُّ والفُحش والخمر والحشيش

لم يكن المعمار مهتمّاً بقصائد المديح، ذلك أن القسم الأعظم من شعره يخصّ موضوع الغزل، وهو الموضوع الذي زادت أهميته في العصر المملوكي، كما في العصور الماضية. إن المعمار في غزله لم يقدم تلك الأوصاف الطّنّانة للغلمان أو النساء الجميلات أو شكوى الفراق أو تمنع الحبيبات التي كانت مركز قصائد الغزل، وإنما قدّم صوراً جديدة من نوع "المقطوعات المهنية الشعرية" التي اقتبسنا منها نموذجاً من قبل، وعرض مشاهد صغيرة، مثل الوصف التالي لأحد الغلمان، واسمه إبراهيم، وكان امتنع مزهوّاً أن يرد تحية الشاعر. والمعمار يطرق هنا موضوعاً رائجاً في وصف الجمال ملائماً بين تشبيه حمرة الوجنتين بالنار، وبين برودة هذا التصرف، وهو يرى أنه يجب أن ينشأ سلام من هذا التناقض بين النار والبرودة، حيث تنتج تورية؛ لأن كلمة "سلام" تعني التحية أيضاً30:
مَرَّ وَمَــا سَلَّمَ مِنْ عُجْبِهِ ... وماسَ تِيهـاً وَتَثَنَّى احتشامْ
فقـلتُ إبراهيمُ بَــرْداً أرى... بنارِ خَدَّيْـكَ فأيـنَ السَّلامْ؟

ومع أن مثل هذه الأوصاف تكوِّن نواة شعره الغزلي، فإنه توجد أيضاً موضوعات الشكوى، كما في المقطوعة الآتية المتعلقة بالدموع31:
غِبْتُم فَمَـا لـي بَعْدَكُمْ مُسْعِدٌ ... أشكو لَـهُ فَرْطَ غرامي الـمُقيمْ
ولا صديقٌ غَيرُ دَمْعي الّذي ... وَجَدْتُـهُ لي حينَ أخلـو حَـميـمْ

والحقيقة أن غزل المعمار لا يسير دائماً على هذا النحو من اللطف؛ ذلك أن صيته يدين لقسم جيد من شعره في المجون32. ولا يشمل هذا النوع دائرة كبيرة من الشعر الفاحش فحسب، بل معالجة فكاهية لبعض الموضوعات الدينية أيضاً. وعن هذا سيكون الحديث في المقطع بعد القادم. وهنا ينبغي عرض الجزء الفاحش أو الخليع من المجون في شعره. والحقيقة أن الديوان قلّما يروي مواد جديدة؛ لأن المجون الفاحش تمّ اقتباسه اقتباساً كاملاً تقريباً من قبل ابن حِجَّة والصفدي. وبهذا تم تقديمه مطبوعاً، إلا أن النصيب الكبير من هذا المجون في نتاج شاعر شعبيّ يدفع إلى تقديم مختارات خاطئة إلى الثقافات الأوروبية. وبناء على هذا فقد أراد المرء دائماً أن يرى في المجون شواهد على التمرد ضد الطبقة العليا من المجتمع، وثورة على تقاليده، ومعارضة للدين33. ويقع مثل هذا المعنى لدى أحد الشعراء الشعبيين مثل المعمار قريباً، إذا ما افترض المرء أن الفحش يرتبط بالروح الشعبية المكافئة غالباً على نحو مثلما هو جهاز العروس الملزم للطبيعة. وتتقدم القباحة بوصفها أول علامة لهذا النوع الذي لا يقبل التعامل معها، وذلك بخلاف مطلق مع تصورات الأماني المثالية34.

إلا أنه مع مثل ظواهر المجون هذه لا يقترب المرء من الثقافة العربية/الإسلامية؛ لأن دائرة الموضوعات هذه ليست إحدى مميزات الأدب الشعبي وخصوصياته. فالسرور بالمجون "شاع بكل الطبقات"35. وهذا يسري بلا حدود على العصر المملوكي. إن قصائد المجون بوصفها قطباً معارضاً للعمل الثقافي الحضاري للعلماء المسلمين كانت قسماً قليل القيمة من الأدب الفصيح. ففي عصر المعمار جمع الشاعر الكبير ابن نباتة (ت: 768ه/ 1366م) زميل الصفدي ومنافسه أحياناً، مختارات من قصائد الشاعر ابن الـحَجّاج (ت: 391ه/1001م)، وقدّم كذلك في كتابه الخاص عدداً من المجونيات. وكذلك فإن الشاعر الأبرز في هذا العصر إلى جانب ابن نباتة، صفي الدين الحلي (ت: 749ه/1348م)، كان قد أدرج في ديوانه فصلاً عن المجون، وفصلاً آخر في مختاراته الشعرية36. لقد استمر أدب المجون في العصر المملوكي "ليكون مقدراً ومتكاملاً لدى العلماء المحترمين والشخصيات الدينية"37.

وهكذا فإن مجونيات المعمار لا تسقط، ولا تُستَبْعَد من محيط الأدب الفصيح من خلال مضمونها، وإنما تؤكد كثرتُها حالةَ الشاعر بوصفه خبيراً لهذا النوع المسلي الممتع. وفيما عدا ذلك لا يجوز أن يكون موقف انتظار المتلقين بلا أهمية. ويبدو أن النسبة المئوية لمجونيات38. المعمار المقتبسة في منتخبات الصفدي وابن حجة، أكبر من حصتها في الديوان. وهكذا لن يستطيع المرء أن يتعرف في مجون العصر المملوكي على أنه هدم أو انتقام من الطبيعة المستسلمة أو "ثورة ضد الدين"39. لتحريم السرور ومنعه، وإنما بالدرجة الأولى يعد شهادات تكامل ناجح لمحيط الطبيعة الإنسانية في الثقافة التي وضعت لغة تحت التصرف للتمكن من التفاهم الأدبي حول هذا.

إن موضوع المجون وما يتعلق بدائرة الموضوعات الجنسية كثيراً ما يكون إن لم يكن الغالب عجزاً في هذا المجال40. ويتم تحويل هذا العجز في قصيدة المجون –كما علمنا هذا أيضاً من النادرة الفاحشة- إلى نادرة، بحيث إن التوتر الانفعالي الناشئ لهذا السبب، وقبل ذلك عن الخوف يتلاشى في القهقهة. "إن النكات المستملحة الفاحشة التي لا تقال، والتي تطبق في النهايات الساخرة"41. غالباً ما تكون نادرة أدبية أو لغوية أو أي قلب ظريف لموضوعات أدبية أو رمز لغوي. وهكذا يتحدث ميسمي MEISAMI "عن الألعاب الأدبية التي تدعو كثيرين من المتلقين في تحديد الحيل التي تُعرض أمامهم"42. ولكن في العصر المملوكي تتفتح إمكانيات جديدة بالاستعانة بالتورية التي اعتمد المعمار عليها اعتماداً كبيراً. ومن ذلك أنه يعود إلى عالَم المهن للقَطّان أيضاً، وذلك بإيراد ثلاث مقطوعات تستغل غموض كلمة (قاعدة)، التي تعني -من جانب- مصطلحاً معمارياً، ولكنها من جانب آخر تطلق على المرأة التي تخطت فترة الإنجاب43. ويقوم نوع المجون، كما يرى المرء، على السخرية من النفس إلى حد كبير، ويمكن الوصول إلى حدود اللياقة لدى أحد العلماء في وصف الشعراء الهزلي هذا، وليس في الخلاعة نفسها. لقد استُسيغ نظم المجون في هذه الدائرة أيضاً، على أنه شهادة لتعدد الجوانب، ولكن كثرة النظم فيه لا شك أنه كان سيقلل من وقار العلماء. وربما يفسِّر هذا شعبية مجونيات المعمار لدى العلماء، إذ إن المرء لديه لم يأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان.

لقد كانت الخمريات أكثر إشكالية من شعر المجون بالنسبة إلى العلماء في العصر المملوكي، ولأن الشعر في هذا العصر كان بيد العلماء في جوهره فإن شعر الخمر كان بحالة صعبة، إن لم يكن اختفى تماماً. ومن البدهي أن نشر النَّواجي كتابه (حَلَبة الكُميت) في القرن التاسع الهجري، وهو الذي يعد حتى الآن المختارات الأكثر شمولاً لشعر الخمر قد جُوبِه بمقاومة عدائية44. وهنا أيضاً يحظى المعمار بحرية المغمور، فقد خصص قصائد كثيرة للخمر، إلا أنها من ناحية أخرى ليست من نوع شعر الخمر الواصف، وإنما حسب نوع قصائد المجون التي تنوّه بمخالفة حيوية لمنع الخمر. والمقطوعة التالية تعد نموذجية، فهي تتضمن نادرة أيضاً، تفيد بوجود سرقة، وبالتالي فإن طالب القوت (اللص) يبرر سرقته بسبب الجوع، أي أنه لم يرتكب مخالفة45:
قالوا اترُكِ الخمرَ واجْتنبهُ ... لا تـتعدّى للشَّرْعِ حـــَـــــدّا
قلتُ أراه لـروحـي قُـوتــاً ... وطـالبُ القوتِ مـا تَــعَــدَّى

هذا، وإن تعلّق الأمر بمسألة موقف المعمار وتفضيله للخمر أم لمخدر الحشيش الذي كان منتشراً في تلك الأيام، فإنه يختار غالباً الجانب الأول. ولا عجب فقد اكتشف المعمار إمكانيات جديدة لاستخدام الخمر، وذلك من خلال نظم مقطوعات غزيرة حول الأثر الشافي له، وكذلك مقطوعات تعالج قرص البراغيث، وهنا يبدو لنا أن المعمار أراد أن يقيم علاقة ما بينهما، كقوله46:
إنَّ الــبَـــراغيـــــــثَ اللئـــــا... مَ بَغَـــــــوا عليَّ فقُلْتُ مَالي
إلاَّ الخمورُ إذا اخْتـمَـــــرْ... تُ وقَرَّصـــــوا فــــــــــلا أُبالي

ويُذكَر أن السلطات عندما حاولت منع الخمر منعاً صارماً بحيث يشمل النصارى أيضاً، وأن تحول دون استهلاك الحشيش، قام المعمار بنظم قطعة من المواليا ضمّنها سخرية لاذعة47، بقوله:
يَا مَنْ على الْخَمْرِ أَنكرَ غايةَ النَّكرانِ
لا تمنعِ الــقُسَّ يـملا الـدّنَّ والمُطـرانِ
وأْمُـــــرْ بِبَـلعِ الحشيشِ تـكسب (أجرانِ)
وتـغـتـنمْ دعــوةَ الْـمَسْطولِ والسكـــرانِ

بطل مكَّار (بيكارسكي) وساخر

قلَّما نجد شاعراً مثل المعمار، فقصائده تغرينا بمحاولة ملء الفجوات الواسعة في معرفتنا به، واعتمادها بوصفها شهادات وأقوالاً تغني سيرته الذاتية. ولكن يُطرح سؤال هنا، عما إن كان باستطاعة شاعر شعبي أن يكذب؟ ولماذا أقرّ واعترف بولعه بالخمر؟ فيما إذا كان في الواقع قبل أن يتعاطى الحشيش، ويميل إليه، كان يهتم خلسة بزهد كامل وينحو لتقشف صارم؟ ومع ذلك فإن القصائد الشهوانية كلها التي يزعم فيها ميله لغلام صغير أو ملتح كبير، أو للرجال أو للنساء عامة، تظهر أن شعر المعمار كله غير الصوت الساذج للشعب، وهذا يعني، بلا شك، أنه يتحدث عبر فم الشاعر الشعبي على المشاعر الحقيقية بطريقة غير متكلَّفة48. هذا، ومن الطبيعي أن كثيراً من أشعار المعمار جاءت نتيجة إفراز لتجاربه الشخصية تماماً، ولكنه كان يعرف من جانب التقليد الأدبي، ومن جانب آخر توقعات المتلقين منه لمعرفة الأدوار الأدبية التي وجب أن يقوم بها لإرضائهم. وهكذا يجب علينا ألا نظنّ أن هناك مأساة حقيقية لبنّاء مفلس خلف القصة المحكية التالية المتعلقة بالإفلاس والجوع49، وإنما تعكس صورة بطل مكّار من أبطال فن المقامات50:
وَصاحِـبٍ جـئـتُ إلى دارِهِ... فَلَمْ أَجِدْ في دارِهِ مَنْ يَحْرُسْ
دَخَـلْـــتُ لـلّـدارِ على غَفْـلَــةٍ... وَجَـــدْتُــــــهُ مُتّـكِـئـــــاً يَــنْــعَـــسْ
فَقالَ مــا تَـبـغـي فقلتُ القِرى... منكم فإنّــي جائــعٌ مُفْـلِـسْ
فجـادَ لــــي بــالــدُّهْنِ مِنْ رأسِـهِ... وجادَتِ الـمرأةُ بالــكُسْكُـسْ

ويُحتمل أن مقطوعات الجوع هذه من ناحية السيرة الذاتية ليس أقل فائدة من قراره الذهاب إلى سوق العبيد ليشتري محظيّة، ولكنه استسلم للحكمة الاقتصادية، ووجد طريقة للجمع بين رغباته الشهوانية والحاجة إلى من يقوم على خدمته المنزلية تحت قبة واحدة. وهذا ما أخبرنا به في إحدى المقطوعات التي تظهر خاصية معينة تقوم على تجاوز غليظ لتركيب الجملة بين البيت الأول والثاني، وهو تجاوز لا يرجع إلى قدرات لغوية ناقصة عنده، وإنما عنى به نادرة لغوية51:
خَرَجْتُ يـوماً وقَصْدي... سـوقُ الــرَّقــيــقِ لأَشْري
سُـــــرِّيَّــــــــــةً ثُــــــمَّ إنِّــــي... أَطَعْــــتُ عَقْـلِي وفِكــــري
شَرِيْتُ عَـبْــــــداً مَـلِـيْــحـــــــاً... وقــلتُ يا نَــفْــس سُـــرّي

إن تصوير مثل هذه التجارب الحقيقية بخلفية مريبة من الناحية الأخلاقية قلّما توجد في الأدب الفصيح ما عدا فن المقامات. والحقيقة أنه في أدب العصر المملوكي يوجد ميل عام نحو مراعاة قوية للموضوعات الخاصة، وحتى وإن اتخذ ابن حَجَر52. زوجته موضوعاً لقصيدة غزلية، وهكذا فإنه من غير المعقول أن هذا العالم استطاع أن ينظم مقطوعة تتضمن صعوبة التخلص من زوجته كما فعل المعمار هذا53. أما الأبيات الساخرة المتعلقة بأشخاص غريبي الأطوار عائلياً فيجدها المرء لدى العلماء أيضاً، ولكن أقرب ما يكون ذلك لدى المعمار.

ومن المؤكد أن مثل هذا التوقع قاد إلى أنه نسبت قصائد للمعمار لم تكن له، ولكنها تناسبه تماماً. وهذا ما يمكن أن ينطبق على المقطوعة التالية، التي تصف قَدَراً سيئاً لبرذون54، لدى سكرتير أحد الدواوين الحكومية. ويُظن من هذه النادرة أن الموظف كان قِبطيّاً، حيث يُلاحظ أن الكتابة القبطية مثل أمها اليونانية تتجه إلى اليمين، وهذا يعني بالنسبة إلى العربي السير إلى الوراء55:
لِـكاتــبِ الـــدّيــــوان بِــرْذَوْنَـــــــةٌ... بَـعيــدةُ الـعَـهْـــدِ مِــنَ الْـقُــــرْطِ
إذا رأتْ تِـــبْــــنـــــاً على مِـــــــذْوَدٍ... يـــقولُ سبحانــكَ ما يُــعطــي
تَمْشي إلى خَلْــفٍ إذا ما مشتْ... كــأَنَّـمـــا تكــتــبُ بالــقِــبْـــــطي

ولقد كانت السخرية أحياناً تصيب شخصيات تاريخية معاصرة له، ومن هذه الشخصيات الطبيب الأكثر شهرة في عصره ابن الأكفاني، الذي صبَّ عليه المعمار جام سخطه وغضبه دون معرفة الأسباب. وبالمناسبة فقد كان ابن الأكفاني شاعراً هاوياً ناجحاً أيضاً، وأثنى الصفدي عليه ثناءً حاراً، مبرزاً نجاحه المدهش في عمله الطبي56، ولكن رأي المعمار كان مختلفاً فيه، حيث يقول57:
لابــنِ الأَكْـــــفــــــانِ طِـبٌّ... نســــــألُ اللهَ السَّلامَهْ
مــا لَــــــهُ قَـــطُّ مـــريــــضٌ... قــــامَ إلاَّ للـقِيــامَــهْ

هذا، وعندما يحكم روهمكورف RUEHMKORF على الشعر الشعبي بأنه "ميل عجيب لرفض الهيبة"58. ويثبت أن العلاقة المتوترة مع السلطة أساس الشعر الشعبي، وأن مناقشة علاقات السيادة نوع من الدافع الأساسي59، فإن هذا يسري على المعمار أيضاً. ولكن من جديد لا يجوز لهذه المختارات الشعرية أن تُفهم بالمعنى الضيق، ذلك أن شاعرنا لا يتمرّد على المعايير القمعية، ومن المؤكد أن ما يدفعه هنا للتعبير ليس "إحساس الحياة بالذل أو الإحساس بالإهانة"60، وإنما الحقيقة البسيطة في أن المعمار لا يختلف عن كثيرين منا اليوم، فقد كان يعيش تحت تدابير إدارية متعسفة غير منطقية، ولم يستطع أن يقاومها بشيء أكثر من غضبه. ومن المؤكد أن هذا ما جرى مع الصفدي وابن نباتة أيضاً، إلا أن المعمار على عكس أقرانه العلماء، كان بعيداً عن مراكز القوة، بحيث استطاع أن يجيز لنفسه كل سخرية بحقّ كبار عصره؛ ذلك أنه لم ينتظر أيّ تقدير من أحد، ولذا استطاع القيام بمهاجمة ممثلي الطبقة العليا في المجتمع مهاجمة مكشوفة. ويُذكر هنا أحد الولاة ممن أثار سخطه، دون أن يرد اسمه الصريح، وذلك في قطعة تأتي في هذا السياق، وهي جديرة بالاهتمام من حيث تاريخ التلقي، وهي نفسها المقتبسة في كتاب ألف ليلة وليلة، ولكن دون عزو. هذا وعلى الرغم من أنه حتى هذا التاريخ لم تكن هناك أشعار معروفة للمعمار في هذا الكتاب61، إلا أنه من المعقول، أن مقطوعات عدة وجدت طريقها إلى هذه الحكايا فيه، ولاسيما أن المعمار تمتع بشعبية كبيرة في مرحلة تأسيسية لنشوء كثير منها. وهذه مقطوعة أدرجها ريشر RESCHER في دراسته التي عالجت مضمون ألف ليلة وليلة62:
يصلحُ للحُكَّـامِ في عصرنا... وذاكَ للـحُكَّامِ مــــــــا يَجِبْ
الصلبُ لـلوالي على شُعْبةٍ... والصَّفْعُ بالـدِّرَّة لــلمُحتسبْ

ويتضمن الديوان مقطوعة أخرى أعلن المعمار فيها سخطه على الطبقة العليا في مجتمعه. ولفهم هذه المقطوعة يجب معرفة أن نطق اسم الله تعالى شرط للذبح وفق العقيدة الإسلامية63:
قَـــــــــــدْ بُـلِــيـــنــــا بأمـيـــــرٍ... ظلمَ النَّــاسَ وسَـبَّــــــحْ
فَهْـــــوَ كـالـجَـــزَّارِ فِــيــنـــا... يــــــذكـــــرُ اللهَ ويَـــذْبَــحْ

وتُذكَر مقطوعة ثالثة متعلقة بأحد الولاة، وهي تقدم مثالاً مناسباً لمهارة المعمار في مجال التورية لهذا العصر، حيث تتعلق التورية هنا باقتباس قرآنيّ، فقد ورد في القرآن الكريم: (إلا من تولّى وكفر، فيعذّبه الله العذاب الأكبر)64. وهذا ما اقتبسه المعمار في آخر أبيات هذه المقطوعة التي تكوّن نادرة تقوم على غموض كلمة (تولّى) والتي يمكن أن تدل على الوالي65:
مَا جاءنا والٍ أَمَـــرْ... مِنْ ذلكَ الـنَّحْسِ أَمَرْ
لا رَدَّه اللهُ لنا... لكنْ إلى نارِ سَقَرْ
ذاكَ الّــــذي نَــعُدُّهُ... مِــمَّـــنْ تـولّى وكَــفَـرْ

وإذا تأمل المرء المقطوعات الثلاث هذه مع المواليا المتعلقة بتحريم الخمر فإنه سيصل إلى نتيجة أن ما قام به المعمار لم يكن تحفظاً على السلطة الدينية والدنيوية، أو اعتراضاً على المعايير المقموعة، فقد كان دافعه كراهية النفاق والتحجر الديني الزائد في مقابل ضعف الطبية الإنسانية.

ابتلاء التدين

يطبع هذا الموقف علاقته بالدين أيضاً. وهنا يبدي المعمار رأيه بصراحة، ويتابع تقليداً أدبياً قديماً، فالمقطوعات التي كما يُقال تستهزئ بالمقدسات عُدَّت تماماً مثل المجونيات. ولذا يبدأ ابن حجة الفصل الذي خصّه بمقطوعات مجونيات المعمار بمقطوعتين تتعلقان بعَناء صيام شهر رمضان (الخزانة 2/183). ويحتل موضوع الصيام حيّزاً واسعاً مدهشاً في شعر المعمار، وتوجد تشكيلات أخرى لهذا الموضوع في ديوانه، ومن المعروف أن الصيام يتطلب إرادة قوية خاصة، ولاسيما إذا جاء شهر رمضان في فصل الصيف الحار، ومثل هذه التجرية لم يتكتم المعمار عليها، فهو يقول66:
شَهْــرُ رمضـانَ مباركٌ... إنْ لمْ يكنْ في شهر آبْ
خِفْتُ العذابَ فَصُـمْتُهُ... فَوَقَعْتُ في وَسْطِ العذابْ

وهكذا يعبر المعمار عن ضيقه بطول شهر الصيام، وكان يتمنّى أن يرحل بعد ثلاثة أيام، كما توحي المقطوعة التالية، حيث يقول67:
قُلْ لِشَـهْرِ الـصَّومِ ارْحَلْ... وتلَطَّـــفْ في العبــــــارهْ
زائــراً أنتَ فَخَــفِّــــــفْ... لاتُــثْــقِــــلْ فـــي الزِّيارهْ

إن مثل هذه المقطوعات الشعرية قلما تُفَسَّر بأنها احتجاج ضد المعايير الدينية، وإنما بوصفها مناقشات هزلية مع معاكسات الحياة اليومية، وليس شيئاً آخر كأغلب المجونيات. ومن جديد فإن طبيعة المعمار تتبع هنا اهتمامه بالحياة اليومية معرضاً عن إخراج مقدس للشعر الفصيح. ومن الطبيعي أن مثل هذه الأبيات المقتبسة، لم تكن مناسبة لعلماء الدين، مثل ابن حجر، إلا أن الشكوى من شناعة الحياة العادية كانت موجودة لدى الشعراء المؤسسين. ويكفي المرء أن يتأمل مقطوعات الشكوى الغزيرة المتعلقة بتغير الحمامات الساخنة إلى باردة، تلك التي كانت جزءاً أساسياً من مسرّة الحمام المتحضرة68. ولا شك في أن مضمون مثل هذه المقطوعات كان أبرز موضوعات الشعر الشعبي، وأن شكوى المعمار من مشقة الصيام لا تدع مجالاً للاستنتاج بقلة التزامه بواجباته الدينية، ولاسيما أن الصفدي أشاد بسلوكه وسيرته.

وما عدا ذلك فإن المعمار يتصرف بلا شكٍّ بوصفه واعظاً، وكما أن نفاق الوالي يعدّ شوكة في العين، فإن الصوفيين كانوا يثيرون غضبه. ذلك أنه لكي تكون ذا قيمة بينهم يجب على المرء، كما يرى، أن يضع عقيدته وإيمانه على المشجب69، أما ما يتعلق بسيرة هؤلاء الصوفيين فإن سلوكياتهم كلها كانت معرضة للنقد، وهذا ما أبرزه المعمار في مجونياته، وهو ما يدلّل على الشرط النوعي للشعر الشعبي الرائج أيضاً. ومن ذلك ما ينتقده المعمار نقداً حاسماً في قوله70:
صُوفِيَّـــــةُ الوقتِ فيهــــــم... مــــنَ البــراغيـــثِ قُــــــرْبُ
فيـــــهـــمْ ثــــلاثُ خِصــالٍ... أَكْــــــلٌ وَشُــــــــــرْبٌ وَدَبُّ

ثنائية اللغة

إن أية ظاهرة يصفها المرء بتسامح الإسلام، تقوم في الحقيقة على أساس الاعتراف بثنائية القول الإنساني حول الواقع تماماً، مثل تاريخ الحضارة الغربية التي يمكن أن تُقرأ على أنها محاولة استبعاد كامل لكل ثنائية، مع كل ظواهرها السلبية المرافقة71. وينحصر الاعتراف بالثنائية على المستوى الحضاري الكلي في الوعي، بأنَّ –بغض النظر عن جمل جوهرية قليلة– كلَّ قول إنساني موقوف على حدود المعرفة الإنسانية، ووسائطها اللغوية. ومن هنا ليس اليقين المطلق، وإنما فقط، وعلى نحو كثير أو قليل، يمكن الادعاء باحتمال كبير. وهذا نموذج اكتسب في المبادئ الإسلامية الأساسية لأصول الفقه شكلاً نموذجياً. إن تشريع الثقافة العامة العليا لا يعني أن الفرد يدرك نسبية آرائه الخاصة مطلقاً، وهذا يخالف بلا شك اللجاج القاطع على المستوى الفردي. ولذا فإنه من الضروري وجود ثنائية دائمة لتوفير هذين الاثنين. ولقد أنجزت الثقافة العربية/الإسلامية في هذا المجال أشياء لا تُجارى. وهكذا نجد دائماً خيطاً أحمر من الوعي الثنائي المهذب ابتداء من البحوث المعجمية المبكرة المتعلقة بالأضداد، ومصادر المحاسن والمساوئ، والتجارب مع خلق عالم سريالي من خلال الاستعارات في العصر العباسي، حتى تنظيم الحدود النظرية المعرفية للإنسان في فقه الأصول والمحسنات الثنائية في البديعيات في العصرين المملوكي والعثماني. لقد كانت التورية الإنجاز الأساسي في العصر المملوكي، ومع أنها وُضعت منذ العصر الأيوبي بشكل منظم، إلا أنها دخلت في مجال التطبيق العملي والنظري فيه أيضاً72.

هذا، ويُعَد أمراً لا يثير الدهشة ألا تقدّر الحضارة الغربية الحديثة المعادية للثنائية أساساً هذا النتاج. وبالتالي حُكم على التورية على أنها لعب عديم الأهمية بالألفاظ، (حتى وإن تم الاعتراف منذ زمن بهذه الأهمية الثقافية للعب، وذلك عبر ملاحظة هامشية)73. ولعل ما قلَّل من قيمتها المصادر التي يدين جزؤها الأساسي من فعاليتها لمثل هذا اللعب، بوصفها غير جادة وتافهة وساذجة ومتدهورة. إن الأهمية الثقافية العامة للتمرين على التورية لم يتم الاعتراف بها، فقد هوجم اللعب بالألفاظ بشكل غير معقول، سواء بأنه موصوف بميسم الطفولة، أو بأنه في الوقت نفسه مهارة لغوية معادية للشعب والصفوة منه.

إن عدم منطقية مثل هذا الطرح يظهره نموذج المعمار الذي ينحصر إدراجه في كتب السير والمختارات لدافعين اثنين، هما الوقاحة والمجون في مقطوعاته من جانب، ومهارته في حقل التورية من جانب آخر. وهذا الصفدي يشيد بتوريات المعمار بوضوح تام قائلاً: "توريات تسير الثريا من تحتها"74، وكذلك يأتي ابن حجة في الخزانة للحديث عنه في فصل التورية، كما سيجد خلوده أيضاً لدى مفسري البديعيات المتأخرين في الفصل نفسه75. ولدى ذلك يكون اللعب بالألفاظ الجزء الموحّد بين الشعر الشعبي وشعر الصّفوة، ويشكّل في مقاس خاصّ جسراً إلى الشعر الشفوي للفلاحين والبدو وفق التصنيف الذي ذكره بيتراجيك76 PETRACEK. إن ما يُنظر إليه من جانب على أنه نتيجة لحضارة لغوية راقية دقيقة للغاية تلك التي يعود الفضل في بلوغها إلى أثر القاضي الفاضل (ت: 596ه/ 1200م)، فإنه من جانب آخر "الملح في الحساء" للثقافة الشعبية لغير المتعلمين حتى أيامنا: ففي النصوص القديمة يتضح أن الموّالَ يعدُّ الحقلَ المفضل للألعاب اللفظية، للتورية، للإشارة المشفرة... ويبرز كاشيا CACHIA أنه بالنسبة إلى سكان القرى وسكان المناطق الفقيرة، الذين يكوّنون الجمهور العادي لمغني الموّال، فإن الشروح نادراً ما تكون ضرورية. إنهم يترقبون التورية ويفرحون فرحاً عظيماً باكتشافها، ويعترفون على كره إذا ما فشلوا في ذلك. والموال هذا الذي ينتهي بقافية بسيطة، أو الذي تكون كلمته الأخيرة مكررة المعنى يُسمّى (الموال الأبيض)، ولا يحظى إلا باعتراف متواضع لدى محبي هذا النوع77.

وندرك الآن أن المعمار لم يتصرف في عدّته الضرورية لتلك الأنواع التي تطالب بألعاب مكررة مع التشبيهات والاستعارات قبل ذلك، مثل: قصائد الزهور أو وصف الأشياء أو وصف المحبوب أو منظر الخمر وصعود الزبد لدى خلطه بالماء وما إلى ذلك من موضوعات، إذ إن تشكيل تشبيه يستحوذ على المستمع يتطلب في الدرجة الأولى معرفة راسخة في الأدب القديم للقيام بمفاجأة مع موضوعات مقارنة جديدة أو مع ظلال طريفة للتشكيل، غير أن التورية لم تحمل إلا القليل من التناص، إنها تتطلب قبل كل شيء مقدرة لغوية، وبالتالي موهبة كبرى أكثر من التعلم، وتترك للاستعمال علاوة على ذلك في كل موضوع محبوب بلا مشاكل. وهنا استطاع المعمار أن ينتج أدباً –يُفترض هذا بناء على أقوال المتأخرين– يحمل تسلية ذهنية سواء لغير المتعلمين، أو –وهذا ما نعرفه الآن بشكل حاسم– لأتباع الصفوة المتعلمة78.

 

"شعر الـمِعْـمار" أو: هل كان الـمِعْـمار شاعراً شعبيّاً؟

هنا نعود إلى المشكلة التي بدأنا بها دراستنا، وذلك للإجابة عما إن كان المعمار شاعراً شعبياً؟ وإن كانت الإجابة بالإيجاب، فما هي الخصائص الشعبية في شعره؟ يضع بيتراجيك79. الأدب الشعبي ضمن أحد النماذج الثلاثة، وهي:
1- الأدب الكلاسيكي
2- الأدب الشعبي
3- الأدب الشفوي
هذا، وإن حاول المرء أن يصنّف شعر المعمار في واحد من هذه النماذج، فإنه يمكن إيراد المعايير الآتية:

أ– المكانة الاجتماعية للشاعر

إن كنا لا نعرف إلا القليل عن حياة المعمار، فإنه يجوز إثبات تبعية الشاعر إلى الطبقة الوسطى المهذبة. إن أصل أحد الشعراء أو حالته الاقتصادية لا يلعبان دوراً في تصنيفه تصنيفاً اجتماعياً أدبياً في العصر المملوكي. وبغض النظر عن الحراك الاجتماعي الكبير في المجتمعات الإسلامية فإنه قليلاً ما يدهش أن عدد الشعراء العلماء الذين ينتمون إلى الطبقات المتوسطة لا يحصى، فقد مارس كثيرون منهم فيما بعد إحدى المهن، أو زاولوا التجارة (مثل صفي الدين الحلي)، وبذلك أصبحت حالتهم المالية أفضل من الشعراء الذين اقتصروا على حرفة الشعر، مثل ابن نباتة الذي اشتكى كثيراً من فقره المدقع، ولعل ما يوضّح حقيقة المعمار إمعان النظر في سيرة الشاعر شمس الدين الصائغ80. (ت: 725هـ/1325م)، الذي تأتي مقطوعاته الشعرية في خزانة ابن حجة بعد مقطوعات المعمار مباشرة. فالشاعران على الرغم من أنهما مارسا على الأقل لبعض الوقت مهنة محترمة، ونظما مقطوعات شعرية من النوع الممتع للمتلقين (نجد عند الصائغ قصائد طويلة، وشعراً تعليمياً)، إلا أن هناك تبايناً بينهما، فالصفدي يعرّف الصائغ بأنه "الشيخ الإمام العروضي"، أما المعمار فيقدّمه بوصفه "الشاعر"، وليس الشيخ أو الإمام. لقد كان الصائغ يتردد على القاضي قطب الدين، وكان ألّف مقامة لقاض آخر، وشرح كتباً تعليمية وقصائد، وكان الصفدي فخوراً بامتلاكه بعض مخطوطاته. ومع أن المعمار نظم مقطوعة في الصفدي، إلا أن هذا لم يشفع له ليكون قريباً من دائرة هؤلاء العلماء، ولذلك فلا يُعد منتمياً إليها. ويمكن بالتالي كما يبدو لي أن خط الفصل الوحيد في العصر المملوكي بين "طبقات المجتمع العليا" و"الطبقات المدنية المتوسطة"81. هو الانتساب إلى جماعة العلماء أو استحسانهم، وهذا لا يشترط تعليماً أساسياً فقط، وإنما الاشتراك المنظم بأعمال جماعية، مثل: تبادل الرسائل أو التبادل الأدبي أو التخصصي الشخصي مع علماء آخرين. والحقيقة أن الأفراد غير المتعلمين، كما يقال غالباً عن الطبقات المدنية المتوسطة في العصر المملوكي، لم يكونوا غير متعلمين تماماً82، إلا أن هذا التعليم غير المنظم الذي حظي به المعمار –كما يبدو– لم يكن كافياً للقبول في دائرة علماء عصره. ولذلك يمكن نعت المعمار-كما أرى- بوصفه شاعراً شعبياً، إذا ما تمسك المرء بتصميم الأدب الشعبي، ولاحظ بأنه لا توجد مقاييس ممتدة زماناً ومكاناً للأدب الشعبي، وإنما يجب وضع مثل هذه المقاييس وفق كل جماعة اتصال أدبية.

ب_ المكانة الاجتماعية للمتلقين

لقد كان للمعمار -بوصفه غير عالم- على اتصال هامشيّ بممثلي هذه الطبقة من العلماء على الأقل، وهذا ما تشير إليه قصائده في الصفدي وعلاء الدين بن فضل الله. يُضاف إلى هذا أن العلماء ينتمون إلى المتلقين المجتهدين لشعره، وإلا فلن يجد من يرويه. إن العلماء لا يلتفتون إلى الشعر العامي التفاتاً كاملاً فقط -لا يحدث هذا بناء على القيم الجمالية الذاتية، وإنما بناء على وظيفة الأعمال النوعية للجماعات- وإنما يتم تثبيت تمثيل واضح لنوع "قصائد الفكاهة والفحش" لدى اختيار المقطوعات أيضاً. وهذا ما كان ينتظره المرء على ما يبدو من رجل من عامة الشعب.

إن عدم التساوي الذي يبيّن الاستقبال "إلى الأعلى" يُحَبَّذ أن يتكرر لدى الاستقبال "نحو الأسفل"83؛ إلا أنه تنقصنا هنا الشواهد الطبيعية المناسبة. ولعل الحقيقة أن مقطوعة واحدة للمعمار قد وردت في ألف ليلة وليلة تشهد أن مثل هذا الاستقبال قد تمّ. وهذا يسري أيضاً على الصائغ المذكور سابقاً84. هذا، وليس في استطاعتنا إثبات إنشاد المواليا التي نظمها المعمار على ألسنة الطهاة أو الخدم أو الصائغين أثناء إنجاز أعمالهم.

ويفضّل مارتسولف85. MARZOLPH لتحديد "الأدب الشعبي" أو "الأدب الشائع" "مقياس الشعبية"، ويطالب بوجوب أن يكون الأدب الشائع هو "المشرّع والمقدَّر بوساطة مجموعة معقولة من الناس". إن ملاحظة ابن تغري بردي تظهر أن هذا لا يخص المعمار، فقد كان ينهي اختياره لعشرات المقطوعات بكلمات، مثل: "خوفاً من الإسهاب، لا نريد ذكر مزيد من أبياته، لأن ديوان شعره يوجد بكثرة، وهو شائع بين الناس"86.

ج_ اللغة

إن مقولة الصفدي بأن شعر المعمار العامي أفضل من شعره الفصيح لا يمكن التحقق منها بناء على المواد المتبقية إلا بشكل جزئيّ. فهل يتعلق هذا الحكم برواية سيئة لشعر المعمار العامي، أو تدين مقولة الصفدي من جديد لحقيقة أن هذا العالِـم كان يخجل من الأخطاء النحوية للمعمار في قصائده باللغة الفصحى، وفوق هذا فقد كان المرء لا يعد شاعراً شعبياً –في عصر لم ينظم صفي الدين الحلي فيه الشعر العامي فقط، وإنما نظم الزجل أيضاً– لأنه ينظم بالعامية، كما تؤكد نظرة في كتاب عقود اللآل للنواجي، حيث ورد زجل لبعض علماء العصر المملوكي87، وهذا ما يؤيد التأثر والتأثير القوي بين شعر الشعب وشعر الصفوة لهذا العصر. إن التسامح بأخطاء في قواعد اللغة الفصحى في فن القريض كثيراً ما يشير إلى حدود واضحة للشعر الفصيح. ويستطيع المرء إجمالاً أن يثبت أن اللغة وحدها هي التي تصلح أولاً لتحديد الجانب الاجتماعي للنتاج المحدد والجماعات المتلقية، بوصفها معياراً للأدب الشعبي.

د– الأغراض الشعرية

تنقص لدى المعمار ضروب عدة من الشعر الفصيح تماماً أو على وجه التقريب، وتأتي قصيدة المدح في المقدمة (مع استثاء وحيد)، وقصيدة الرثاء والتهاني والمطارحات، وكذلك تلك الأغراض الشعرية التي تخدم التبادل الاجتماعي/ الأدبي فيما بين العلماء. ولعلّ هذه الأغراض التي يجب أن تظهر تشكيلات مركبة لغوياً، وخيوطاً تناصية غزيرة مع الأدب القديم ربما كانت تصطدم بحدود لغته. وهذا ما يفسر نقص شعره الوصفي، والمديح النبوي أيضاً. وبناء على ذلك فإن ما يميز نتاج المعمار من أدب الصفوة تمييزاً واضحاً هو ما ينقصه أكثر مما يجده عنده؛ ذلك أن الأغراض التي يتحدد مضمونها، والتي اعتنى المعمار بها، كانت غريبة عن الشعر الفصيح.

ه_ المضمون والشكل

لعله ليس من الحكمة في مسألة تحديد الشعر الشعبي أن يتم التركيز على المعيار الاجتماعي للنتاج والتلقي والنقل، ففي خطوة قادمة يجب أن يُسأل عن الخصائص المضمونية، ولاسيما إذا ما نظر الشاعر نفسه إلى نتاجه بناء على المضمون، وليس بناء مكانته الاجتماعية بوصفه شخصاً مميزاً. إن المعمار لم يكن عارفاً بانحراف شعره عن القواعد فحسب، وإنما أعلن ذلك إعلاناً هجومياً، وذلك في المقطوعة التالية88:

قُلْ للّذين تفاخروا بِنظامِهمْ...دَعوى ولمْ يظهرْ لِذاكَ ثُبُوتا

هَلاَّ اقتدَوا بِنظامِ معمارٍ إذا... شادَ البيوتَ كُـلَّـهــــــا الياقُوتَا

وَأَتَوا بِنَظْمٍ كالنَّسيمِ لَطـــافـةً...لا يَنْحُتونَ من الجبالِ البيــــوتا

فهل هذا بيان شعري لأحد الشعراء الشعبيين؟ ربما لا، ولكنه علامة على الفخر الواضح بخصوصية نتاجه، ودليل في الوقت نفسه على تطلع المؤلف الذي لا يشعر بشيء آخر تقريباً؛ لأن معرفته بالقواعد النحوية غير كافية، وإنما لأنه يريد أن يعبر تعبيراً آخر: "البيوت/ الأبيات منحوتة من الجبال"89. وهذا ما يود قوله بأن مضمون الأبيات تبرر الصقل اللغويّ الناقص.

إن مقطوعات المعمار تقدّم قبل كل شيء منظوراً نوعياً على العالم، إنها نظرة الطبقة الفقيرة من الناس على العالم وعلى محيطهم المباشر: على الحرفيين ونهر النيل والحياة اليومية الدينية، والأفراح غير الميسَّرة دائماً، والمسرات الشهوانية، ومضايقات الطبقة العليا من المجتمع، ومعاكسات الحياة اليومية والقهر الاقتصادي. ولعله من الطبيعي أن هذه المقطوعات لا يوثق بها على الإطلاق، لأن المعمار يعرف جيداً أن يناسب ما ينتظره المتلقون، وليس مباشرة كما ينبغي أن يكون الشعر الشعبي حسب المفهوم الرومانسي، ذلك أن المعمار يعرف الشعر الفصيح من حيث معاييره ونصوصه. هذا، ويعد الشعر العامي جزءاً من الموروث النصي، كالشعر الفصيح، وليس شيئاً آخر، وحتى إن موضوعاته أكثر تحديداً. إن الوضع الاجتماعي الطبقي مختلف في الحالة الأوروبية، حيث كان المرء عبر مئات السنين على يقين، بحيث نُص على أتباع الطبقات المختلفة، وتمّ تحديدهم من خلال الحياة العاطفية المختلفة تماماً، أما في مجتمع العصر المملوكي (وغالباً في المجتمعات الإسلامية كلها)، فقد تكوّن الفرق بين الطبقات بشكل تدريجي، بحيث كان بإمكان العالِم أن يبتهج بنادرة من نوادر الطبقات الدنيا بلا شعور بتأنيب ضميره90. ويبدو لي أنه على الرغم من كل الاختلاط والحدود غير الثابتة فإن منظور الطبقة الوسطى الذي ظهر في عمل المعمار يعد سبباً مهماً لوصف شعره وترتيبه على أنه شعر شعبي.

الخاتِـمة

على الرغم من أن كثيراً من مقطوعات المعمار الشعرية كان يمكن أن تنظَم من شعراء الصفوة الاجتماعية، ورغم أن قسماً من عمله أُنشد وروي من قبل هذه الصفوة بشكل مكثف، فإنه يبدو لي –بإنصاف- أنه شاعر شعبي. إن نتاج المعمار يُظهر وجه ازدهار الشعر الشعبي في العصر المملوكي، كما يظهر أيضاً تأثيراً متبادلاً واسعاً بين ثقافة الصفوة وثقافة الشعب في هذا العصر. وهذا النتاج يبدو أنه كان مقبولاً للغاية، بحيث إن التطور النادر للأدب الشعبي العربي في العصر المملوكي حقق ازدهراً لدى الصفوة في هذه المرحلة.

وتُخَصص كلمة الختام للمعمار نفسه. لقد مات بسبب الطاعون سنة 749ه، وهو الوباء نفسه الذي فتك بالطبيب ابن الأكفاني الذي عاداه المعمار، ومع ذلك فإن هذا الوباء، أو أمواج الطاعون السابقة لم تحرم المعمار من نادرته اللغوية، فالمقطوعة التالية تستعمل المعنى الدقيق المتعدد لكلمة (حَبَّ)، التي تعني (البذرة) و(دُبَيلَة الطاعون)، وهي في الوقت نفسه تعني قطعة نقدية صغيرة، وبذلك تتحقق تورية مفرحة91:
قَــبُــــــحَ الطَّـاعونُ داءً... ذَهَبَتْ فيــهِ الأَحِـبَّهْ
أَرْخَـــصَ الأَنْفُسَ بَيْعاً... كُــلُّ إنسانٍ بِـحَبَّــهْ

هذا، وينبغي أن يكون قد نظم قصيدته المشهورة في الطاعون قبيل وفاته، وهي مليئة بالسخرية لم أقابل شبيهاً بها في الأدب العربي92:
يَا مَنْ تَـمّنَّى الموتَ قُمْ فاغْتَنِمْ... هذا أوانُ الـموتِ ما فاتــــــــا
قَــــــــدْ رَخُصَ الموتُ على أهلِهِ... وماتَ مَنْ لا عُـمْرُهُ مَاتــــــــا
 


الحواشي والمصادر
لغة البحث الأم: الألمانية، وهو منشور في مجلة:
Zeitschrift der Deutschen Morgenlaedischen Gesellschaft. Band 152 – Heft 1 , 2002, s. 63 – 93.
بعنوان: Ibrahim Al-Mi'mar: Ein dichtender Handwerker aus Aegyptens Mamlukenzeit. Von Thomas Bauer, Muenster.
اعتمدنا على شعر الشاعر الذي تضمنه كتاب ديوان "جمال الدين إبراهيم المعروف بالمعمار"، وهو مخطوط تحتفظ به مكتبة الدولة ببيرلين: Ms.or.oct.1324, fol.75a-111a . (انظر: شويلر G.Schoeler : مخطوطات عربية، مج 2، شتوتغارت، 1990. [فهرس المخطوطات الشرقية في ألمانيا، مج 17، السلسلة ب]، ص 301-302) وهنا يطيب لي أن أشكر كلاً من أ. د. هاينز غروتسفيلد Heinz Grotzfeld من ميونيخ، ود. ماركو شوللرMarco Schoeller من كولن Koeln على ملاحظاتهما القيمة.
 
1. انظر: ج. فون فيلبرت: معجم المصطلحات الأدبية، : شتوتغارت، 1977، ط. 7، ص 1010-1011. G.Von Wilpert : Sachwoerterbuch der Literatur
2. الأدب الشعبي العربي في العصور الوسطى، "Arabische Volksliteratur im Mittelalter" ص 424، في: العصر الوسيط الشرقي، إعداد: ف. هاينريشس، فيسبادن 1990. (مرجع حديث في علم الدراسات الأدبية، 5)، ص: 423-439.
3. المرجع الثانوي الغربي الكلي يقتصر على ما هو مدون في تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وفهرست ج. شويلر (انظر الهامش: 1)، وهو الذي أدين له بالفضل في تنبيهي إلى هذا الموضوع. ويُشار إلى أن دائرة المعارف الإسلامية لم تذكر المعمار. وهنا يُذكر أنه بعد قرن من الزمن عاش الشاعر (ابن سودون) الذي وإن كان عالماً مثقفاً ثقافة تامة، إلا أنه لم يسلك طريق العلماء، وإنما أصبح مشهوراً بفضل قصائده الهزلية. وهذه القصائد تظهر بعض الشبه بأشعار إبراهيم المعمار. لقد خُصصت لابن سودون دراسة مهمة وطبعة باللغة الإنكليزية قام بها أ. فروليجك بعنوان إضحاك الوجه العبوس: Vrolijk: Bringing a laugh to a scowlingface. وهي دراسة وطبعة نقدية لكتاب نزهة النفوس ومضحك العبوس لعلي بن سودون البَشْبُغاوي، ليدن 1998.
4. انظر: شويلر، الهامش 1، ص: 301.
5. الْـبُلَّيْق حسب الحِلّي: نوع فرعي من أنواع الزّجل، وهو محدد من خلال مضمونه البذيء والهزلي. انظر: هونيرباخ: فن الشعر العربي المبتذل. W. Hoenerbach: Die vulgaerarabische Poetik كتاب لصفي الدين الحلي، فيسبادن 1956، ص: 54، والنص العربي، ص 10. وقد سقطت صفحات عدة من المخطوط من فصل الزجل . إن التقويم المناسب لنتاج المعمار، ولا سيما فيما يتعلق بمقطوعاته وقصائده الشعرية لا يكتمل إلا بالنظر في مخطوطات أخرى.
6. المخطوط، 77 أ – ب. انظر شويلر، مثل الحاشية1، ص: 301-302.
7. خزانة الأدب وغاية الأرب: ابن حِجّة الحموي، دار ومكتبة الهلال ببيروت، 1991، ط. 2، 2/180.
8. أعيان العصر وأعوان النصر: خليل بن أبيك الصفدي، تح د. علي أبو زيد وآخرين، دار الفكر بدمشق، 1997-1998، (6 أجزاء)، 1/146-151. الوافي بالوفيات: نفسه، تح س. ديديرنغ Dedering، فيسبادن 1981، 6/173-178. (المكتبة الإسلامية، 6-7). ونجد صيغة مختصرة لسيرة المعمار في: الكتبي: فوات الوفيات، ط. د. إحسان عباس، بيروت 1973-1974، 1/50-53.
9. المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي: أبو المحاسن بن تغري بردي، تح محمد محمد أمين، القاهرة، 1984، 1/ 188-192. ويكتسب حديث ابن تغري بردي قيمة كبرى في البحث عن المعمار، فقد أورد مادة لم تذكر في ديوانه. كما تُعد مادة ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة، ط. حيدر آباد، 1929-1931، (5 أجزاء)، 1/54-55 بوصفها شاهداً نصيّاً ذات قيمة للمقطوعات الثلاث المقتبسة هناك.
10. يُذكر النَّواجي في كتابه: عقود اللآل في الموشحات والأزجال، ط. عبد الطيف الشهابي، بغداد 1982، ص 251، أنه جمال الدين إبراهيم المعمار.
11. ألحان السَّواجع بين البادئ والمراجع. ج1، مخطوط بمكتبة الدولة ببرلين، 150، (11 أ) (انظر: آلوارد، رقم 8631).
12. أعيان العصر 1/146؛ الوافي 6/173. هذا، ولم يكن الكلام على الحائك في كتابه المتأخر (ألحان السواجع). انظر: الحاشية 12 السابقة.
13. على أية حال يمكن تصور والد شاعرنا أنه كان حائكاً، فهو ابن الحائك عندئذ. ومثل هذا الخلط يرد بكثرة. ففي كتاب المستطرف في كل فن مستظرف لبهاء الدين الإبشيهي، (تح إبراهيم صالح، دار صادر ببيروت، 1999، 3 أجزاء، 3/104) يُذكر باسم برهان الدين بن المعمار. ومن المؤكد أن هذا خطأ. وانطلاقاً من هذا يجوز أن يكون هناك تفسير خاطئ لبيان أحد الأسماء كالذي لدى الصفدي (غيث). انظر: الحاشية اللاحقة 22. ويوجد الخطأ نفسه أيضاً في الكشكول للعاملي. ذلك أنه خلف اقتباسات ابن المعمار المذكورة لدى العاملي (بوسورث C. E. Bosworth: بهاء الدين العاملي ومختاراته الأدبية، مانشستير، 1989، 89) يختفي شاعرنا المعمار أيضاً. انظر: بهاء الدين العاملي: الكشكول، بيروت، 1983، ص 637-638. (أربعة أبيات) المخطوط، 78 أ- ب =المستطرف، 3/104 (بيتان في كل مصدر). وهنا ينظر الحاشية القادمة 64. ويغلب الاحتمال أن هناك خلطاً مع الشاعر المعروف باسم (عَين بصَل الحائك، ت 709هـ) وهو شاعر شعبي كان أُمياً حسب الصفدي، وكان يُسمّى إبراهيم بن علي أيضاً. انظر: الوافي 6/70-73 وأعيان العصر 1/93-96، وقد ذكر في الصفحة 93 أنه كان "عامّيّاً حائكاً أُمّيّاً". ولكن الصفدي يصف شعره بغير ما يصف به شعر المعمار بأنه متوسط، فهو "بعيد عن بلوغ القمة" (الوافي 6/73).
14. المخطوط، 104 ب، بحر الكامل.
15. انظر: شهاب الدين الحجازي: الـكُنَّس الجواري في الحِسان من الجواري، تح رحاب عكاوي، دار الحرف العربي ببيروت، 1998. والحقيقة أن هذا العمل يعد ملحقاً بعمل الشهاب الحجازي: جَـنَّة الوِلْدان في الحِسان من الغلمان، (في الطبعة المذكورة لعكاوي، على الرغم من أن الأمر يتعلق بنص شامل)، وهو الكتاب الذي يتبع من حيث البناء والتنظيم كتاب النَّواجي: (مراتع الغزلان). إن مقطوعات المهن الشعرية هذه تُعد المقابل العربي لما يُسمّى بالفارسية والتركية: (شهراشوب). يُنظر حول ذلك: دي بروجن J.T.P. De Brujn مادة (شهرانجيز) في دائرة المعارف الإسلامية، ط2،9/212-214.
16. المخطوط، 81 ب، 91 ب – 92 أ.
17. المخطوط، 94 ب – 95 أ . بحر الرجز.
18. المستطرف، 3/133-143، الحاشية 14.
19. أعيان العصر، 1/146.
20. المصدر السابق، 1/147-148. (يُذكر أن قطعة المدح الشعرية للصفدي لا توجد في الوافي) فالقصيدتان تتضمنان تورية فقط، مع ذكر أسماء المشتركَين.
21. إن القطع بحدوث لقاء شخصي على الأقل بين الصفدي والمعمار يُستوحى من اقتباس الصفدي ثلاث مقطوعات للمعمار: الغيث الـمُسَجَّم في شرح لامية العَجَم، بيروت 1975 (جزآن). فقد صُدِّر المجلد الأول، ص: 336 بالكلمات الآتية: "أنشدني لنفسه الشيخ إبراهيم... المعمار". وهذا يعني أن المعمار أنشد هذه الأشعار شخصياً. وواضح أن الحديث هنا ليس على نسّاج ولا حجّار.
22. المنهل الصافي، 1/189.
23. هذا الموقف يشبه ما جرى مع صفي الدين الحلي، الذي لم يذكر العلماء شعره العامي، بينما كانوا يذكرون أشعار ديوانه وبديعياته. يُنظر: هونيرباخ، ص: 7، الحاشية 6.
24. لا علم لي بأقوال مهنية حول الحكايا الشعبية من العصر المملوكي، ذلك أن الملاحظات السلبية المشهورة حول "الحكايا الخرافية للنساء والأطفال"، تعود إلى العصر العباسي.
25. انظر: بيركي Perkey J. P. : الثقافة والمجتمع في العصر الوسيط المتأخر. في: بيتري C.F. Petry (إعداد): قصة كامبردج حول مصر. السلسلة1(مصر الإسلامية)، ص 640-1517، كامبردج 1998، ص 375-411، والاقتباس هنا ص 403-409.
26. انظر: المخطوط، 94 أ : وعالمٍ أتيتُه مستمعاً
27. هذا ما تظهره مقطوعة شعرية له في وصف فيضان النيل، حيث يستعمل المصطلحات النحوية للماضي والمستقبل والحال بصيغة طلبية: المخطوط، 104 ب، السيوطي: جنى الجناس، تح محمد عبد رِزق الخفاجي، القاهرة، 1986، ص: 113-114. بحر السريع.
28. انظر حوله: الوافي، 22 (ط. رمزي بعلبكي، فيسبادن 1983)، ص 322-328، والدرر 4/163-164.
29. المخطوط، 90 أ، بحر الطويل.
30. المخطوط، 98 أ – ب. بحر السريع.
31. المخطوط، 98 أ. بحر السريع.
32. انظر حول هذا النوع: روسون E. K. Rowson، في EAL، ص 546 – 548 مع ذكر بيانات أخرى.
33. انظر: ميسمي: شعر المجون العربي، ص 10. J. S. Meismmi:" Arabic Mujun Poetry: The Literary Dimension."In: Verse and the Fair Sex. Studies in Arabic Poetry and in the Representation of Women in Arabic Literature. Utrecht 1993, S. 8-30.
34. انظر: روهمكورف: حول الثروة القومية. جولات في الأدب الوضيع P. Ruehmkorf: Ueber das Volksvermoegen. Exkurse in den Literarischen Untergrund. Reinbek, 1969, S. 29.
35. انظر: ميسمي، ص 16، مثل الحاشية 34 من هذه الدراسة.
36. انظر: هاينريشس، مادة (صفي الدين الحلي) في دائرة المعارف الإسلامية. ط.2، 8/80-805. لقد طُبع ديوانه الذي يحتوي على مجموعة من المقطوعات باسم: ديوان المثالث والمثاني في المعالي والمعاني، بتحقيق محمد طاهر الحمصي، دمشق 1998، ولكن بحذف فصل المجنون كأغلب طبعات الديوان.
37. انظر: روسون، ص 547، والحاشية 33 من الدراسة.
38. يتجلى ذلك في أوضح صورة في مقطوعات كاملة لهذا النوع . انظر: ديوان أبي حكيمة، تح محمد حسين الأعرجي، كولن 1997.
39. انظر: رومكورف، ص 30، والحاشية 35 من الدراسة.
40. ينطبق هذا على أبي حكيمة، الذي أشار الصفدي إليه على أنه يقوم برثاء عجزه. انظر: الوافي، 14/59.
41. ميسمي، ص 24، وانظر الحاشية 34 من الدراسة.
42. المصدر السابق، ص 24.
43. انظر: الخزانة، 2/184، والمخطوط 86 أ. وتظهر مقطوعات (القواعد) لدى المعمار أن معنى قاعدة التي تم الاستدلال عليها كان من الأوصاف التي كانت رائجة في عصر المماليك. انظر:
بوبّر: مقياس النيل القاهري: W. Popper: The Cairo Nilometer. Berkeley/Los Angeles 1951 (University of California Publications in Semitic Philology. 12), S. 43.
44. انظر: غيلدر: أناشيد المسلم الخمرية، G. J. Gelder: "A Muslim Encomium on Wine: The Racecourse of The Bay (Halbat al-Kumayt) by al-Nawagi (d. 859/1455) as a Post – Classical Arabic Work." in: Arabica 42 (1995), S.222-234 .
45. المخطوط، 84 ب – 85 أ. بحر المنسرح.
46. المخطوط، 96 ب. بحر الكامل. حول البراغيث في الآداب الشرقية، ينظر: ليتمان: E. Littmann: Vom morgenlaendischen Floh. Leipzig 1925.، وقد تم تناول موضوع الحشيش لدى المعمار بكثرة، وفي مقطوعات زجلية أيضاً، إلا أنها سقطت من المخطوط. ولقد قدّم روزنتال دراسات عدة خاصة بهذا الشاعر: F. Rosenthal: The Herb. Hashish versus Medieval Society. Leiden 1971 ,، ولا سيما ص 62، 83، 144.
47. بدائع الزهور ووقائع الدهور: ابن إياس، تح محمد مصطفى، القاهرة، ط. 2، 1960 (المكتبة الإسلامية، 5 أجزاء)، 4/77. وانظر: المخطوط، 108 أ، حيث وردت رواية (واحرم) بدلاً من (لا تمنع). ونص السطر الثالث عند ابن إياس: (وارسم بزرع الحشيش تكسب أجراً) ويقتبس ابن إياس هذه المقطوعة بمناسبة حادثة وقعت سنة 910 ه، ويبين أن المعمار نظمها أيام حكم الأشرف شعبان. وهنا يتساءل المرء عما إذا كان هناك تحريف مع الكامل الأشرف (ت 746 – 1345)
48. انظر: هوميرن: خواطر حول الشعر العربي في العصر المملوكي: TH. E. Homerin: "Reflections on Arabic Poetry in the Mamluk Age." In: MSR 1 (1997), S.63-85.، وكذلك : مراجعات نقدية لهوميرن وباور في: MSR 3 (19999), S.214-219, 237-240
49. هناك أكثر من مقطوعة عند الشاعر حيث تم الربط بين الإفلاس والجوع. انظر: المخطوط، 101 ب، والخزانة 2/186.
50. المخطوط،92 أ-ب. بحر السريع. حول المقامة، انظر: بورغل: نقد المجتمع في رداء هزلي: J. CHR. BUERGEL: "GESELLSCHAFTSKRITIK IM SCHELMENGEWAND." IN: AS 45 (1991), S. 228-253.
51. المخطوط، 88 ب. بحر المجتث. وانظر مثل هذا التجاوز في تركيب الجملة: غيلدر:
G. J. Van Gelder:"Breaking rules for fun: making lines that run/on: On enjambment in Classical Arabic Poetry." in: The Challenge of the Middle East. Amsterdam 1982, S. 25-31.، ويوجد مثل هذا التجاوز بكثرة لدى الشاعر، وانظر على سبيل المثال مقطوعة البراغيث التي تم اقتباسها من قبل.
52. انظر: باور: ابن حجر والغزل العربي في العصر المملوكي: (تحت الطبع) T. Bauer: "Ibn Hajar and the Arabic Gazal of the Mamluk Age." In: T. Bauer /A. Neuwirth (EDS): Migration of a Literary Genre ,Studies in Ghazal Literature. Beirut,
53. المخطوط، 86 ب.
54. البرذون حيوان أقل فحولة من الحصان، وغالباً ما يُستخدم لحمل الأثقال. لقد تسبّب الصّاحب بن عبّاد في منافسة بين الشعراء في رثاء البرذون. ينظر: يتيمة الدهر للثعالبي، تح محمد قميحة، بيروت، 1983 (4 أجزاء)، 3/253-269.
55. المخطوط، 93 ب. بحر السريع. لقد اقتبس النويري هذه المقطوعة أيضاً، في كتابه: نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة 1923، 10/68، ولكنه ينسبها لشاعر آخر هو برهان الدين بن الفقيه نَصْر. ولأن النويري مات سنة 732هـ / 1332م وبرهان الدين شاعر غير معروف فإن بيانه يحمل شيئاً من الاحتمال. أوافق على ما ورد لدى النويري في قراءة كلمة (القُرْطِ)، وهي في المخطوط (القوطِ). ويروى البيت الثاني لدى النويري: (إذا رأت خيلاً على مَربطٍ / تقول سبحانكَ يا معطي).
56. انظر: أعيان العصر، 4/225-231، حيث ورد قوله: "له إصابات غريبة في علاجه".
57. المخطوط، 99 أ. بحر الرمل.
58. روهمكورف، ص: 162، وانظر الحاشية 35 من الدراسة.
59. المصدر السابق، ص 103.
60. المصدر السابق، ص 103.
61. انظر:هوروفيتس: اقتباسات شعرية في ألف ليلة وليلة، J. Horowitz: "Poetische Zitate in Tausend und eine Nacht." In: Festschrift Eduard Sachau zum siebzigsten Geburtstage. Ed. G.Weil. Berlin 1915, S. 375-379. وهوروفيتس لا يذكر المعمار، ولكن هذا غير مفاجئ نظراً لحالة الطبعة.
62. المخطوط، 79 أ-ب. بحر السريع. وانظر: ريشر: دراسات في مضمون ألف ليلة وليلة، ص: 73، O. Rescher: "Studien ueber den Inhalt von 1001 Nacht." In: Der Islam 9 (1919), S. 1-94.، والرواية في البيت الثاني عند ريشر: على (خشبة) بدلاً من (شعبة)، و(والضرب) بدلاً من (والصفع) . وانظر حول الصلب: أولمان: موضوع الصلب في الشعر العربي في العصور الوسطى:M. Ullmann: Das Motiv der Kreuzigung in der arabischen Poesie des Mittelalters. Wiesbaden 1995.، ويُذكر أن المعمار رحّب بإعدام أحد الأمراء سنة 742 هـ ترحيباً حاراً. انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغري بِردي، القاهرة، 1965، 10/23.
63. المخطوط، 84 أ. بحر الرمل. وانظر: الكشكول، ص 645، وفيه رواية البيت الثاني (فيهم) بدلاً من (فينا). والحاشية 14 من الدراسة.
64. السورة، 88.
65. المخطوط، 91 ب. بحر الرجز. كلمة (أَمَر) في البيت الأول تعني : الأَمر والمرارة.
66. المخطوط، 80 أ. بحر الرمل. لعل القراءة الصحيحة في البيت الأول: (شهر الصيام).
67. المخطوط، 91 أ، بحر الرمل.
68. انظر: كروتسفيلد: الحمّام في العصور الإسلامية – العربية الوسطى، وبخاصة ص 84-91. H. Grotzfeld: Das Bad im arabischen-islamischen Mittelalter, Eine kulturgeschichtlische Studie. Wiesbaden 1970..، ويساهم المعمار في هذا النوع أيضاً. انظر: المخطوط، 82 ب.
69. انظر: المخطوط، 84 ب، بحر المنسرح:
                                                               قَدْ صارَ في الْـخانقاهِ عرفٌ... ما بينهم وهْو شَرُّ عاده
​                                                               لا يدفَعـونَ النصيــبَ فيهـــا... إلا لـمَنْ يـتــركُ الشَّهاده
70. المخطوط، 81 أ. بحر المجتث.
71. حول الظواهر الموازية المتشابهة، ينظر: شويلر: الكذب والحقيقة والشعر في الإسلام، ص: 150 وما بعدها:
M. Schoeller: Luege, Wahrheit und Dichtung im Islam." In: K. Roettgers/M. Schmitz-Emans (Eds) : "Dichter Luegen." Essen 2000 (Philosophisch-literarische Reflexionen. 3), S.129-151.
72. انظر: بونّبيكر: بعض التعريفات المبكرة للتورية، وهو يعالج موضوعه من خلال عمل الصفدي: فضّ الختام عن التورية والاستخدام: S. A. Bonebakker: Some Early DefinITIONS OF the Tawriya . The Hague/ Paris 1966.
73. انظر: هوتسنغا: أصل الحضارة في المرآة: J. Huizinga: Homo LudensS. Vom Ursprung der Kultur im Spiel. Hamburg, 2001
74. أعيان العصر، 1/146.
75. انظر: أنوار الربيع في أنواء البديع، لابن معصوم (ت 1120هـ / 1708)، ط. شاكر هادي شكر، (7 أجزاء)، بغداد 68-1969، 5/63-65. ويقدم ابن معصوم مختارات من المقطوعات التي ذكرها ابن حجة.
76. انظر: بيتراجيك: الأدب الشعبي: K. Petracek: "Volkstuemliche Lieratur." In: GAP 2/228-241.
77. انظر: لاغرانغ: الطرب. موسيقا مصر: F. Lagrange: Al-Tarab.Die Musik Aegyptens. Heidelberg 2000. S. 34، وانظر أيضاً: بيرّ كاشيا، الموّال المصر P. Cachia "The Egyptian Mawwal" In: JAL 8 (197), 77-103.
78. لقد تم من قبل اقتباس شواهد على المهارة اللغوية والتورية عند المعمار. وانظر هنا مقطوعة يستخدم فيها كلمة (مقياس) لقياس فيضان نهر النيل، ويضمنها تورية: المخطوط، 82 أ. بحر السريع. وتوجد قطعة في نهر النيل لدى النّواجي: حَلَبة الكميت. بولاق 1276/1859، ص 260 وما بعدها، وفيه أربع مقطوعات للمعمار، ص 263، 265.
79. الأدب الشعبي، ص 229، وانظر الحاشية 77 من الدراسة.
80. انظر: أعيان العصر، 4/397-400، والوافي 2/361-363.
81. الأدب الشعبي، ص 229، وانظر الحاشية 77 من الدراسة.
82. انظر الأدب الشعبي، ص 229، وانظر الحاشية 77 من الدراسة. وينظر التركيب الاجتماعي في العصر المملوكي في القاهرة بشكل عام في، ص 312 وما بعدها: C. F. Petry: The Civilian Elite of Cairo in the Later Middle Ages. Princeton1981.
83. يعد بيتراجيك عدم التساوي هذا من مقاييس الأدب الشعبي. انظر المصدر السابق.
84. انظر: هوروفيتس، ص 377، والحاشية 62 من الدراسة.
85. انظر: مادة الأدب الشعبي، ص 610 ب. في: U. Marzolph: Art. "Popular Literature", In: EAL, 2, 610-611
86. المنهل، 1/192.
87. انظر: النواجي، ص 201-275، والحاشية 11 من الدراسة. إن دراسة اجتماعية – أدبية لهذه المختارات التي تتألف من 31 مقطوعة صغيرة من الزجل يمكن أن تكون طريفة شائقة. وتوجد في مختارات النواجي هذه، ص 251-253 أطول البلاليق للمعمار. وينظر هنا: المخطوط (108 ب – 110 أ)، وبالطبع مع روايات غزيرة. وينظر: فروليجك، ص 40 وما بعدها، والحاشية 4 من الدراسة، وذلك حول مسألة شعبية الشاعر ابن سودون.
88. المخطوط، 81 ب. بحر الكامل. في أصل البيت الأول: (للذي)، وفي أصل الثاني: (اقتدروا). إن قراءة نهاية هذا البيت مشكوك فيها، وهنا أشكر السيدة د. دورب موللر من جامعة مونستر على اقتراحها.
89. الجمع القياسي لـ(بيت) بمعنى البيت الشعري (أبيات)، ومع ذلك توجد تورية: بيوت= منازل وأبيات شعرية.
90. انظر: بيركي Perkey J. P.، ص: 410، والحاشية 26 من الدراسة.
91. المخطوط، 79 ب. بحر الرمل. هذه المقطوعة والتي تليها يقتبسها ابن تغري بردي مع بعض الروايات أيضاً، ص: 212-213. وانظر الحاشية 63، وكذلك المقريزي في كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (جزآن)، والجزء الثالث بتحقيق مصطفى زيادة، القاهرة 1958، ص: 791.
92. أعيان العصر، 1/147، والدرر، 1/54. بحر السريع. وانظر: المخطوط81 أ، والسيوطي، ص: 240، والحاشية 28 من الدراسة، حيث تم تحريف البيت الأول تحريفاً تاماً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها