الحكائية في رواية "دمية أفروديت"

للأديب د. شريف عابدين

د. عبير خالد يحيى


انشغل النقادُ على مرّ القرون الثلاثة السابقة، ومنذ ظهور الأعمال السردية، بتقديم تعريف دقيق للمتن السردي، وفي معرض توخّي الدقّة لتقديم هذا التعريف، كان المنجز الأهم للشكلانيين الروس هو تفريقهم بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي.
 

فالمتن الحكائي: يحيل على مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها والتي يتم إخبارنا بها من خلال العمل الروائي، والمتن الحكائي يمكن أن يُعرض بطريقة علمية، مرتّبة حسب النظام الطبيعي الوقتي والسببي المنطقي للأحداث؛ أي أنّه الأحداث الروائية كما وقعت في تسلسلها الزمني سواء أكانت حقيقية أم متخيلة1.

أما المبنى الحكائي: فهو الطريقة التي تُعرض بها الأحداث المروية، بمعنى أدق "هو الدراسة التي تُعنى بنفس مجموعة أحداث المتن الحكائي، لكنها لا تهتم بالقرائن الزمنية والمنطقية للأحداث"2، فليس من الضروري أن يتقيد نسق العرض بالترتيب الزمني للأحداث كما جرت في الواقع، أو كما يُفترض أنها جرت في الواقع، الاهتمام الأكبر هو بكيفية عرض الأحداث وظهورها في النص الروائي، "فالكاتب يعمد إلى التقديم والتأخير والاقتطاع والاقتضاب، والتوسع في عرض المواقف من أقوال وأفعال ووصف، بحسب ما يراه أنسب لتبليغ الخطاب السردي المنوط بعهدته"3.
 

‣ دمية أفروديت

لقد قدّم الكاتب في عمله (دمية أفروديت) بنىً حكائية عديدة، وظّفها توظيفًا متقنًا في خدمة المتن السردي، ولعلّه بالغ في ذلك، عندما جعل تلك البنى الحكائية أساسًا وقاعدة عريضة في البناء الفني لعمله الروائي هذا، فالشخصيات هي ذاتها في المتن الحكائي وفي البنى الحكائية، العبقرية كانت في قدرته على تحريك تلك الشخصيات على مسرح الأحداث المتخيّل في زمكانية عجائبية، حيث الزمان هو الحاضر وأحيانًا المستقبل، والمكان هو أمكنة الأحداث الأسطورية القديمة بحلّة معاصرة.

 سأختار واحدة من خمس بنى حكائية رصدتها في الرواية:

حكاية إقصاء هيرا لزيوس وتوليها العرش

وهي الحكاية الرئيسة التي بدأت بها الرواية، كانت العمود الأساسي الذي قام عليه المتن السردي، وعبر امتداده، تفرّعت البنى الحكائية الأخرى، كما كانت الحوض الأساس الذي سار ضمنه المجرى العام للحبكة الروائية.

أما عن عنوان الرواية (دمية أفروديت) فقد كان مخاتلًا، فلم أجد أفروديت بطلة العمل حقيقة؛ وإنما هيرا، أمّا لفظ (دمية) فقد كان مقصودًا، ومطروحًا على بساط التساؤلات الحائرة، من هي الدمية؟ هل هي دمية ذكر أم أنثى؟ ولماذا نُسبت إلى أفروديت، طالما أنها لم تكن البطلة التي بدأت بها الأحداث السردية، وإن تقاطعت معها، وانتهت بخروجها ونفيها خارج مسرح الأحداث الذي بقي على خشبته بطَلا الصراع: زيوس وهيرا؟!

بقراءة متمعنة للرواية؛ يمكن أن نجد أن الدمية هي زيوس، وأن من تلعب بها هي هيرا، وأن أفروديت هي صنعة وألعوبة هيرا، تقذفها في يد كل من يقف حجر عثرة في سبيل تحقيق أحلامها في التربع على عرش السطوة، وإزاحة زيوس عن عرش الربوبية.

‣ الاستهلال

استهلال: وهو استهلال مبنى حكائي، بدأ الكاتب به من منتصف المتن الروائي (زيوس في حكم الإقامة الجبرية والحجر)؛ أي بدون التسلسل المنطقي للترتيب الوقتي والسببي للأحداث:

منذ أن حُددت إقامة زيوس؛ تم الحجر على جميع مقتنياته من المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، فقد بلغت تكلفة لتحوله إلى زخات ممطرة من الذهب السائل تكفي لاستحمام داناي؛ توطئة لإتمام اللقاء الحميمي بها، ما يقارب عشر مليون يورو، ويقدر الخبراء هذه المضاجعة باعتبارها الأكثر تكلفة على مدى التاريخ.

استهلال إخباري مباشر، عن حدث سابق قريب، وتقديم زيوس كشخصية محورية (وهي بالأصل شخصية ميثولوجية) تخضع لحكم الإقامة الجبرية، والحجر بسبب السفه، في زمن معاصر (زمن اليورو)، غير زمنها الأسطوري.

‣ الزمكانية

الزمان: العصر الحالي، عصر متقدم تكنولوجيًا.

المكان: قصر زيوس على قمة جبال الأوليمب.

‣ الحبكة

استمد الدكتور شريف عابدين مادة هذه البنية الحكائية من أصل المتون الأسطورية التالية:
1- أرجوس
2- هيرا
3- هيفيستوس

لننظر كيف وظّف شريف عابدين هذه المتون الأسطورية الأصلية في تكوين بنية حكائية جديدة، حين عمد إلى التقديم والتأخير، والاقتضاب والتوسع، والاقتطاع، مظهرًا براعته في استخدام العصرنة، والتكنولوجيا، والإفادة من كل أنواع الفانتازيا، بما فيها الخيال العلمي، وفن الإسقاط الأنثروبولوجي، والسايكولوجي، وسأنقل الأحداث كما وردت في حبكة البنية الحكائية، لنلاحظ كيف قام الكاتب بعصرنة الأحداث المثولوجية:

منذ استطاع هيرمس بتوجيه من زيوس ذلك المخلوق ذو المائة عين؛ حتى تنجو معشوقته أيوا من الملاحقة بعد أن حولّها إلى بقرة صغيرة. لم تنته مهمة أرجوس، اتجهتْ إليه هيرا على الفور برفقة مساعديها من ذوي العين الواحدة السايكلوبس، وقتها قبل أن تفتك بهم أسهم ابوللو. أمرت هيرا كنوع من التكريم لحارسها المخلص بتثبيت عيونه في ذيل الطاووس، وحفظها إلى الأبد. أنشأت هيرا مزرعة كبيرة لتلك الطيور، وكلّفت فريقًا من السحَرة المدرَّبين على التواصل معها واستشفاف ما تبوح به، واستنتاج ما تُسرّه من معلومات.

تلك الليلة أخبرها مساعدوها عن التقارب اللافت بين زيوس وأفروديت، وما تطرق إليه الحديث بينهما...

أسرّت إلى نفسها أن الفرصة صارت مواتية لكي تحسم الأمر وترديه بضربتها القاضية. ليس عليها سوى أن توثّق لحظة لقاء حميمي بينهما يشهده مجلس الأوليمب بالرؤية المباشرة.

تذكّرتْ أن هيفايستوس ابنها الصانع الماهر الذي تعامل من قبل ببراعة مع موقف مماثل، حين علم بتورط زوجته مع شقيقه أريس.

فاتحته في الأمر، واقترحت فكرة أن يجمع بين الالتصاق بالأريكة والشباك المطبقة.

مرّت أيام قليلة، عاد بعدها هيفايستوس ليخبر هيرا أنه أعدّ أريكة تجمعهما، تتحوّل عند ارتفاع درجة حرارة اللقاء إلى فراش يضمّهما معًا، وعند ذروة اللقاء تطبق عليهما شباك معدنية، التي ستكون دقيقة شفافة لا يستطيعان رؤيتها أو الفكاك منها، وأنه لا حاجة للالتصاق حتى نتسلّى بمشاهدتهما يحاولان التخلّص من شباك غير مرئية.

تجري الخطة كما خطّطت لها هيرا، وكما نفّذ هيفيستوس، وتتمّ المحاكمة، يقرر مجلس الأوليمب، إقصاء زيوس عن الحكم، وتكليف هيرا باعتلاء العرش.

‣ الشخصيات

في رواية (دمية أفروديت)، نجد إسقاطًا دلاليًّا على الواقع الحاضر، فتقابلت العصرنة مع الأسطرة، بتبادل زمكاني، وتناصٍ متوازٍ بين الشخوص الأسطورية وشخوص الواقع، والتقاءهما وتماهيهما معًا في الشخصيات الفنية للعمل. هناك شخصيتان محوريتان تأتّتا من تماهي الشخوص الأسطورية مع شخوص قيادية متصارعة في الواقع، هما: هيرا وزيوس، نتعرف على أبعادهما من خلال دراسة:

‣ الصوت والرؤية

الناقد الفرنسي البنيوي /جيرار جينيت/ فرّق بين الصوت والرؤية، النقّاد قبل جينيت كانوا يرون أن صاحب الصوت -الراوي أو السارد- هو نفسه صاحب الرؤية، يعني صاحب الرؤية الفكرية المطروحة في العمل السردي، لكن جينيت فرّق ما بين صوت الراوي، وصاحب الرؤية، قال: إن الرؤية لا تنتمي للسارد، بل تنتمي للشخصيات، فالشخصيات هي صاحبة الأفكار والرؤى المطروحة، والراوي لا يتدخّل في تصرفات الشخصيات؛ وإنما هو ناقل لما يراه، والأفكار نابعة من الشخصية وليس من السارد.

أما الدكتور شريف، فقد أوكل إلى السارد -بصفة أساسية- وظيفة الوصف بأنواعه:

‣ الوصف المكاني

جبل الوليمب هو أعلى جبال اليونان، تكسوه الثلوج في معظم فصول السنة، يقع أعلى قمة هذا الجبل، قصر زيوس في منطقة أطلق عليها اسم ثاليا، ويعني تفتح الأزهار والترف والاحتفالات.

في مدخل القصر صورة لـ"هيرا" في هيئة المرأة الوقور المحجبة، تضع فوق رأسها تاجًا من ورق الغار، كما تظهر أيضًا في تمثال منفرد تمسك الصولجان وترتدي العباءة الخاصة بها، وفي نحت بارز ترتدي قبعة تسمى بولوز.

‣ الوصف المشهدي

نسمع صوت السارد أيضًا في وصف المشاهد، حين يتوقف الحوار بين هيرا وزيوس، لكن سرعان ما ينحّيه استئناف الحوار جانبًا؛ لأن الحوار يعاود الظهور، مثارًا بالحدث الواقعي الذي يفرضه المتن السردي.

يفيقان على المذيع يتحدّث عن مشكلة الطاقة، وتبعات الأزمة الاقتصادية، يعلن عن تلويح الاتحاد الأوروبي بخروج اليونان من منطقة اليورو.

عبر الحوار، أيضًا، تتحرك الحبكة الرئيسة للمتن السردي، باستخدام التقنيات السردية الأخرى المعروفة، الخطف خلفًا flashback، والذكريات memories.
 


هوامش:  1. البنية السردية -آفاق ورؤى- د. سعد العتابي – اليوم السابع – 27 ديسمبر 2009. ┆ 2. تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين "الزمن- السرد – التبئير"، ط: 1، بيروت، المركز الثقافي العربي 1989م، ص: 73، 25/11/ 2010. ┆ 3. النص الحكائي في القصة –رضا سالم الصامت – مقال في منتديات اتحاد الكتاب والمثقفين العرب، 21/ 9/2012.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها