واقع القراءة في الوطن العربي بين الأمس واليوم

إسماعيل الموساوي

في البداية لا بد من الإشارة إلى مسألة رئيسة وهي أن الحضارة الإسلامية في الأصل حضارة  قراءة وكتاب، حضارة قلم وعلم ومعرفة، فحضارتنا الإسلامية مصبوغة بالصبغة العلمية مند وقت طويل، ويكفينا للتدليل على ذلك أن نقول بأن أول آية نزلت في أعظم رسالة هي أمر بفعل القراءة... فقبل أن يؤسس القرآن الكريم لأي تصور إيماني، وجه أنظارنا إلى أمر هو في غاية الأهمية؛ إذ وجه الخطاب بصيغة الأمر بقوله عز من قائل {اقرأ}، فالقراءة وفق هذا المعنى حسب الأستاذ آل حمادة مؤلف كتاب "العلاج بالقراءة":
 


القراءة، هي إيذان بمحو الأمية.
القراءة، هي مفتاح العلم والمعرفة.
القراءة، هي السبيل نحو الرقي والتطور
القراءة، هي ينبوع العطاء.

وهذا في اعتقادي هو ما أدركه الخلفاء في العصر العباسي الذي هو عصر التدوين، وأيضاً عصر العلم والمعرفة والترجمة، والانفتاح على كتب الأولين في مختلف المعارف من فلسفة وعلم... ويرجع الفضل هنا إلى الخليفة أبي جعفر المنصور الذي هو أول خليفة عباسي شجع على العلم بشكل خاص؛ إذ ترجمت في عهده الكثير من الكتب من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ككتاب "كليلة ودمنة"، وترجمت في عهده أيضاً كتب أرسطو طاليس في المنطقيات وكتب أقليدس الرياضية وغيرها من الكتب اليونانية والرومية والفارسية. وقد امتدت هذه النهضة إلى عهدي المأمون والمتوكل اللذين تواصل في عهديهما الاهتمام بالفكر والتأليف.

نستفيد من كل ما سبق بأن الحضارة الإسلامية في الأصل هي  حضارة قراءة وكتاب وقلم، ولكن مع كامل الأسف ضاع الأصل، فتخلفنا حضارياً، لكوننا تخلفنا علمياً، لأسباب عديدة قد لا يتّسع المقام لذكرها في هذه المساهمة بأجمعها، سأتحدث فقط فيما يلي عن سبب واحد منها، أعتبره هو مفتاح العلم والمعرفة، كما أعتبره أفقنا الواحد الذي سيقودنا نحو الرقي والتطور، وهو أفق القراءة التي هي سر عودتنا لالتحاق بركب الحضارات المتقدمة علمياً حالياً..

أولاً: "خير جليس في الزمان كتاب"

في عجز بيت أحمد بن الحسين المتنبي هذا حكمة بالغة، ومقولة عظيمة.. ولكن من منا يعمل بهذه المقولة؟ إن معظم الذين يتعلمون القراءة لا يتابعون القراءة بعد التعلم، وهذا بالطبع سيؤدي بهم إلى الرجوع للأمية مرة ثانية، فتستفحل الأمية الثقافية، وهي أخطر من معضلة الأمية العادية أو أمية الأميين كما يقول الأستاذ صالح محمود الزيناتي، ومن بين العوامل التي جعلتنا نبتعد عن خير جليس في الزمان حسب الأستاذ حسن آل حمادة هناك:
1. قصور وضعف مناهج التعليم والتربية في الوطن العربي، والاعتماد على عملية التلقين والحفظ في الأغلب، مما جعل الكثير من الطلبة يبتعدون عن القراءة والكتاب بعد أن غرست في نفوسهم صورة العداء التقليدي للكتاب المدرسي المقرر عليهم.
2. غياب مفهوم التعليم والتثقيف الذاتي عند الكثير من الطلبة والتلاميذ، وهذا الأمر جاء كنتيجة طبيعية للعامل الأول؛ لأن هناك فئة من المدرسين  لا يروقها إلا الإجابة الحرفية أو نصية في الامتحانات، وقد يكون ذلك سبباً في ابتعاد التلميذ والطالب عن التفكير والإثارة الفكرية والعقلية وبالتالي غياب الإبداع.
3. العقلية (الكروية) لدى الشباب بدلاً من العقلية القرائية، وقد تكونت بسبب التركيز المكثف عليها في وسائل الإعلام في وطننا العربي.
4. انخفاض المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للكثير من الأسر والعوائل، والاغتراب عن الذات والتفاوت الطبقي والارتفاع المطرد في أسعار الكتب والمطبوعات والإصدارات الثقافية على اختلاف أشكالها وأنواعها. مع ملاحظة أن البعض قد يتذرع بارتفاع أسعار الكتب في الوقت الذي يبحث لنفسه عن أجود السلع وأغلاها فيما يرتبط بالجوانب المادية في حياته.

ثانياً: صناعة مجتمع قارئ مسؤولية مَن؟

في واقع الأمر هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تلعب دوراً في تنشيط عادة القراءة عند أبناء المجتمع، كالأسرة والمدرسة والمجتمع والإعلام والدولة، فلنبدأ أولاً بالأسرة: فهناك العديد من القراء ارتبطوا بعالم القراءة من خلال تواجدهم في أحضان أسرة تقرأ؛ لأن القراءة تزرع في الطفل ولا تولد معه "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"، فالطفل يرى أن كل ما يقوم به والده صحيحاً لهذا نجده يحاكي كل أفعال الأب، ومن ثمّ يجب على الأسرة أن تشعر الطفل بأنه ينتمي إلى عالم الثقافة، وذلك من خلال تشجيعه على الكتابة  واصطحابه إلى المكتبات العامة.

أما بالنسبة للمدرسة فيجب عليها أن تنمي حب المطالعة في نفوس المتعلمين وبيان أهميتها، والإعلاء من قيمة الكتاب في نفوس المتعلمين، حتى يحسن التعامل معها، مع تعويدهم على استثمار الوقت الفارغ في القراءة، كما يجب عليها أن تسعى إلى اكتشاف المواهب الكامنة في نفوس المتعلمين من خلال رصد اتجاهاتهم تجاه الكتب، وإجراء المسابقات والأنشطة الثقافية ومكافأة كل طالب يأتي بفكرة أو معلومة ثقافية جديدة. أما بالنسبة للمجتمع فهذه مسؤولية العلماء ورجال الفكر والثقافة...  من أجل غرس التوجه القرائي في نفوس أبناء المجتمع صغاراً وكباراً، وذلك عن طريق الوسائل المتاحة عبر إقامة الندوات والمحاضرات التي تركز على هذا الموضوع المهم.

أما فيما يخص الإعلام عندما نسأل صديقاً لماذا تقرأ هذا الكتاب؟ فيجيبك رأيت إعلاناً له في إحدى الصحف اليومية، فالإعلام في وطننا العربي لم يعد يلعب هذا الدور؛ لأنه من المفترض فيه أن يلعب دوراً أساسياً وفعّالاً في التربية والتنشئة، عبر التعريف بآخر الإصدارات الفكرية الجديدة في وسائل الإعلام المختلفة. وينبغي أن يكون هناك تركيز على البرامج الثقافية التي يشار فيها إلى المؤلفين وكتاباتهم ومناقشتها في هذه البرامج حتى يكونوا قدوة وأسوة لأبنائنا الصغار.. أما فيما يخص دور الدولة يجب عليها المساهمة في دعم وإصدار الطبعات الجديدة وتوفيرها بأسعار لا تستنزف القارئ مادياً، ودعم الدراسات والأبحاث التي تسعى وتهدف إلى إيجاد الحلول لهذا الموضوع، والإشراف على إقامة معارض الكتب على المستوى المحلي والدولي، وأن تتاح فيها مساحة جيدة من الحرية.. كما يجب عليها أن تشرف على تأسيس مختلف أنواع المكتبات، ويجب أن تكون مفتوحة في وجه الجميع.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها