حكايةُ التّاريخ أدباً

د. أحمد يحيى علي

 

الماضي ومشكلة الرؤية
الكلاسيكية مفردة دخيلة على العربية؛ فنشأتها الغربية أتاحت لها الولوج إلى ثقافتنا العربية والتمدد والانتشار منذ القرن التاسع عشر، محتفظة عند قطاع كبير من النخبة العربية بمنطوقها الأجنبي، وبما ينضوي تحتها من محتوى معرفي يتجلى في آلية تقوم على الارتباط بالماضي ارتباطاً يقوم على المحاكاة والاستدعاء1

 

والكلاسيكية أو تيار الاتصال بالقديم ليس مجرد حالة من الانفصال عن الحاضر وتقلباته وشواغله بالوقوف أمام الماضي وقفات تقوم على الاستغراق في تفاصيله والولع بما فيه؛ إن من يتبنون هذه النظرة في بناء رؤية أو موقف فكري عام إزاء الكلاسيكية بلا شك يظلمونها، ويضعون أنفسهم في الوقت ذاته موضع النقض والتفنيد؛ إذ لا بد أولا من إدراك خط فاصل بين تيارين: تيار تغلبه العاطفة والحماسة في اتصاله بالقديم، ويبدو أنه يتحرك مشحونًا برد فعل معاكس ومناهض لأنصار الاستغراب والارتباط بكل ما هو حداثي غربي، أما التيار الثاني: فهو الذي يقيم جسورًا بينه وبين الماضي تقوم على وعي وبصيرة وإدراك لمواضع القوة التي يمتلكها ما في الماضي ويمكن تغذية اللحظة الحاضرة بها، وتقوم على توظيف مفردات معرفية لها موضعها فيه خدمةً لمقاصد وتحقيقًا لغايات، ينشدها المعنيون بالاتصال بهذا الماضي2.

إن القديم إذًا بمثابة مرئي يقع في مرمى رؤية قد تجعل منه مشكلة ومجالا لتسخين صراعات وإحداث انقسامات، وقد تجعل منه أداة ناجعة إيجابية، يمكن توظيفها في التعامل مع الحاضر ومتغيراته؛ ومن ثم يصير وفق هذه الرؤية الأخيرة وسيلة لا غاية في حد ذاته، وجسرًا يتم العبور عليه لا محطة وصول مقصودة في ذاتها.

الكلاسيكية والنظرة الواعية للماضي

وإذا نظرنا إلى تيار الكلاسيكية في عصرنا الحديث الذي بدأ يظهر بجلاء وبتوسع ورغبة في الانتشار والتأثير على الساحة الثقافية العربية منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر نجده يتجلى في رافدين بارزين:
رافد شعري: يتمثل في الرواد والمنتمين إلى مدرسة الإحياء والبعث وما يسمى بعد ذلك بالكلاسيكية الجديدة.
رافد نثري: يتجلى فيمن اختطوا لأنفسهم خطاً موازياً لأرباب الصنعة الشعرية؛ فأرادوا الاتصال بالماضي من خلال أعمال حكائية نثرية، ويمكن نتبين خطاهم من خلال الكتابة الروائية التاريخية التي نشطت على الساحة الأدبية بدءًا من جرجي زيدان وكتاباته التاريخية في القرن التاسع عشر مروراً بطه حسين ومحمد سعيد العريان، ومحمد فريد أبي حديد وعلي الجارم وعلي أحمد باكثير، وعبد الحميد جودة السحار... وغيرهم.

إننا نستطيع أن ننظر إلى الكلاسيكية برافديها الشعري والنثري من خلال أعمال المنتمين إليها وفق نظرة عامة تضعها في خانة الاتصال الواعي بالماضي القائم على الانتقاء أو الاختيار لعناصر بعينها موجودة فيه، استجابة لعلل تفرضها اللحظة الحاضرة وخدمة لغايات يرجو أصحابها الوصول إليها مع المتلقين لرسالتهم الأدبية3.

علي الجارم والرواية التاريخية

وبالتركيز على الرافد النثري تحديدًا يمكننا الوقوف أمام أحد أعلامه البارزين؛ بوصفه مثالا يصح الاستشهاد به في سبيل إضاءة تلك النظرة الإيجابية من الكلاسكية بصفة عامة في التحامها الواعي بالتراث دون التجمد عنده أو اتخاذه غاية نهائية للوصول، وليس أداة أو مطية حاملة لوجهة نظر يريد الكاتب الإفصاح عنها بقلمه الأدبي؛ هذا المثال يتجلى في علي الجارم أحد المهتمين بالكتابة الروائية التاريخية في القرن العشرين.

هو صوت خصص نفسه في فنين من فنون الأدب: الشعر والرواية، شهد ميلاده فترة شديدة الحساسية في تاريخ مصر الحديث؛ فقد ولد في سنة 1881م؛ أي الفترة التي شهدت ثورة عرابي والبارودي ورفاقهما على فساد أوضاع داخلية في مصر وضعف أمام تدخل أجنبى انتهى باحتلال إنجلترا لها .. ولا شك في أن واقعاً متوتراً كهذا سيترك أثره في تكوين هذا الصوت؛ فعلي الجارم الشاعر الذي اهتم بكتابة الرواية يعد حلقة في سلسلة أدباء وكتابات ركزت على استدعاء التاريخ في إبداعاتها القصصية؛ فعندما نذكره يستدعى الذهن: محمد فريد أبو حديد، محمد سعيد العريان، علي أحمد باكثير، عبد الحميد جودة السحار، ومن قبلهم جرجي زيدان الذي اختار من التاريخ الإسلامي أحداثاً تكون حبكات لرواياته، فأنتج: العباسة، الأمين والمأمون، شجرة الدر، أرمانوسة المصرية، ومن قبل زيدان كان رفاعة الطهطاوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر الذي طرق باب التاريخ -بعد أن طرق باب الغرب- ليأخذ منه مادة تصلح لكتابة قصصية فأبدع "غاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز"4.

كل هؤلاء حاولوا أن يكتبوا الرواية التاريخية التي تقوم على اقتناص حدث من مرحلة تاريخية معينة لم يعد لها وجود، أو شخصية غابت عن زمننا ليتم بعثها من جديد من خلال شخصيات تاريخية ذات شهرة -غالباً- وشخصيات موضوعة يبتكرها الكاتب، ويحملها بما يحيي في خاطرنا صورة العصر المراد بعثه بأبعاده المختلفة: النفسية والسياسية والاجتماعية5.

الرواية التاريخية ومسألة الهوية

وعلي الجارم أحد الكتاب المصريين الذين شغلوا أنفسهم بقضية الهوية في النصف الأول من القرن العشرين؛ فوطنه يقع تحت هيمنة احتلال أجنبي وجد البعض في قوته غواية تقنعهم بضرورة الارتباط الكامل بالوافد من عنده حتى لو أفرز هذا الارتباط نوعاً من التمرد والانفصال عن الجذور، فكان علي الجارم ورفاقه محمد فريد أبو حديد، ومحمد سعيد العريان، وعلي أحمد باكثير بمثابة رد الفعل الذي اتخذ من عالم الحكاية منبراً يحتفي بهذا الصوت المضاد، وهو ما يأخذنا إلى مدرسة الإحياء والبعث أول مدرسة شعرية تظهر في أدبنا العربي الحديث، وكانت الوجه الأدبي لثورة عرابي وأتباعه التي أخذت طابعاً عسكرياً؛ لقد احتفت هذه المدرسة على يد مؤسسها محمود سامي البارودي ومن بعده أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم .. وغيرهم بالنماذج الأدبية المضيئة في تراثنا العربي، وآلت على نفسها مهمة محاكاتها على مستوى الشكل والتجربة بما يعد إعادة بعث لها من جديد إلى واقع شهد الأدب فيه حالة من الجمود، ويعد صنيع البارودي وأتباع مدرسته بمثابة الرافد الشعري لهذه المدرسة الكلاسيكية التي جاء بموازاتها رافد آخر (نثري) أقامه علي الجارم ورفاقه من خلال استلهام التراث في التعبير عن واقع معاصر.

وقد ركز الجارم في بعض أعماله الروائية على استدعاء شخصيات من التاريخ اهتمت بإبداع الشعر مثل: أبو فراس الحمداني، والمتنبي، والمعتمد بن عباد، ولعل صوت الشاعر الساكن فيه كان له دور في هذا الاختيار؛ فقدم لنا المتنبي في عملين: "الشاعر الطموح" و"غاية المطاف"، وأبو فراس الحمداني في رواية "فارس بني حمدان"، والمعتمد بن عباد الأندلسي في رواية "شاعر ملك"6.

ويحرص كاتب الرواية التاريخية بصفة عامة على إسقاط مشكلات عصره على جو الرواية سواء أكان ذلك بوعي تام أم بدرجة أقل، المهم أن مادة التاريخ المستدعاة هي في كل الأحوال رمز يشير إلى وجهة نظر الكاتب تجاه الواقع الذي يحياه في وعاء فني يلتقي فيه الحقيقي بالخيالي..

وفي رواية مثل "شاعر ملك" نستطيع أن نربط في تأويلنا لها بين الفترة التي ظهرت فيها والشخصية التي تحكي عنها؛ لقد صدرت هذه الرواية في الأربعينيات من القرن الماضي عندما كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، وكانت هناك نداءات تدعو إلى توحيد الشعوب العربية التي مزقها الانقسام وهيمنة الأجنبي في منظمة واحدة تجمعها؛ فكان ذلك أساساً لظهور "جامعة الدول العربية"7. ورواية شاعر ملك تتحدث من خلال اللغة فيما يشبه لوحات وصفية متتابعة لكل لوحة عنوانها الخاص عن شخصية شاعرة تولت زمام الملك في بلاد الأندلس هي المعتمد بن عباد، وكان ذلك في عصر ملوك الطوائف الذي شهدت فيه الجماعة العربية هناك واقعا ًمأزوماً بحكم الانقسام الذي أدى إلى ضياع أول جزء من إمبراطوريتها هناك ألا وهي "طليطلة"، فكان ذلك السقوط بمثابة نداء تحذيري لها.. اتخذ علي الجارم من مشهد الأزمة هذا أساساً يقيم عليه عالمه الفني في هذه الرواية في إشارة رمزية إلى سياق الواقع الذي يحياه، وقد جعل الجارم من المعتمد بن عباد عيناً يطل منها القارئ على هذه الحقبة التاريخية المتوترة، ثم بعد ذلك يأتي فعل القراءة المعتمد على المقارنة بين الماضي المُستدعى والحاضر المعاش.. وتبدأ هذه اللوحات عند الجارم بـ"ليلة" تشير إلى ميلاد بطل روايته.. وتنتهي بـ"أفول" يقدم فيها مشهد النهاية، نهاية هذا الشاعر الذي صار ملكاً ومعه دولته8.

وهذا الطابع الوسطي في كتابة الرواية التاريخية الذي يجعلها تجمع بين الحقيقي والمتخيل يقربها -بدرجة ما- من طبيعة الخبر القصصي في تراثنا العربي؛ فآلية تشكيله تمنحه هذا الالتقاء.. أنت نفسك إذا طلب منك كتابة مقال سردي تقدم فيه فكرة ترتبط بحدث وقع لك أو لغيرك؛ فإن تأثير هذا الحدث فيك ربما سيدفعك إلى تجنب روايته بطريقة حرفية، وستفضل إعادة صياغته وفق مزاجك الفكري والنفسي الخاص.

 

تعقيب

إن علي الجارم ورفاقه يرسخون لهذه القناعة التي تم ذكرها آنفًا؛ ألا وهي أن الكلاسيكية تتحرك في الوسط الثقافي العربي برافدين؛ الأول شعري، والرافد الثاني الذي يقف على ضفافه علي الجارم وأمثاله هو الرافد النثري، ويتضافر الاثنان معًا ليكونا عماد التيار الكلاسيكي الذي كان يتحرك في فضائنا الثقافي منذ العقدين الأخيرين في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين برافدين أدبيين: شعري ونثري (حكائي) ليكون الصوت المضاد المدافع عن الهوية بإزاء أصوات أخرى يمكن نعتها بالمستغربة.

 


هوامش الدراسة: 1. انظر: د. محمد مندور، الأدب ومذاهبه، الكلاسيكية، من ص: 45 إلى ص: 58، د.ت، نهضة مصر للطباعة، القاهرة.2. انظر: د. أحمد يحيى علي، الخطاب الروائي: احتياجات الواقع ومتطلبات الفن، من ص: 18 إلى ص: 22، الطبعة الأولى 2021م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.3. انظر: د. أحمد يحيى علي، الأدب وصناعة الوعي، من ص: 23 إلى ص: 25، الطبعة الأولى، 2017م، دار كنوز المعرفة، عمان.4. انظر: د. محمد حسن عبد الله، الواقعية في الرواية العربية، ص: 193، طبعة 2005م، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.5. انظر: جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة: صالح جواد كاظم، ص: 381، 384، 389، طبعة 2005م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.6. انظر: د. الطاهر مكي، علي الجارم المفكر والأديب.7. صدرت الطبعة الأولى من هذه الرواية في سنة 1943م، في هذه الفترة بدأت في الظهور أصوات تدعو إلى ضرورة إنشاء منظمة عربية تسهم في لم شمل الأقطار العربية.. وكانت هذه الأصوات البذرة التي انطلقت منها الجامعة العربية فيما بعد.┊ يراجع في تاريخ الطبعة الأولى لرواية شاعر ملك: د. الطاهر أحمد مكي، علي الجارم المفكر والأديب.8. انظر: علي الجارم، رواية "شاعر ملك"، الطبعة الثانية، 1953م، دار المعارف، القاهرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها