"ابن حزم" و"ابن شُهيد" والشعر العربـي

ترجمة: مؤنس مفتاح

بقلم: شارل بيلا "Charles Pellat"

 

لقد تم اختيار العنوان الغامض نوعاً ما لهذا المقال في إطار خطة للسماح لي أولاً من جهة بتحديد بعض المعلومات الأساسيّة دون الخوض في الكثير من التفاصيل، ومن جهة أخرى تكريم هذين الشاعرين المنتميان لقرطبة الإسبانية من الاستشراق الإسباني ممثلاً في شخص الأستاذ "إميليو غرسية غوميز" "Emilio Garcia Gomez"، حيث وضع سيد الشعر العربي في "إسبانيا" بلا منازع في واقع الأمر وبشكل مكثف للغاية نظرية مهمة تستحق بالتأكيد أن يتم تناولها وتطويرها وفي كلمتين: "ابن حزم" و"ابن شُهَيْد"، اللذان كانت تربطهما صداقة عميقة، إذ يُمكن اعتبارهما زعيمي مدرسة أدبية تميل إلى خلق شعر أندلسي محض، ولذلك يَجدُر بنا محاولة توضيح طبيعة تلك العلاقة والبحث عن العناصر التي تُجادل في صحة هذه الأطروحة أو دحضها.


ولد "ابن شهيد" في "منية المغيرة" سنة 382/992، بينما توجد لوحة تذكارية دُشنت هذا الأسبوع تذكر بأن "ابن حَزم" ولد سنة 384/994، وقد أمضى هذا الأخير طفولته بين حريم والده، في حين كان "أبو عامر" يُمضي طفولته في الاستمتاع في الشارع مع الأولاد والبنات من نفس فئته العمرية؛ وقد تمكنا من معرفة هذه التفاصيل من خلال نص جميل لإميليو غرسية غوميز "Emilio Garcia Gomez" جزم فيه أنه من الجيد تخيل الشاب "ابن حَزم" ذاهباً لقضاء بعض اللحظات بالقرب من الشيخ "المنصور"، بينما نجد أن "ابن شهيد" يَروي بحدة تفاصيل زياراته الخاصة للحاجب.
ووفقاً لنفس النص فإنه ومنذ سن الثامنة عُيّنَ "أبو عامر" من قبل "المُظفر" قائداً للشرطة، غير أن هذا المنصب الذي كان من دون شك وظيفة شرفية، لم تمنعه من الاستعداد لكي يكون كاتباً والانغماس في الشعر؛ ولعل أقدم أبياته الشعرية تعود في الواقع إلى فترة سابقة عن 394/1004، لتكشف عن موهبته الشعرية المبكرة. وقد تعارف "أبو عامر" و"أبو محمد ابن حزم" منذ ذلك الوقت، فتكونت بينهما علاقة إلا أن الشهادة الأولى عنها لا تعود لوقت أقدم من سنة 1009/400، كما ذُكر ذلك في "رسالة التّوابع والزوابع"، هذه الصداقة التي تظهر بشكل ما من خلال معيار غير واضح، ومع ذلك يجب تمكينها من تفسير صحيح (إنها توابع الجاحظ وعبد الحميد التي تتحدث):
"وقد بلغنا أنك لا تجارى في أبناء جنسك... فمَن أشدهم عليك؟ قلت جاران دارهما صقب وثالث نابته نُوَبٌ...فقالا: إلى أبي محمد تشير وأبي القاسم وأبي بكر؟ قلت: أجل...أما أبو محمد فانتضى على لسانه عند المستعين وساعدته زرافة استهواها من الحاسدين... وأما أبو بكر فأقصر واختصر على قوله : له تابعة تؤيده وأما أبو القاسم الإفليلي إلخ".

 تكمن الاستفادة الكبرى من هذا النص في ضرورة التذكير بأنه وعلى خلاف ما هو معروف عموماً، فإن هذه "الرسالة" عمل مرحلة الشباب، ذلك أنه كان مُهدى إلى "أبي بكر ابن حزم"، أخ "أبي محمد"، المولود سنة 379/989، والذي توفي خلال فترة انتشار وباء الطاعون في ذي القعدة 401 / يونيو1011، عن عمر يناهز الثانية والعشرين عاماً.
وعلى الرغم من أن "الإبرازة الثانية" تبدو وكأنها وُضعت في وقت لاحق أو كانت قطعة جديدة من الأبيات الشعرية ثم أضيفت إلى النص الأصلي، فإن التلميح لـ"المستعين"، الذي حكم للمرة الأولى في الفترة من 16 ربيع الأول 400/7، نوفمبر 1009، إلى غاية شهر شوال من نفس العام/مايو يونيو 1010، ثم من شوال 403/ مايو 1013 إلى غاية محرم 407/ يوليو 1016، تسمح لنا بالتفكير إلى أن الحادث المرتبط بهذه المسألة قد وَقع في عهد الخليفة الأول للعصر الأموي. ومن بين الأشخاص الثلاثة الذين قذفهم "أبو عامر" في رسالته: "أبو القاسم" دون تحديد اسمه، وهو في في الواقع "ابن الأفليلي" شارح "المتنبي"، وكذا "أبو بكر" الذي صُنفت له "الرسالة" بدون شك، كما أن "ابن شهيد" لم يَعترف يوماً أن يكون قد تلقى مساعدة من "تابع" البتة، ويظل في الختام من المرجح جداً أن يكون المقصود بـ"أبي محمد" هذا "ابن حزم الكبير".

لم يكن ذلك الحادث من غير شك سوى مجرد سحابة مضيئة مرت بسرعة، وعلى الرغم من أن المشاعر التي أظهرها "ابن شهيد" نحو "ابن حزم" كانت في بعض الجوانب مُقلقة. فإن جواب الشاعر يُظهر بعض التريث:
أصَاخُوا إلى قَولي فأسمعتُ مُعجزاً ... وغاصُوا على سرِّي فأعياهم أمري
أمَا عَلِمُوا أنِّي إلى العلمِ طامحٌ ... وأنِّي الّذي سبْقاً على عِرْقِه يجري

ومن المعروف أن "ابن حزم" ظل في "قرطبة" حتى سنة 404/1013، تاريخ هجرته إلى "ألميريا"، والتي لم يعد إليها إلا في سنة 409/1019، للذهاب إلى "شاطبة"، وخلافاً لـ"ابن حزم" فإن "ابن شهيد" كان يحب بجنون مسقط رأسه، حيث لم يغادر مدينته إلا في وقت لاحق للهروب من السجن.
عَجُوزٌ لِعمر الصّبا فانيّة ... لها في الحَشا صورةُ الغَانِيّة

ومن المرجح أن الصديقين كانا يتبادلان المراسلات، وقد تحدث "ابن خِلّكان" عن "المُكاتبات" و"المداعبات" التي دارت بينهما دون تقديم تفاصيل عنها.
كما ذَكر "المقري" من جانبه، أنه ذات يوم كانت الأحوال الجوية سيئة جداً، فجاء "ابن حزم" وهو بقرطبة لزيارة "أبي عامر" الذي تفاجأ للغاية لرؤيته بمنزله فقال:
"يا سيدي مثلك يقصدني في هذا اليوم".
فأجابه، "أبو محمد" بنبرة احترام غير متوقعة مُرتجلاً هذه الأبيات:
ولوكانت الدنيا دويْنَك لجّةً ... وفي الجوّ صعقٌ دائمٌ وحريقُ
لسهّل ودّي فيك نحوك مسلكاً ... ولم يتعذّر لي إليك طريقُ

وعلى أية حال فإننا نعلم أنه في سنة 414/1023 تواجدَ الصديقان بالقرب من "المستظهر بالله" باعتبارهما وزيرين مع "ابن برد الأكبر" و"أبي المغيرة عبد الوهاب ابن حزم"، ابن عم أبي محمد، وقد كان يبدو أن "ابن شهيد" تربطه علاقة خاصة به.

لقد قام "الفتح ابن خاقان" في أسلوبه المزركش بالمقارنة بين "أبي عامر" و"أبي المغيرة" مع اللذاين لا يتجزآن لـ"الجذيمة الأبرش" وألمح إلى أن "أبا عامر" كان له تأثير سلبي على "أبي المغيرة" والذي لم يقم بأي عمل صالح قط.

ليست لدي ثقة في أقوال "ابن خاقان"، ولكننا نرى ومن دون شك أن "أبا المغيرة" كان أقرب لـ"ابن شهيد"، وذلك بحكم انغماسهما في ملذات الدنيا على عكس ابن عمه "أبي محمد" الذي كان أقل عرضة للميل إلى الرعونة والفجور، وقد قام "ابن شهيد" في قصيدة أدرجها بعد ذلك في "رسالة التّوابِعُ والزَّوابِعُ"، بالثناء على هذا الأخير، الذي لا ينقصه السخرية لكنه يقدمه على أية حال كمدافع عن الفضيلة:
ودون اعتزامي هَضْبَةٌ كسْرَوِيّةٌ ... من الحَزْمِ سلمانِيّةٌ في المَكَاسِر
وأنتَ ابنَ حَزمٍ مُنْعشٌ مِن عِثارِها ... إذا ما شَرِقْنَا بالجُدودِ العَواثِرِ

كما حرص "ابن حزم" من جانبه على إهداء صديقه "ابن شهيد" رسالة عن "إعجاز القرآن الكريم"، الأمر الذي يسمح لنا بإمكانية قياس المسافة الموجودة بين الرجلين على المستوى الديني.

لم يَحكم الخليفة الجديد "أبو العباس أحمد المستظهر بالله" سوى ثمان ولأربعين يوماً، حيثُ قام خلفه "محمد الثالث أبو القاسم عبد الله" -المستكفي بالله- بقتله، كما أنه ألقى في السجن كُلاًّ من "ابن حزم" و"ابن شهيد"، إلا أنهما نجحا في الفرار إلى "مالقة"، حيث وَضعا نفسهما في خدمة "الحمودي يحيى بن علي"، وتَجدر الإشارة أنه يَجب أن نذكر أن هناك فرقاً آخر بين "أبي عامر"، الذي كان مستعداً لخدمة الحكام المبعوثين إلى "قرطبة" بحكم الصدفة والقدر، و"ابن حزم" الذي كان عميق المناصرة للسلطة ومتعلقاً بـ"الأمويين"، ذلك أن "ابن حزم" لم يَكتب ولو بيتاً واحداً مثل تلك القصيدة التي بعثها "أبو عامر" لـ"يحيى المعتلي":
وإنْ هَشمتْ حَقِّي أُمَيّة عِندها ... وباتا على ظَهرِ المحجّةِ هاشم

وفي الوقت الذي بدأ فيه "ابن حزم" معرفة وجود مجادل مليء بالعاطفة، فقد كان "ابن شهيد" إذا جاز التعبير شريك "هشام الثالث"، الذي انتزع الحكم من "العامريين" الذين كان يعترف بشرعيتهم؛ فأنشد في جمادة الثانية 421/يونيو 1030، بعد تنفيذ حكم الإعدام في الوزير "عبد الرحمن بن محمد"، قصيدة عنيفة والتي دل بيتها الأولى على ذلك التعاطف قائلاً:
أحللْتنِي بمحلّة الجَوْزاءِ ... ورويتُ عِندكَ من دمِ الأعْداءِ

 فنجد أن "ابن حزم" في تلك الحقبة بالذات قد أُبعد من قرطبة، ولكن من الممكن أن يكون الصديقان قد استمرا في تبادل المراسلات، وقد انتهت العلاقة بينهما بالموت السابق لأوانه لابن شهيد في 29 من "جمادة الأولى" من سنة 426/11 أبريل 1035، عن عمر يناهز 44 سنة، وخلال فترة مرضه الأخير والتي لم تُقلل شيئا من قدراته الفكرية، قام "أبو عامر" بإرسال العديد من برقيات الوداع المؤثرة والمنظومة على شكل قصائد إلى جملة من أصدقائه، وهي:
ولما رأيت العيش ولّى برأسه ... وأيقنتُ أنّ الموتَ لا شك لاحقي
تمنّيتُ أني ساكن في غيابة ... بأعلى مهب الرّيح في رأس شاهقِ
أذر سقيط الحب في فضل عيشة ... وحيداً وأحسو الماء في ثني المغالقِ

 وقد طلب منه تخليد ذكراه قائلاً:
أبا عامرٍ ناديت خِلاًّ مصافيا ... يُفديك من دَهمِ الخُطوب الطّوارِق
شدائد يجلوها الإله بلطفه ... فلا تأس إنّ الدّهر جَمُّ المَضايق
ورب أسير في يد الدهر مطلق ... ومنطلق والدهر أسوق سائق

 وكأن "ابن حزم" من خلال جوابه يريد أن يقدم لصديقه عزاءً ويُعطي الهاجع بصيصاً من الأمل:
أبا عامرٍ ناديت خلاً مصافياً ... يُفديك من دهم الخُطوب الطّوارق
وآلمْتَ قَلباً مُخلصاً لك مُمْحضاً ... بِودِّكَ موصولِ العُرى والعَلائقِ
شَدائدُ يجلوها الإله بلطفه ... فلا تأسَ إنَّ الدهر جمُّ المضايق

وقد أظهر العدد القليل من المعطيات التي ذكرتها في هذه الورقة أن العلاقة التي تربط بين الرجلين تُعتبر سمة الصداقة الحقيقية، على الرغم من اختلافهما من حيث الشخصية والمسار، ومع ذلك، فإنني لم أجد أي معلومات عن التقارير التي درست علاقتهما في الميدان الأدبي، ويجب علي الآن الإحالة على "إيمانويل غرسية غوميز" في موجزه الرائع الذي عنونه بـ"الشعر العربي الأندلسي" والذي ربط فيه ربطاً وثيقاً بين "ابن حزم" وابن شهيد" على رأس مدرسة جديدة للشعر. ووفقاً للمؤرخ الكبير للشعر العربي في إسبانيا (الأندلس)، فقد اتبع الشعر العربي المسار التّالي:
- كان هناك في القرن الثاني الهجري والثامن الميلادي شعر بدوي عربي يتعايش مع نوع الشعر الروماني الشعبي.
- كان هناك في القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي من جهة نوع من الانصهار حدث بين ثنائيتين مع "إبداع الموشحات"، والّذي ظل شعراً شعبيّاً ودخل الشعر العراقي الحداثي والكلاسيكي الجديد إلى إسبانيا.
- أصبحت الأندلس نحو نهاية القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي أكثر معرفة بشخصيتها، في حين تطور الشعر الشعبي وبدأ يظهر للوجود شعر جديد أقل عرضة لتأثير الشرق، وفي كلمة واحدة أكثر إسبانية، ووجد مناصرين متحمسين في مجموعة من الأرستقراطيين ومن بينهم عظيما قرطبة "أبو عامر" و"أبو محمد"، "وقد مثلت هذه الطبقة الجديدة مدرسة أدبية من الشباب القرطبي المنحدرين من عائلات نبيلة... والذين أعتقد تمثيلهم في شخصيتين كبيرتين هما: "ابن شهيد" و"ابن حزم".

ويُمكن القول إنّ هذه المدرسة كانت بمعنى من المعاني "ثورية": فقد تبرأت من الأساتذة، كما أنها كشفت عن الطرق المستخدمة في التدريس، ودَعَت إلى التجديد في الأدب وترك التقليد، فكانت تسعى إلى الإبداع دون الاعتماد على السلف، لتدعَم فكرة أن الشاعر "يُولد ولا يُصْنَع" ونحن نؤمن بهذه الأطروحة ولكن الشرق يَرفضونها، وقد كانت هذه المدرسة من ناحية أخرى أرستقراطية في الأساس، وتحتقر الأدب الشعبي الذي مثلته على سبيل المثال: "الموشحة". وفي إطار تعزيز هذا التعريب كان هناك إدراك جيد للتطورات الشرقية، إلا أنه في نفس الوقت وبشكل متناقض، تجلى كره وطموح إلى الرجوع إلى مؤخرة السفينة، وذلك بالتشبث بالمسحة القومية التي ظَهرت معالِمُها في أبيات "ابن حزم" حين أنشد قائلاً:
ويا جوهرَ الصّين سُحقاً ... فقد غنيّْتُ بياقوتة الأندلس

وفي نفس السنة، قام "إيمانويل غرسية غوميز" في مقدمته لكتاب "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" بتطوير نفس الفكرة الرئيسة، وتساءل عن ماهية الكمال والمثالية عند الطبقة الأرستقراطية، فيقول: "تأخذ هذه النواة المنتقاة... مثل كثير من الأقليات الإسلامية المعاصرة الأخرى على عاتقها مسؤولية الدفاع عن "العروبة"، وتوسيع انتشارها على حساب الخصائص الشعبية والمحلية... وقد كانت النقاط الأخرى من برنامج الطبقة الأرستقراطية الشابة تُولي وتُدرك جيداً أهمية معرفة الصنعات الأدبية البغدادية فجَعلت مَعرفتها أمراً مفروغاً منه للتمكن من تجاهلها تارة ومن التنافس معها أخرى؛ باختصار، فإذا تم استيعابها بدأ التملص من المشايات والكتب والإبداع"، وأكبر دليل على ذلك بيت ابن حزم الآنف ذكره.
حيث يرى فيه "إيمانويل غرسية غوميز" توجهاً قومياً، وقد اكتشف في إشعار "ابن بسام" عن "ابن شهيد" بعض المعطيات الإيجابية التي تؤيد طرحه: هناك رثاء لحال "العامية الوحشية" التي يتحدث بها في "قرطبة"، ومن الأساتذة السيئين الذين كانوا في العاصمة، وألفوا ونشروا أبياتا للتنافس مع شعراء المشرق، وقد أكد أن الأدب الجيد يعتمد على مزاج الكاتب وليس على مجرد الإطلاع أو الدقة النحوية، ويَشعر بأن أفضل وسيلة للكاتب هو الذكاء، والذي افتقده عدد كبير من علماء وكتاب النثر في عصره، ويعتقد أن الله هو الذي يعطي البلاغة وليس المعلمين، وهو يَستند في هذا إلى مقولة أن: "الشاعر يُولد ولا يُصنع"، إنها عقيدة جريئة في الأدب العربي رسخت مبدأ تجديد الأدب، أي أن كل مرحلة أو لحظة تاريخية يجب أن يكون لها أدبها.

 لقد قمت في مقال لي سيُنشر في مجلة "الأندلس" بتفصيل جميع بيانات "الظاهرة" وتحليل النصوص التي قد يبدو فيها "ابن شهيد" إلى حد ما ناقداً أدبياً، إذ لا يظهر من المفيد التحدث اليوم عن الفن الشعري الذي يُمكن للمرء أن يكتشفه بسهولة، ولكني أود هنا فقط التأكيد على بعض النقاط الجديرة بالاهتمام.

 كما يعود الكثير من الإنتاج الشعري لـ"ابن شهيد" -وهو ليس بالأقل صنعة- إلى فترة شبابه وقد أخد مكانه في "رسالة التوابع"، وهي الطريقة المثلى لكي يُقدم للقارئ ما كان الشاعر يعتبره الأفضل ومن جانبه وجد "ابن حزم" من خلال تأليفه لـ"طوق الحمامة" طريقة أنيقة لتحقيق نفس الهدف، ولكن الموازنة بينهما سوف تتوقف هنا لأن "ابن شهيد" في "الرسالة" قام بالنهل منذ الطفولة من المصادر المشرقية شعراً ونثراً، وقد ساعده في ذلك تزوده بموهبة شعرية مبكرة وفصاحة كانت عند الشعراء العرب، حيث كان في الأساس يهدف إلى إظهار قدرته على المنافسة ليس فقط مع شاعر شرقي فريد من نوعه، ولكن مع أكبر الأسماء في الأدب العربي، كما أنه يستطيع التألق في الأنواع التي جسدها المشاهير منهم وأنه "شاعر وكاتب، مما يعني أنه يجمع بين الصنفين الشعر والنثر. كما         تظهر عبقرية "ابن شهيد" خاصة في السياق الذي كان يتصوره، في تلك الزيارة إلى بلدان الجن والعباقرة الملهمين للشعراء والكتاب الكبار، حيث يسألهم بطريقة أو بأخرى عن "الإجازة"، ومن الجدير بالذكر هنا أن الأبيات التي قدمها "ابن شهيد" ذات جودة عالية، وسوف أكتفي هنا بذكر "ضابط" واحد مشهور على وجه التحديد وهو:
ولما تملأ من سكره ... فنام ونامت عيون العسس
دنوت إليه على بعده ... دنوّ رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس
وبت به ليلتي ناعماً ... إلى أن تبسم ثغر الغلس

وأثناء كتابة "ابن شهيد" لهذه الأبيات، ربما لم يكن قد مارس "الدبيب"، ولا يُمكننا بأي حال من الأحوال أن نعتبر أنه وصف مشهداً حياً، كما أنه ليس لدي الوقت للتطرق لهذه النقطة، ولكن واحدة من الأفكار الأساسية لـ"أبي عامر" هي أنه للتمكن من التحكيم في القضايا الشعرية، وجب أولا التعامل مع مواضيع شعرية عدة لكي يوجد أساس للمقارنة، كما أن أسلافاً لامعين خدموا تميز "ابن شهيد"، وقد انفجرت موهبته الشعرية الحقيقية في عيون كل المتذوقين. إن الإبداع لا يُمكن أن يرتبط بالشكل فقط، إذ كل شيء بالنسبة لـ"ابن شهيد" ليس سوى ممارسة لطريقة مدرسة، بل وحتى مدائحه وهو في سن النضج حيث يبكي على الأطلال وكذا نفس قصائد الخمريات التي يشعر فيها المرء بتأثير "أبي نواس" عليه التي لا تتبع طريقة أو أسلوباً معيناً، ولكن يُظهر موهبة انتقائية واعترافاً بكبار الشعراء الذين سبقوه، ويسعى جاهداً للقيام بعمل أفضل منهم. وهذا البيت يكشف ما ذكرته بهذا الصدد:
أفوهُ بما لمْ آتِهِ مُتَعرِّضاً ... لِحسنِ المَعاني عندهم فأزيدُ

كما أنه من الغريب أن "ابن حزم" في كتابه الشهير "الرسالة" في "فضل الأندلس" لم يذكر "ابن شهيد" إلا من بين "البلغاء" أي من بين "كبار الناثرين النثر"، دون أن ينظر إليه باعتباره شاعراً بارزاً ومتميزاً. إن "أبا عامر" في الواقع لا يكاد يفصل بين النثر والشعر، وقد كان اهتمامُه المستمر في "رسائله" هو تعريف "البيان" الموهبة الأدبية وليس الخطابة التي يَعلم حاملها، وبالتساؤل عن تطور الأدب العربي، فإن "أبا عامر" يستطيع أن يميز بين مختلف العبارات ويبدو أنه على علم بالتغييرات التي تطرأ على مر الزمان، وكذا تنوع الأذواق بين الطبقات الاجتماعية، ولكن هذا الأمر لا يعني أنه كان يعتقد أنه حان الوقت لتعزيز وجود أدب إسباني بحت، وبدلاً من ذلك، فإن الأدب العربي بالنسبة له متجانس، كما أن دراسة كبار الشعراء وكتب النثر هي التي قادته لصياغة أربعة أفكار أساسية، وهي:
1. إن الموهبة الأدبية (البيان) لا تكمن في المهنة والتقليد الأعمى، ولكن في القدرات الطبيعية (الطبع).
2. إن الجمال غير معرف ولا يمكن تفسيره لأنه مصنوع من عناصر خفية، غير ملموسة، وهي تأتي من العطاءات الفطرية للفنان.
3. إنه الله وليست الكتب أو المعلمون الذين يلقنون "البيان".
4. إن البيان ضروري للنثر، غير أن "ابن شهيد" فرق بين ثلاث فئات من الأدباء والذين يُضفي عليهم لقب "الشعراء": أولئك الذين يكتبون الشعر بصعوبة ولكن بشكل جيد، وأولئك الذين يستفيدون من مصدر إلهام فياض، وأخيراً، أولئك الذين يَستلهمون موارد المجال الشعري، كما أن "ابن شهيد" توقف لوقت طويل عن استخدام "البديع" وذهب إلى حرب ضد أولئك الذين يعتقدون أنه يكفي ليكون الشعر جيداً.

 كان "إيمانويل غرسية غوميز" (E.Gomez Garcia) في المُجمل مُحِقا في الأساس في اتجاه أن "ابن شهيد" حاول دَحض محاولات استخدام الصور النمطية أو شخصيات الخطاب البالية من أجل خلق الإبداع بالإلهام والإلهام وحده، ولكنه مع ذلك يحترم الموضوعات التقليدية ويشعر أنه يتساوى مع الشعراء المشارقة والذين يعتبرهم أساتذته. إن الفن الشعري الذي رسمه "ابن شهيد" ليس في الحقيقة أندلسياً، كما أن الرطانة الهمجية التي يتهم بها مواطنيه دليل يُثبت أنه يتمسك بمعظم مصادر العروبة النقية. ولا شك أنه يطلق صرخة إنذار ربما، ولكن ليس لديه ما يقدمه لدرء الخطر وغير قادر على البث في "بيان" صديقه "ابن حزم" الذي كتب أبياتاً بنضارة معينة حيث يلعب فيها الإلهام الشخصي دوره، ومع ذلك، فهو ليس بالشاعر الثوري، وبمناشدته موارد الفن، فقد كان فخوراً بتضمينه لأربع تشبيهات في البيت نفسه:
كأنّ الهوى والعَتْب والهَجر والرِّضى ... قرانٌ وأنواءٌ ونحسٌ وأسعدُ
ويَذكر بنفس الرضا بيتاً آخر نجح في وضع خمسة تشبيهات فيه:
"ولي أيضاً ما هو أتم من هذا وهو تشبيه خمسة أشياء في بيت واحد:
كأنِّي وهِي والكأسَ والخمرَ والدُّجى ... ثرىً وحياً والدُّر والتِّبر والسّبح
وللختم بطريقة ناجحة: "فهذا أمر لا مزيد فيه ولا يقدر أحد على أكثر منه".

لم يكن "ابن شهيد" قادراً على استعمال أبداً محسنات كهذه. حيث إنّ جمهوراً من الناطقين باللغة العربية الذين قرأت لهم أبياتاً عن انحطاط قرطبة نَسَبَها "ابن الخطيب" لأبي عامر، هزوا رؤوسهم باستنكار مما جَعلني أفهم أن هذا التخصيص كان إثماً، وقد بدا لي السبب مفهوماً حينما توصلت لما يلي:
بأطيبهم بقصورها وخدورها ... وبدورها بقصورها تتحدر

 يبدو أنني في مهرجان تمجيد "ابن حزم" هذا أريد، وهذا من دواعي سروري هدم نُصُب، وهذا ليس في نيتي لأنني أعتبر هذا القرطبي من بين أعظم شخصيات الإسلام، لقد كانت ببساطة مجرد محاولة لإظهار كيف كان رد فعل "ابن شهيد" ضد انحطاط الشعر المُقدم سواء في المهنة أو الموروث الشعبي، وذلك بالتخلي عن "البديع" و"الغريب" للعودة إلى الموضوعات الكبيرة للشعر الكلاسيكي، المحدث أو التقليدي، مع ترك التصرف للإلهام. إذ لم يجعل رد الفعل المثير للاهتمام من "ابن شهيد" زعيم مدرسة، وجعل من غير الممكن جمعه مع "ابن حزم" صاحب المواهب الشعرية المحدودة والبعيدة عن الاستنساخ كما عبَّرَ عن ذلك "بيتروف" (Petrof) قائلاً: "إن المزاجية في بساطتها البدائية تجلب الخطابة والرضا بالمحسنات اللفظية".

 أريدُ أن أنهي مداخلتي بضرورة قيام المستعربين الإسبان الشباب بإجراء مزيد من البحوث حول هذه القضايا المثيرة، وإثبات أن البذور التي زرعها أستاذهم "إميليو غرسية غوميز"E.Garcia Gomez  لم تحملها الرياح الصحراوية.


المصدر: مقال للمستشرق الفرنسي: "شارل بيلا"، مقتطف من مجلة الملك، العدد الثالث، سنة 1963، ص: 86.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها