صائدُ الفيروسات!

لويس باستور.. مؤسّس الطب الحديث

ترجمة: عبدالله بن محمد


تحوّل الكيميائي الفرنسي لويس باستور Louis Pasteur إلى بطل قبل مائة وخمسة وعشرين عامًا من الآن، وذلك باكتشافه لقاحاً ضد داء الكلب القاتل. وحتى قبل الاكتشاف، وضعت أبحاثه أهم ركن للطب الحديث: النظافة. تجنّب الاقتراب من كلب مصاب بداء الكلب أو إثارته بعصا، كما فعل جوزيف مايستر، الطفل ذي التسع سنوات في أحد أيام يوليو عام 1885. هاجم الكلب المجنون الفتى وعضّه. كانت والدته تعرف أنه ربما يكون مصاباً بداء الكلب ومن المؤكد أنه سيموت ميتة فظيعة. ورغم ذلك لم تستسلم الأم الحزينة لليأس، بعد أن سرت شائعات عن وجود كيميائي شهير يدعى لويس باستور، صاحب تجارب في اللقاحات، قدم إلى القرية الصغيرة في الألزاس، حيث تعيش عائلة مايستر. أخذت السيدة مايستر ابنها المصاب إلى مدينة أربوا، حيث كان باستور يقيم مختبره، وتوسّلت إليه أن ينقذ الصبي.



باستور البطل المعاصر

في عام 1885 كان باستور البالغ من العمر 63 عاماً قد اكتسب شهرة عالمية لفترة طويلة، وعندما اجتمع ألفيْ طبيب من جميع أنحاء العالم لعقد مؤتمر في كوبنهاغن بالدنمارك كان نجماً بلا منازع. اتسمت تلك الفترة بالحماسة في كل مجالات التقدم العلمي، المتسارع بشكل لم يسبق له مثيل، وليس أقلها عالم الطب. وقد أشار الكاتب الدانماركي الشهير جورج براندس إلى أن الأطباء هم أبطال الأدب في ذلك العصر الجديد. كان باستور الصورة الحيّة لمثل هذا البطل المعاصر، وحظي باهتمام كبير؛ لأن مساهمته قد حوّلت مسألة فهم الأمراض إلى مادة علمية رغم أنه لم يكن طبيباً في الواقع، بل كيميائياً متخصصاً في البلورات.
ولآلاف السنين طغت الخُرافات والنظريات المضاربة على الطب. كان الممارسون يعتقدون بأن الأمراض المعدية والأوبئة كانت ناجمة عن التفاعل الكيميائي للمياه الراكدة والتربة الرطبة، وفي أوقات "الكوليرا" وصف الأطباء العلاج بالتعرّق وإراقة الدم، ومستخلصات الأعشاب، ووضع الخردل على الأقدام، وفرك القماش. كانت قائمة العلاجات السخيفة لا حصر لها: أُعطي مرضى الزهري الزئبق، فسممهم بدلاً من علاجهم، ومات الناس من السعال الديكي والخناق والتهاب الحلق العادي. وعلى ما يبدو، لم يكن من الممكن فعل أي شيء. في عام 1849 سخِر أطباء غاضبون من زميلهم المجري إينياز سيميلويس، عندما زعم أن الأطباء ينقلون العدوى إلى مرضاهم لأنهم لا يغسلون أيديهم. طُرد سيميلويس وانتهى به المطاف منبوذاً، ثم توفي في مستشفى للأمراض العقلية، واستمر هلاك المرضى كالذباب في أقسام الأمومة وغرف العمليات في جميع أنحاء أوروبا، حيث كان الجراحون يرتدون المعاطف القديمة والقذرة، ولا يغسلون أيديهم إلا بعد الجراحة.


شخصية طموحة

كان لويس باستور من أبرز العلماء، فهو: منهجيٌّ وطموحٌ ومثاليّ، ومتميّز في إقناع حلفائه المؤثرين وعرض مهاراته. وفي مهنته المبكرة ككيميائي، مكّنه عمله المخبري من اكتشاف مهم يتعلق بتكوين البلورة في حمض الطرطريك، مما مهّد له الطريق ليصبح أستاذاً للكيمياء في ستراسبورغ، حيث باشر التدريس والأبحاث لخمس سنوات.

في عام 1844 أصبح باستور رئيساً لأعضاء هيئة التدريس الجديدة للعلوم التطبيقية في جامعة "ليل" الفرنسية، حيث قام العلماء بتحويل نتائج أبحاثهم إلى تطبيقات عملية. لذلك، دفع باستور العلماء الشبان إلى زيارة الشركات وعقد دورات مسائية لعمال المصانع، كما قام باستور نفسه بإجراء أبحاث في عمليات التخمير والتسوّس، وسرعان ما أصبح عمله في صناعة النبيذ والبيرة مهماً للغاية، إضافة إلى صناعات الألبان والأغذية.

وفي عام 1857 أصبح باستور مديراً للدراسات العلمية في أعرق جامعة بباريس (المدرسة العليا) حيث ركّز على دراسة الكائنات الدقيقة. في ذلك الوقت كان العلماء يقرّون بوجود البكتيريا، وكانوا يفترضون أنها تنشأ "تلقائياً" من "مادة ميتة". وبعد سنوات من التجارب، كان باستور أول من أدرك أن التخمّر والانحلال ينتجان بفعل كائنات دقيقة -خلايا الخميرة أو البكتيريا- وفي عام 1860 أثبت بشكل قاطع أن الحياة لا يمكن أن تنشأ من المادة الميتة. اليوم، يبدو ذلك تافهاً للغاية، لكن في عهد باستور كان الأمر ثورياً.

قام الأخير بتجارب عبر وضع "حساء" في قوارير زجاجية خاصة ليدحض نهائياً الأفكار القديمة التي تعتبر أن الحياة تولد تلقائياً، وعندما لا يُسمح للهواء الملوث بالتأثير على الحساء، الذي تم تسخينه للقضاء على جميع الكائنات الحية الدقيقة بقي الحساء سليماً.. قبل أن يسمح لهواء جديد ملوث بالتأثير عليه. واستناداً إلى هذه الأدلة، لم يكن من الصعب على باستور، بفكره العملي اعتماد التسخين لفترة قصيرة لقتل البكتيريا الضارة في الطعام، وبالتالي المحافظة على المنتج أكبر وقت ممكن. ويتم استخدام هذه العملية المعروفة باسم البسترة بشكل يومي في مصانع الألبان، ومصانع الجِعة في جميع أنحاء العالم لأكثر من مائة عام.

في عام 1865 أثّرت المصادفة على مهنة باستور بطريقة مهمة للغاية، مما جعله يدرك يقيناً أن الكائنات الدقيقة هي سبب الأمراض. كان المرض الذي هاجم يسروع فراشة الحرير، على وشك إلحاق أضرار كبيرة بمربي دود الحرير في فرنسا، وتدمير الصناعة بأكملها، لذلك طُلب من باستور المساعدة. وتحت مجهر باستور الباحث، ثبت أن بيض فراشات الحرير واليرقات قد أصيبت بالبكتيريا. ولمعرفة ما إذا كانت البكتيريا هي المسببة للمرض، اقتنى باستور مجموعة من اليرقات السليمة وأطعم نصفها بأوراق توت ملوثة بفضلات اليرقات المريضة، وقدّم للنصف الآخر أوراقاً سليمة. المجموعة الأولى من اليرقات أصيبت وماتت، بينما البقية ظلت سليمة. والسبب: البكتيريا. أوصى باستور بأن يستخدم مربو الحرير طريقة تربية معزولة لإنتاج الفراشات السليمة، فانتهى الإشكال. لذلك، لم ينقذ باستور صناعة الحرير فحسب، بل أيضاً حدّد العلاقة بين الكائنات الدقيقة والمرض.
 

زيارة لمستشفى .. أصابت باستور بالصدمة

بين 1859 و1866 فقدت عائلة باستور ثلاثة من أفرادها الخمسة. ماتت إحدى بناته بورم في المخ والأخريان بحمى التيفوئيد. وفي عام 1868 أصيب باستور بجلطة أدت إلى إصابة الجانب الأيسر من جسمه بالشلل. ومع ذلك، رفض التخلي عن عمله. وعلى العكس، أكسبه موت بناته حافزًا قويًا: كان عازماً على القضاء على المرض ووفيات الأطفال! وعندما شنت ألمانيا هجومها على فرنسا في عام 1870 كان ابن باستور جان بابتيست مجنداً في الجيش. وعلى غرار العديد من الجنود الآخرين، أصيب بحمى التيفوئيد، لكنه تعافى وزاره والده في المستشفى العسكري. صُدم لويس باستور من الظروف القاسية ورائحة العفن المنبعثة من جروح الجنود المفتوحة.

تحوّل إلى إدارة المستشفى، ليشرح لهم بأن القذارة توفّر ظروفاً ممتازة لنمو البكتيريا، مما يؤدي إلى وفيات يمكن تجنبها. ورغم ذلك، رفض الأطباء الاستماع لنصائحه. من الواضح أن سبب التجاهل هو أن السيد باستور لم يدرس الطب! غضب باستور من اللامبالاة، وأطلق حملة تلزم الجراحين بغسل أيديهم، وارتداء معاطف نظيفة، واستخدام الأدوات المعقّمة داخل قاعات عمليات نظيفة. وعلى عكس سيميلويس الذي فقد مصداقيته، كان باستور يتمتع بحجج علمية قوية، بالإضافة إلى إشعاع سمعته الدولية التي تدعمه.

لقد أعطى إصرار لويس ثماره، حتى أقر الجراح البريطاني جوزيف ليستر بجهوده. في ذلك الوقت، تعلّم الجراحون أساليب تخدير المرضى، وبالتالي كانوا قادرين على إجراء عمليات جراحية كبرى. ولكن حتى بعد نجاح العمليات، قضى نصف المرضى -على الأقل- نحبهم بسبب الجروح المتعفنة. قام جوزيف ليستر بتحليل محلول لتطهير حمض الكربوليك في غرفة العمليات، فانخفضت معدلات الوفيات بشكل كبير، وبمرور الوقت، بدأ الأطباء الفرنسيون باتباع نصيحة باستور.
 

الجمرة الخبيثة والمناعة

بعد إصابته بجلطة لم يعد بإمكان لويس باستور التدريس، لكن السلطات الفرنسية قدرت مساهماته ومنحته راتباً سنوياً قاراً سمح له بمواصلة بحثه، وبمرور الزمن، أمضى باستور معظم أوقاته في دراسة الأمراض وأسبابها. وفي عام 1877 انتشر مرض الماشية -الجمرة الخبيثة- على نطاق واسع في فرنسا. اكتشف باستور أن بعض الحيوانات كانت أكثر تضرراً من غيرها. حقن بقرتين بجرعة كبيرة من بكتيريا الجمرة الخبيثة، متوقعاً بأن تموتا، لكن المفاجأة كانت كبيرة، لقد ظلتا في صحة جيدة. اتضح أن البقرتين كانتا مصابتين مسبقاً بهذا المرض. هل منعهما ذلك من المرض مجدداً؟ وهل يمكن حماية الحيوانات الأخرى بجرعة خفيفة من الجمرة الخبيثة، وبالتالي إصابتها بشكل خفيف؟ تساءل باستور!

بعد عدة تجارب، نجح باستور في إنتاج سلالة ضعيفة من الجمرة الخبيثة، يمكن حقنها في الأبقار والأغنام. وفي وقت لاحق، عندما تم وضع هذه الحيوانات بين مجموعة أخرى مصابة بشدة، بقيت الحيوانات التجريبية سليمة، لقد اكتسبت مناعة ضد الجمرة الخبيثة! تجارب باستور مع اللقاح دفعت بعلماء آخرين للاتصال به. وفي أحد الأيام طلب منه أحد الأطباء أن يجد علاجاً ضد داء الكلب، هذا المرض الذي يخشاه عامة الناس؛ لأن جميع ضحاياه قد ماتوا.

أدرك باستور أن داء الكلب يؤثر على الدماغ، وافترض أن يكون ذلك نتيجة لهجوم جرثومي، لذا قام بمعية مساعديه بإجراء تجارِب، عبر حقن مادة من دماغ كلب مات بداء الكلب في كلاب سليمة، فأصيبت الأخيرة وماتت. ولكن على الرغم من قضاء ساعات من التحديق في المجهر، كان من المستحيل على باستور العثور على بكتيريا، يمكن ربطها بالمرض. كان هذا طبيعيًا تمامًا؛ لأنها لم تكن بكتيريا، بل فيروساً، ولكن المجاهر كانت ضعيفة جدًا لم تتمكن من أن تكشفه.

ورغم ذلك، اخترع باستور طريقة لمكافحة السبب غير المرئي للمرض: في زجاجات من الهواء المعقم، قام بتجفيف أنسجة من الحيوانات المريضة. كان من المفترض أن تسبب عملية التجفيف في أضعاف الكائنات الدقيقة، وتم حقن الأنسجة الجافة في الكلاب والأرانب السليمة، ولم تصب بالمرض، حتى عندما تم حقنها بعد فترة من الزمن بداء الكلب الأصلي. لقد تم تطوير اللقاح!
 

نداءات استغاثة جديدة

لم يكن باستور مستعداً بعد لاختبار لقاحه على البشر، لقد كان ببساطة محفوفًا بالمخاطر. ومع ذلك، أقنعه الطبيب بمحاولة مساعدة فتاة كانت قد دخلت المستشفى بداء الكلب. كان التلقيح فرصتها الوحيدة، وناولها باستور حقنة على مضض. لم تتعاف الفتاة، ولكن على الرغم من تأثّره الكبير بموتها، قام باستور باستخراج أنسجة من دماغها لحقنها في الأرانب، وسرعان ما ماتت حيوانات التجارب، مما جعل باستور يفترض أن الفتاة كانت في مرحلة متقدمة من المرض، ولا يمكن إنقاذها بأي حال من الأحوال. وفي صيف عام 1885 بينما كان باستور يفكر جاهداً في كل هذه الاعتبارات، زارته السيدة مايستر مع ابنها جوزيف، وطلبت مساعدته. وافق باستور: عضات كلب جوزيف كانت حديثة ولم تظهر عليه بعد أي أعراض، وخلال عشرة أيام حقن باستور الصبي ثلاث عشرة جرعة من فيروس داء الكلب بدرجات متزايدة. كانت الحقنة الأخيرة شديدة، ولم يذق باستور النوم ليلتها: هل ينجو جوزيف أم يموت؟

ظل الصبي في صحة جيدة، وسرعان ما اكتظ مختبر باستور بالمرضى المصابين بداء الكلب من جميع أنحاء العالم طلباً للعلاج. وفي مارس 1886 عالج باستور ثلاثمائة وخمسين شخصاً، ولم يمت منهم إلا واحد فقط. وفي أواخر عام 1886 كان لقاح داء الكلب قد أنقذ حياة أكثر من 2500 شخص. عندما بلغ لويس باستور السبعين عام 1892 توافد الضيوف من جميع أنحاء العالم على جامعة السوربون في باريس، وأثنوا عليه مديحاً وميداليات. في السابق عانى باستور من جلطة أخرى، لذلك استقدم معه ابنه ليقرأ له كلمة الشكر. وبعد الاحتفال واصل لويس باستور عمله في معهد باستور، الذي افتتح في عام 1888. وفي 1894 أدخل العلماء في المعهد لقاح الخناق طور الإنتاج، وفي العام التالي باشر باستور بحثه عن بكتيريا الطاعون، لكنه أصيب بجلطة أخرى ومات. أقيمت للعالم الفرنسي جنازة رسمية في كاتدرائية نوتردام، ودفن في سرداب تحت معهد باستور، الذي ما يزال أحد أهم مراكز البحوث الميكروبيولوجية وإنتاج اللقاحات في العالم.





المصدر/المقال الأصلي: مجلة Science Illustrated Australia، نوفمبر 2017 ©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها