الشاعر والمترجم الألماني توبياس بورغارد

أجد متعة كبرى في اكتشاف الأشكال الشعرية العربية..

حاوره: حسن الوزاني



يُمثل الشاعرُ والمترجم توبياس بورغارد وجهاً جديداً للمشهد الشعري والثقافي الألماني، وصوتاً مختلفاً على مستوى اهتماماته. صوتُ جيل وُلد بعد الحرب العالمية الثانية ليسعىى، بإصرار، إلى نسج علاقات جديدة مع العالم ومع ثقافاته. يبدو توبياس منشغلاً باستمرار بالبحث عن فضاءات شعرية تتجاوز جغرافيا المركز الشعري الأوروبي، ليطل عبر منابر ومؤسسات النشر، ومهرجانات الشعر بكولومبيا والأرجنتين واليابان، وبغيرها من المناطق الشعرية الجديدة. صدرت له مجموعة من الأعمال الشعرية، من بينها: "مصرف النهر" بالألمانية، و"الكتاب الورقي" بالإسبانية، المنشور بمدينة بوينوس إيريس بالأرجنتين، و"شواطئ" و"جزيرة".


 

✦ يشكل توزعُ إنتاجك بين اللغتين الألمانية والإسبانية علامةً أساسية داخل تجربتك على مستوى الإبداع الشعري والترجمة. ما الذي قادك للإقامة بين اللغتين؟

كتبتُ منذ مدة، هذا البيت الذي يشكل مركز قصيدتي "طريق سائق الطاكسي": "رجاء. قُدني إلى الوراء. أكثر. أنا الجالس بين مقعدين". يهمني إذن، أن أؤكد على هذا الـ"بين". لقد شاءت الظروف أن أسافر لأول مرة، إلى أمريكا اللاتينية. وبالضبط إلى لاباز، عاصمة بوليفيا. ولم يكن عمري يتجاوز آنذاك الرابعة عشر. وهو الأمر الذي تمَّ بهدف تعلم الإسبانية في إطار التبادل المدرسي. ومنذ تلك اللحظة، توالت أسفاري إلى المناطق المجاورة، خلال فترات العطل المدرسية. لقد أحببتُ الأمرَ كثيراً، وصار ذلك جزءاً من هويتي. وقررتُ البقاء هناك لإتمام دراستي. وعدت إلى ألمانيا، لدراسة أدب أمريكا اللاتينية وثقافتها الشعبية ببرلين. ثم انتقلتُ بعد ذلك إلى بوينس أيريس بالأرجنتين، حيث مارستُ تدريسَ اللغة الإسبانية. وهناك تعرفت إلى جونا، المرأة الأرجنتينية التي ستصير فيما بعد رفيقة حياتي. لقد اشتغلنا بشكل مشترك، بفضل معرفتنا باللغتين، على ترجمة شعر أمريكا اللاتينية الحديث إلى الألمانية، كما نقلنا العديد من النصوص المكتوبة بالألمانية، سواء من طرف شعراء ألمان أو غيرهم، إلى الإسبانية. سيرتي الشخصية تقيم إذن بين الثقافتين. ويمنحني ذلك باستمرار قوة معرفة الآخر الذي أصبح جزءاً من هويتي الشخصية.

✦ كيف تتمثل خصائص المشهد الشعري الراهن بألمانيا؟

أعتقد أنه يمكن اختزالُ أهم سمات المشهد الشعري الراهن بألمانيا في تجاوزه للمركزية التي طبعت حركيةَ الكتابة والتداول الشعريين خلال لحظات طويلة، وفي بعده الفردي، وفي استثماره لهامش كبير على مستوى حرية الإبداع. ولا أتحدث هنا عن الشعر أو الأدب الذي تقودُه الطموحاتُ التجارية أساساً، والذي يحتفظ بخوائه الروحي والإبداعي بالرغم من تداوله على مستوى واسع، بل عن التجارِب الشعرية التي تتشبث بالقيم الفنية والإبداعية والروحية العميقة والعليا، رداً على إكراهات السياق المادي الذي يحيط بها.

✦ عاشت ألمانيا حروباً مدمرة. ما الذي يستطيع أن يفعله الشعر من أجل تجاوز امتدادات آلام هذه الحرب؟

لقد أدى ظهور الديكتاتورية النازية، خلال سنوات الثلاثينيات، وتوريطُها لألمانيا في حرب عالمية مأساوية، إلى القضاء على ملامح التقاليد الرومانسية في الشعر الألماني، حيث تم اجتثاثُ جذور التعدد الثقافي والإثني بوسط أوروبا وشمالها، بشكل انتحاري بامتياز. وأسهمَ الشعرُ، بعد انتهاء الحرب، في العمل على تجاوز آثار هذه الجرائم المرعبة، وفي البحث عن هوية مفتقدة في زحمة الخراب الروحي والإنساني والثقافي الذي عاشه البلد. غير أن ذلك تم خلال فترة تقسيم ألمانيا، تحت تأثير النموذجين الغربي، والسوفياتي. وفي مقابل ذلك، فتحتْ إعادةُ توحيد ألمانيا أفقاً جديداً للكتابة الشعرية خلال العشرية الأخيرة، لتحديث ممارستها الإبداعية بشكل جلي وعميق.

✦ أنت إذن، أحد الشعراء المنتمين للجيل الذي تزامن مع هذه اللحظة. كيف عشت تحولاتها على المستوى الشعري؟

أعتقد أن أهم سمة تحكم الممارسة الشعرية الجديدة بألمانيا تكمن في انفتاحها على العالم، وفي سعيها المستمر إلى خلق علاقات وصداقات شعرية مع مناطق أخرى، حيث يمكن الحديث الآن عن مدرسة ألمانية جديدة على مستوى ترجمة الشعر الكوني إلى اللغة الألمانية. ويمكن أن أستحضر في هذا الإطار، مشروع "أنا بلوم"، الذي أشرفتُ عليه شخصياً، والذي تم إنجازُه في إطار تظاهرة معرض هانوفر سنة 2000. وقد تم توجيه الدعوة إلى الشعراء من مختلف دول العالم، لترجمة قصيدة "أنا بلوم" للشاعر والفنان كورت شويتيرز إلى 100 لغة، ولكتابة نصوص جديدة تفتح حواراً مع هذه القصيدة.

وقد صدر العملُ في مجلدين، بالإضافة إلى قرص مضغوط يقدم قراءة للنص من خلال تركيب رائع لأصوات جميع الشعراء المشاركين في المشروع. وامتداداً للانفتاح ذاته، أستحضرُ أيضاً الحضور الخاص للشعر الألماني الجديد في المهرجان العالمي للشعر لمدينة ميدلين بكولومبيا، الذي استطاع أن يجمع أكثر من ألف شاعر. ويُعتبر هذا اللقاء بالفعل لحظة حوار عميق بين مختلف التجارب الشعرية الكونية. إن هذا الانفتاح على المناطق الشعرية العالمية يشكلُ بالتأكيد تجاوزاً للتمركز حول الذات، ولمنطق الجغرافية الشعرية الوطنية الذي حَكَم الأجيال الشعرية الألمانية السابقة. لقد عرف العالم تحولاً عميقاً على مستوى حوار الثقافات، بشكل يجعل من المتجاوز الاستمرار في الاحتفاء بالمراكز الثقافية الأوربية التقليدية، في الوقت الذي يشهد فيه ما كان يُعتبر محيطاً تشَكُّلَ مراكز جديدة. وهو الأمر الذي تؤكده الحركية الثقافية والإبداعية التي تشهدها مناطق أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، والعالم العربي.

✦ كيف تتمثل إذن علامات اللقاء الألماني بالشعر العربي، على المستويين الشخصي والعام؟

على المستوى الشخصي، تعرفتُ على جانب من الشعر العربي عبر اللقاء المباشر بإيقاعه المتفرد والرائع خلال المهرجان العالمي للشعر بكولومبيا، ثم من خلال قراءتي لترجمات مجموعة من نصوصه إلى الإسبانية. كما تَعْرف ألمانيا الآن اهتماماً خاصاً بترجمة الشعر العربي إلى الألمانية. ولا يبدو هذا اللقاء معزولاً أو استثنائياً. حيث كان غوته عاشقاً كبيراً للشعر العربي، وهو ما يشهد به عمله المشهور الموسوم بـ"الديوان الغربي الشرقي". وقد عرفت ألمانيا خلال سنة 2001، تأسيس مجلة باللغتين العربية والألمانية، بمدينة برلين، تحمل اسم "ديوان".

وأجدُ شخصياً متعة كبرى في إعادة اكتشاف الأشكال الشعرية العربية، وفي البحث عن امتداداتها في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، حيث سبق لي أن نشرتُ نصاً يحمل عنوان: "قصيدة" (Quasida). وأعتقد أن العديد من القيم البلاغية للشعر الإسباني ولشعر أمريكا اللاتينية تمتد جذورها إلى التواجد العربي بإسبانيا خلال خمسة قرون، والذي شكل لحظةَ حوار ثقافي عميق بين العرب والإسبان واليهود. وهو حوار من علاماته ترجمةُ العديد من النصوص الشعرية والصوفية والفلسفية والرياضية والعلمية العربية، وذلك ضمن سياق يقوم على التسامح والتكامل بين مختلف المكونات الثقافية والإثنية.

✦ أنت تشتغل بترجمة الشعر. ما الذي يمنحه ذلك لاشتغالك الشعري؟

تشكلُ الترجمة جزءاً أساسياً من اهتمامي الشعري. إن كتابة نص شعري هي عملية ترجمة أيضاً. ويتم ذلك بشكل أكثر حرية ربما، ولكن، بالصرامة وبالدقة. لا أرى فرقاً كبيراً بين الشاعر والمترجِم. فالمترجم ليس إلا كاتباً آخر. شاعراً آخر. تحتاج القصيدة لحوار شعري لكي تتحول بالفعل إلى قصيدة، ولكي تُجددَ خطابها الشعري الخاص. إنه المسار نفسه الذي يؤسسه القارئ والذي ينتهي بأن يصير نفسُه كاتباً للنص المقروء، أي أن تصيرَ القصيدةُ قصيدتَه. ذلك هو مصير أي نص شعري حقيقي، وأي قارئ يحب ويجيد الحياة داخل القصيدة. إنني أجد نفسي دائماً مقيماً داخل مركز الشعر. ولا فرق بين أن أكون شاعراً، أو مترجماً، أو قارئاً. ولا يجب أن ننسى أن الذي يدوم هو الشعر، وليس وضعنا الشخصي المتحول.

✦ لديك علاقات صداقات عميقة بأمريكا اللاتينية. ما الذي يربطك بها؟

لقد قلتُ لك سابقاً إنني أهديتُ حياتي للشعر. إن أمريكا اللاتينية هي مرآة هجرة الإنسانية جميعها؛ إذ يؤكد العديد من مفكري أمريكا اللاتينية بأنهم يعرفون أوروبا أكثر من الأوروبيين أنفسهم. لقد اخترتُ شخصياً أن يقيم انشغالي الشعري عند نقطة التقاء الثقافات واللغات الأوروبية والأمريكو-لاتينية. تقودني في ذلك رغبةٌ عميقةٌ في نسج الأخوة والصداقة والمحبة الشعرية أساساً.

✦ لعلها الرغبة ذاتها التي كانت وراء تنسيقك للرسالة التضامنية مع كولومبيا، والتي حظيت بتوقيع أكثر من 3000 شاعر من جميع دول العالم!

بالتأكيد؛ عاشت كولومبيا حرباً دموية مأساوية استمرت أكثر من أربعين سنة. وكان هذا التخريب الوحشي يتناقض بالتأكيد مع ما يتسم به الكولومبيون من عزة نفس، ومع جمال طبيعة كولومبيا. وكان الأمر يبدو تماماً كما لو أن ثمة يداً وقحة ما تسعى باستمرار إلى خنق كل ملامح الإبداع الإنساني، ليس فقط داخل كولومبيا، ولكن في بقاع العالم كلها. ولذلك، وجدنا أنفسنا كشعراء مدعوين إلى التعبير عن تضامننا مع كولومبيا، في إطار بحثها عن صوتها الإنساني الحقيقي والعميق، رداً على كل أشكال الموت.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها