الصور الرقمية.. باعتبارها قوّة ليبرالية جديدة

لـ نيكولا غاستينو Nicolas Gastineau

ترجمة: زهرة إباحسون

نغرق كلّ يوم بعدد كبير من الصوّر الرقمية التي يتمّ تبادلها عبر الحوامل الرقمية الجديدة. ويظهر ألا أحد يستطيع أن يقاوم هذه الموجة الرقمية العاتية، فهي تحاصرنا من كلّ الجوانب، من الرسائل النصية في "الميسنجر"، ومن تقنية "الواتساب" إلى "الفيس بوك"، وعبر التلفزيون إلى شاشات المترو... إنّها التقنيات الجديدة التي تحيط بنا في كلّ مكان؛ ولأنّها معتادة الآن، لم نعد ننتبه إليها كثيراً. لكن، ينبغي أن نكون حذرين أكثر من ذي قبل؛ لأنّ هناك ما سيتوجب هذا الحذر؛ فهذا أحد المنظّرين للتصوير الفوتوغرافي "أندريه روييه" "André Rouillé"1 يحذّرنا من أنّ هذه الصور بعيدة كل البعد عن أن تكون بريئة.
 

في كتابه الجديد حول "الصورة الرقمية: قوّة ليبرالية جديدة"2 (La photo numérique: Une force néolibérale)، الصادر عن دار ECHAPPEE - 2020، يطرح أندريه روييه فكرة أنّ الصوّر الرقمية تعمل على تغيير علاقتنا بالعالم الذي نعيش فيه بشكل عميق. فالانتقال من فيلم سنيمائي كلاسيكي إلى رقمي، هو أمر خطير وليس مجرّد نقلة نوعية؛ حيث اتخذ التصوير الفوتوغرافي للأفلام شكلاً ثابتاً وجامداً للصور، بينما التصوير الرقمي الحالي، أصبح يزدهر شيئاً فشيئاً في عصر التزوير والتعديلات والحقائق غير المؤكدة والأخبار الكاذبة. لقد تم اختطاف النموذج في ظلّ التصوير الرقمي، وفقدت الصورة مهمتها في الولاء. إنّه "الزلزال الفنّي" الذي أصبحت له تداعيات سياسية كثيرة، وهذا ما يعبّر عنه شعار العصر الرقمي: أهلاً بكم في عصر الأخبار الكاذبة وما بعد الحقيقة. علاوة على ذلك، فإنّ خصائص الصورة الرقمية (اللحظية، التقلب، السيولة، وما إلى ذلك من الأمور التي تفيد عدم التحديد) ستكون انعكاساً للقيم الليبرالية الجديدة ولناشريها.

يعدّ هذا الأمر بمثابة نهاية عصر المحاكاة، فبين التصوير الرقمي والتصوير الفوتوغرافي للأفلام، الاختلافات ليست في الدرجة بل في الطبيعة. لقد كان الفيلم عملية كيميائية، بينما التصوير الرقمي الآن مجرّد عملية طاقية كهربائية. كانت الصورة الفضية بصمة مادية للعالم، أمّا الصورة الرقمية الحالية فهي عبارة عن ملف من الأرقام المشفرة التي يمكن تغييرها إلى ما لا نهاية من الإمكانات. وهكذا انتقل الأول من الشيء (الموضوع المصور) إلى الشيء (الصورة)، والثاني يرسل الشيء نحو عالم من عدم التحديد والافتراضية والدورة.

لكن ماذا تغير بعد ذلك؟ بالفعل، فإن إمكانية تعديل الصورة المتاحة حالياً هي التي تخلق الشك الدائم والمستمر وتطرح السؤال الآتي: هل ستكون وفية لنموذجها؟ وهل هي غير قابلة للترشيح حقًا؟ وفوق هذا وذاك، قد ينتهي كلّ هذا الشك إلى تعطيل علاقة الصورة بما تمثله، بالتالي التضحية بالواقع المصوّر، ممّا يُكسب الصورة الرقمية استقلاليتها الخاصة. هنا لن تعتمد هذه الأخيرة على نموذجها، ولن يكون عليها أن تكون مخلصة له.

يرى "أندريه روييه" -الذي يبدو بشكل غريب غير مدرك أن المؤثرات الفوتوغرافية الخاصة كانت موجودة بالفعل في العصر الفضي- أنّ هذا النموذج الرقمي، هو بمثابة نهاية التصوّر الأفلاطوني الذي حكم على الفن بالمحاكاة والتقليد. من الطبيعي جدّاً، مع كلّ هذا الخطر الرقمي الداهم والذي نعيش تبعاته اليوم، أن يتمّ تعميم الأخبار الزائفة والكاذبة، وبالتالي زيادة منسوب عدم الثقة بالصورة الرقمية.

لقد دخلت تقنية "سناب شات" (Snapchat) في صراع مع "الفيس بوك"، وهذه مبارزة جيّدة، لكن التصوير الرقمي له وجوه عديدة؛ وهذا ما كشفه "أندريه روييه" في مقطع ممتع من كتابه عندما قابل بين كلّ من موقع سناب شات والفيس بوك. فاسناب شات يبرم عقداً أصلياً مع المستخدم، بحيث لا يمكن عرض الرسالة المنشورة لأكثر من عشر ثوانٍ، بينما يقوم الفيس بوك بتخزين الصور المنشورة وأرشيفها باستمرار، في حين يعمل سناب شات على تدمير هذه الصور بشكل منهجي، وبالتالي يضمن أن تكون مجرّد أحداث خالصة.

على ضوء هذا الموقع نتلقى الصورة التي ستختفي سريعاً، وبذلك يكون ضغط الثواني يمنعنا من تأمّلها، ونكتفي برؤيتها فقط. ثم يعيد سناب شات اكتشاف القليل من الطبيعة العابرة لمراقبة الطبيعة: طبيعة تعبر الحقل بأقصى سرعة، وبرق يبرز في السماء. بالنسبة للكاتب أندريه روييه، تعتبر طريقة سناب شات مفيدة، إذ في مواجهة ذاكرة الفيس بوك الرقمية العتيدة التي تلتقط جميع أنشطتنا وصورنا، يكون فقدان ذاكرة سناب شات أمراً سعيداً. وبهذا الخصوص، يعتبر أندريه روييه أنّ هناك إمكانيةً لتحقيق نوع من حرية العرض الذي يمكن ممارسته دون خوف من تكرار تجاوزات واستفزازات مفاجئة. لذا، فشعار هذا التطبيق هو في الواقع نوع من تقدير الظهور الخفيف.

هذا الأمر حقيقة يدشّن لعصر نيوليبرالي للصورة. ورغم تقدير إيجابيات طريقة "سناب شات" هذه، يبقى هذا الكتاب نقداً سياسياً للتقنيات الرقمية الجديدة. وبعد كلّ هذه الإيجابيات التي تسمح بها هذه التقنيات، يعود أندريه روييه إلى الفيلسوف الألماني "تيودور أدورنو" (Theodor Adorno) ليقتبس منه قوله الشهير: "الصورة الجمالية هي محتوى (اجتماعي) ترّسب مع مرور الوقت". وهذا يعني أنّ الخصائص الشكلية للعمل الفني في الصورة أداة تنقل الظروف الاجتماعية والسياسية لعصرهم.

لكن، ما أشكال التصوير الرقمي؟ سيولة النقل، المرونة، الحركة المفرطة... ولعلّ هذه هي سمات الليبرالية الجديدة بالضبط. إنّ التصوير الرقمي الحالي يصنع صورته، كما ينشر أيديولوجيته؛ وبالتالي فهو يتيح للجميع "تجربة لا تصدق من العطاء والفورية والانتشار اللامحدود والمرونة. أمّا تكلفته فهي مجانية وكذلك وقت إنتاجه مجاني".

وفقاً لـ"أندريه روييه"، سيشكل هذا الأمر روح هذا العصر، وهي الروح التي يتردد صداها تماماً في الأفكار النيوليبرالية الرائجة حالياً، والتي ترفع شعار "عالم غير محدود، ذاك الذي يمكن الوصول إليه بشكل كوني، أي بدون حدود أو مواعيد نهائية، وبدون خشونة أو عوائق مادية. إنّه عالم سلس ومنفتح تمامًا... وخالٍ من القواعد والتنظيمات والموروثات". في الأخير، يبقى أن نعاين ما إذا كانت هذه الصورة الجديدة لعالم نيوليبرالي هي ذاتها النسخة الأصيلة من الواقع، أو هي فقط كليشيهات أخرى من العصر الرقمي.

لقد كانت صور الأفلام فيما مضى ثابتة، بحيث يلزم مشاهدتها على أنّها كذلك. لكن الآن الصور الرقمية، هي بمثابة صور ديناميكية، يتم مشاركتها وتقاسمها رقمياً عبر المنصّات والمواقع الرقمية المختلفة. إنها تدور في تدفق غير منقطع على شبكات التواصل الافتراضية، وسواء كانت افتراضية أو حقيقية، تبقى قوى رقمية مؤثّرة في هذا العصر.

إنها تغرس خلسة، وباستمرار في ذاتية كلّ فرد هذه العقلانية النيوليبرالية التي تشكّلها مجموعة من القيم الجديدة: اللحظية، السرعة، السيولة، التقاسم، التفاعل والمشاركة والوجود في كل مكان. إنّ نشر نموذج السوق الجديد -حتى في حالة عدم وجود مسألة المال- يكسّر تلك الحدود القديمة بين الـ"هنا" والعوالم الأخرى، بين الأمة والعالم، الخاص والعام.

في خضم تعقّبه لأفكار "ثيودور أدورنو" -الذي وضع نظرية للفن كحقيقة اجتماعية- قام المؤلف صاحب هذا الكتاب، وهو أحد أفضل خبراء تاريخ التصوير الفوتوغرافي والصور المعاصرين، بتطوير نقد كلّي للعمليات الجمالية والتقنية والاقتصادية والسياسية التي تعمل حالياً على تشكيل عالمنا الراهن. إنّه يوضح كيف فتح التصوير الرقمي حقبة جديدة، تتميز بغزارة الصور الرقمية وظهور قوى جديدة، بل وتشكّل اقتصاداً جديداً، يعمل الآن على صنع فرد ليبرالي جديد.


هوامش: -1- أندريه روييه "André Rouillé"، المولود عام 1948، هو مؤرخ ومنظر للتصوير الفوتوغرافي المعاصر، مهتم بالصور والفن والإنترنت. كان في بدايته متخصصاً في موضوع التصوير الفوتوغرافي في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، ثمّ في سنة 2002 أنشأ موقع paris-art.com على الإنترنت، وترأس تحريره. أصدر كتاب "الصورة الرقمية: قوة ليبرالية جديدة" خلال هذه السنة (2020)، صدر له عن دار إيشابي. / -2- André Rouillé, La Photo numérique, une force néo-libérale, L’Échappée, 2020.
 
رابط المقال الأصلي:
“La Photo numérique, une force néo-libérale”, par André Rouillé
نُشر في موقع المجلة الفلسفية الفرنسية في 12 أكتوبر 2020

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها