المغرب والإبل!

تاريخ عريق وارتباط وثيق

محمد العساوي

 

صُنِّفَت الإبل كواحدة من أهم الدعامات الأساسية المحركة لتاريخ المغرب عبر العصور، بفعل انخراطها الفعلي والمباشر في كافة أشكال الحِراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري... ويمكن أن نعمم هذه الحالة على امتداد الصحراء الكبرى والجزيرة العربية مروراً بصحاري إيران وصولاً إلى الصين، ولا يخفى على ذي بال أن الثقافة العربية خصصت حيزاً للإبل سواء في القرآن الكريم الذي تناولها وفق أغراض معلومة، فتارة يوردها للاعتبار في خلقتها فيقول تعالى: "أفلا ينظُرون إلى الإبل كيف خُلِقت"1، وترد في حالات أخرى أثناء الحديث عن القضايا الكبرى في تاريخ الأمة كقوله تعالى "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف"2، فهي تأتي مضمرة في هذه الآية لا لشيء إلا لأنها هي الحاملة للسلع والمنافع والأشخاص، وتأتي الآية الكريمة التالية لتكرس الدور المركزي للإبل في حياة البداوة منذ تواريخ سالفة، حيث يقول تعالى في بداية سورة النحل: {والأنعام خَلَقَها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تُريحُون وحين تسْرَحُون، وتَحْمِل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالِغِيه إلا ِبِشِق الأنفس إن ربَّكُم لرؤوف رحيم}3، وأكد تعالى في آية أخرى في نفس السورة على أن حياة البداوة تقوم على أكتاف الإبل في قوله {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخِفُّونها يوم ظعنكم ويوم إقـامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعـارها أثاثاً ومتـاعاً إلـى حين}4، كما عجت السيرة النبوية بمواقف كثيرة كانت الإبل حاضرة فيها بقوة لا يسمح المقام بالوقوف عندها والتفصيل فيها، ناهيك عن الزخم الذي راكمه التراث الشعري في الجاهلية وفي صدر الدولة الإسلامية.
 

كما أن المجتمعات الإنسانية قد عرفت منذ فترات متقدمة من تاريخها عمليات نزوح كبرى من مواطنها الأصلية إلى مواطن جديدة، وقد تحكمت في هذه السيولة البشرية عدة اعتبارات منها ما هو مرتبط بالظروف الطبيعية المتمثلة في التقلبات المناخية، ومنها ما هو مرتبط بالتدافع بين القبائل والشعوب لفرض القوة والوصول إلى الحكم، ومنها ما هو مرتبط بمخلفات عمليات الانتقال الحضاري الكونية، وقد تمت عمليات النـزوح هذه فوق ظهور العربات التي تجرها تارة الكلاب في المناطق الشمالية المتجمدة، أو تلك التي تجرها الخيول في مناطق مختلفة، ويبقى النـزوح في صحاري إفريقيا وآسيا فوق ظهور الإبل5.
 

وفي هذا الصدد يعد المغرب بموقعه الجغرافي المتميز المنفتح على واجهتين بحريتين وصحراء كبرى، وعلى قارتين (إفريقيا وأوروبا) واحداً من أبرز البلدان التي استقطبت حضارات تعاقبت على حكمه وتركت بصماتها في شتى المجالات، وقد اعتمدت في تنقلاتها اليومية على وسائل نقل اختلفت أنواعها تبعاً للحقب الزمنية التي ظهرت فيها، لكن تبقى الإبل من أهم هذه الوسائل، وذلك نظراً لما قدمته من خدمات هامة سواء في التنقلات التجارية، أو العسكرية، أو السفارية، أو الحجية... حتى أصبحت مكانتها تتقوى يوماً بعد يوم عند المجتمع المغربي عامة، والصحراوي منه خاصة، وهذه العلاقة الوطيدة هي ما دفعتنا إلى تسليط المزيد من الأضواء حول تاريخ الإبل بالمغرب وما طرحته من تضارب في الآراء بين المؤرخين والباحثين في هذا المجال حول كيفية دخولها إلى هذه الرقعة الجغرافية من المعمور؟ وفي أي فترة زمنية ظهرت؟ وبأي غرض تم إدخالها لأول مرة؟ كل هذه الإشكالات تدفعنا إلى الغوص في عوالم الإبل ببلاد المغرب من خلال مصادر ومراجع أجنبية وعربية متنوعة تناولت هذا الموضوع.


 

المغرب وإشكالية تأريخ دخول الإبل

شكل دخول الجمل إلى المغرب محط نقاش واسع منذ القدم، فقد ذكر المؤرخ الفرنسي "R.Mauny" أن الصحراء الإفريقية عرفت وجود نوع من الجمال يُعرف باسم: "Camelus Thomasi" منذ الباليوليتيك "Paléolithique" الأوسط، وأضاف: إن الجمال دخلت بلاد مصر بواسطة شعوب الهكسوس بعد سنة (1680 ق.م)؛ لأن هيرودوت تحدث عن استخدامها في الجيش من طرف المصريين بعد هذا التاريخ، ثم وُجدت بأعداد قليلة في غرب وادي النيل منذ بداية القرن الثالث ق.م6، بينما يحدد المؤرخ الفرنسي "جوتيي –Gautier-"، وقت وصول الجمل في القرن الثالث الميلادي7، في حين ذهب آخرون إلى أن هذا الدخول تم في القرن الثاني الميلادي8، وهو ما أشارت إليه الأبحاث الأركيولوجية المنجزة في المنطقة التي أكدت أن الجمل كان حاضراً في الرسوم الصخرية التي أنتجتها القبائل الأمازيغية (سكان الصحراء المغربية)، وذلك على الأقل حتى حدود البدايات الأولى للتواجد الروماني في المنطقة، وقد ذكرت أيضاً بعض الروايات إلى أنه في سنة (46 ق.م) قدم الملك النوميدي "جُوبا الأول" هدية قوامها اثنان وعشرون جملاً للإمبراطور الروماني "قيصر الأكبر"، وفي سنة (39 ق.م) بدأ الجمل يظهر في العملة المحلية مما يذهب معه الاعتقاد بأن هذا الأخير بدأ يحتل مكانة متميزة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والرمزي في المنطقة9.
أما مصادر ومراجع أخرى فربطت دخول الإبل بالفتح الإسلامي خلال القرن الثامن الميلادي، واعتبرت أن العرب هم السبب في نقل هذا الحيوان إلى بلاد المغرب حيث أمكنه أن يتناسل ويصبح من الدواب الأليفة في المنطقة10.

ومهما يكن من اختلاف حول تاريخ هذا الدخول فإن أغلب هذه الدراسات تربط بين شيوع استخدام الجمل وسيطرة الرومان على المنطقة، وهو ما يدفعنا إلى التأكيد على قِدم دخول هذا الحيوان، لكن معالم أهميته ستبرز بشكل كبير خلال العصر الوسيط.
 

أهمية الجمل ببلاد المغرب إبان العصر الوسيط

 نال الجمل خلال الحقبة الوسيطية (ما بين القرن الخامس والخامس عشر الميلاديين) حيزاً كبيراً من كتابات أعظم مؤرخي هذه الفترة الزمنية، والتي تعتبر من أزهى فترات تاريخ المغرب في مختلف المجالات، إذ أصبحت الإبل مكوناً أساسياً في الحياة العامة للمجموعات القبلية الصحراوية المغربية، بل وكان لها الدور الريادي في إحداث انقلابات كبرى على مستوى أنماط العيش حيث اعتُبرت معياراً للتأريخ والتحقيب لأحداث المنطقة (أي قبل دخول الإبل ثم بعد دخولها)، وقد شهدت بذلك كل المصادر العربية في العصر الوسيط على أهمية هذه الدابة، وفي هذا الصدد يقول "ابن حوقل" أثناء حديثه عن المغرب:" ... وعندهم من الجمال الكثيرة في براريهم وسكان صحاريهم التي لا تدانيها في الكثرة إبل المغرب"11.

وإذا كانت البدايات الأولى للإبل في الصحراء قد شكلت طفرة تاريخية متميزة، فإنها أسست لمفهوم متميز في المنطقة سيصبح فيما بعد مادة دسمة للمصادر التاريخية الوسيطية، إنه مفهوم البداوة من خلال الترحال وعدم الاستقرار12، الذي مكن المجموعات القبلية من اكتساح مجالات طبيعية واسعة واستغلالها وضبطها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً فيما بعد، وفي هذا الصدد وصف لنا "ابن حوقل" مشهداً دقيقاً عن قبائل صَنْهَاجَة13 قائلاً: "وفيما بين أُودغست وسِجِلْمَاسة14 غير قبيلة من قبائل البَربر مُتعزبون لم يروا قط حاضرة ولا عرفوا غير البادية العازبة... وفيهم البسالة والجرأة والفروسية على الإبل والخفة في الجري، والشدة والمعرفة بأوضاع البر وأشكاله والهداية فيه، والدلالة على مياهه بالصفة والمذاكرة، ولهم الحس الذي لا يدانيه في الدلالة إلا من قاربهم وسعى سعيهم"15.

كان لتعاطي عدد كبير من قبائل بلاد المغرب للترحال أثر كبير في تكاثر قطعان الإبل بالصحراء الواقعة بين واحات المغرب الأقصى وحوض وادي السينغال التي ظلت أهم منطقة لتربية الجمال في الصحراء الإفريقية عبر العصور، فقد تعاقبت على شغل هذا المجال جموع صَنْهاجة الجنوب المغربي وزَنَاتَة16 وعرب المَعْقَل17، وكلها قبائل اعتمدت الظعن، وكان الجمل خير معين لها على التأقلم مع هذا الوسط الطبيعي لما يمتاز به من الخصائص مقارنة مع غيره من الحيوانات.

تظل صنهاجة الجنوب المغربي أكثر هذه القبائل تعاطياً لتربية الإبل، ومرد ذلك إلى قدم عهدها في الاحتكاك بالمناطق الصحراوية، على خلاف زناتة التي ولت ظهرها لهذا المجال ابتداءً من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، وكذلك الشأن بالنسبة لذوي عُبَيْد الله وذوي مَنْصُور من عرب المعقل الذين نزحت أغلب بطونهم نحو مناطق الشمال ولم تعد حاجتهم ماسة إلى الجمل كما كان عليه الحال في الصحراء، أما ذوي حَسَّانْ منهم فلم يعجزوا عن الظعن كباقي بني عمومتهم واستمروا في التنقل بصحراء بلاد المغرب إلى جانب من بقي من بطون صنهاجة بها، فلازموا الجمل واعتنوا بتربيته لما تقتضيه الضرورة وحاجة الإنسان ببلاد الصحراء، وهذا ما يفسر وجود الجمال بأعداد وفيرة في صحراء المغرب منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا18.

وفيما يخص أعداد قطعان الإبل التي كانت متوفرة بالمغرب خلال العصر الوسيط، فاختلفت حولها المصادر، لكن أقصى عدد تم ذكره هو: (50.000)، وهو ما دَوَّنه المؤرخ المغربي ابن أبي زَرْع الفاسي في كتابه "الأنيس المُطْرب بروض القِرْطَاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"19، فوجود هذ العدد الكبير من الجِمال في مناطق واحات المغرب والصحراء الواقعة جنوبها، يؤكد على أهميتها ومكانتها المرموقة عند المغاربة، فقد وجد هذا الحيوان في هذا الوسط الطبيعي الظروف الملائمة لنموه وتكاثره بشكل جيد، فالجمل يفضل الأعشاب الشوكية لما فيها من ملوحة، كما أنه لا يوافقه إلا الماء المالح، وهذه المؤهلات متوفرة بالصحراء المغربية، وهو ما جعل قطاع تربية هذا الحيوان يعرف نشاطاً كبيراً مقارنة مع تربية غيره من الحيوانات20.

ولا شك أن انتعاش قطاع التجارة الصحراوية عبر المسالك العربية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) قد شجع سكان بلاد الصحراء على التعاطي لتربية الإبل بشكل مكثف، فقد تزايد الطلب على هذا الحيوان لأنه كان وسيلة النقل الوحيدة القادرة على إنجاح الرحلة في اتجاه بلاد السودان عبر الصحراء الكبرى، وكانت سجلماسة في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) أهم سوق لبيع الجمال ببلاد المغرب حسب شهادة "ابن بطوطة" في رحلته، وليس هناك ما ينفي أن هذه المدينة قد لعبت نفس الدور في المراحل السابقة لهذا التاريخ، بالنظر للمكانة التي كانت لها في الإشراف على التجارة الصحراوية طيلة قرون عديدة من التاريخ الوسيط، وبالنظر لتزايد طلب التجار على هذا الحيوان21.
 

مكانة الجمل خلال الحقبتين الحديثة والمعاصرة

لعبت الإبل دوراً حيوياً في المرحلتين التاريخيتين الحديثة والمعاصرة، حتى أضحت جزءاً من هوية المغاربة، ورمزاً من رموز افتخارهم بها، كما وظفوها لأغراض مختلفة، وقد ازدهرت تجارتها وخاصة منتوجاتها لما فيها من فوائد صحية وتزايد عليها الطلب من مختلف أنحاء المغرب، ويوجد حالياً بالصحراء المغربية نوعان من الجمال يحمل كل منها اسم القبيلة التي اشتهرت بتربيته، وهما الجمال الشِّبَانِيَّة نسبة للشِّبَانَات، وجمال الرْكِيبَاتْ نسبة للقبيلة التي تحمل نفس الاسم وتسمى أيضاً بالمَهاري، والاختلاف بينها في كون النوع الأول له قدرة فائقة على تحمل الأثقال رغم صغر حجمه، في حين يمتاز الثاني بضخامته وسرعته في قطع المسافات22.
 


تأسيساً على ما سبق نستخلص بأن الجمل ظل أهم وسيلة للتنقل ببلاد الصحراء المغربية عبر التاريخ، وخير معين على تأقلم الإنسان مع سبل العيش بها، لذلك اعتبر البعض أن استخدامه في ذلك الوسط القاحل في العصور الغابرة أحدث ثورة اقتصادية يمكن مقارنة نتائجها بدون مبالغة مع نتائج ما أحدثه استخدام السكك الحديدية والسيارة والطائرة في العصور الحديثة.


الهوامش
(1): القرآن الكريم، سورة الغاشية، الآية: 17. / (2): القرآن الكريم، سورة قريش، الآية: 02. / (3). القرآن الكريم، سورة النحل، الآيات: 05-06-07. / (4): نفسه، الآية: 80. / (5): عمر ناجيه، "الإبل في التاريخ العام لمجتمع غرب الصحراء"، الرابطة المحمدية للعلماء، وحدة علم عمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي، هذا المقال متاح على الموقع الإلكتروني: http://www.saharaomran.ma
(6): R.Mauny, «Tableau géographique de l’ouest d’après les sources écrites la tradiction et l’archéologie », Dakar, 1961, pp.287-288. / (7): Gautier, «Le passé de l’Afrique du Nord», Paris, 1964, p.182.
(8): Histoire générale de l’Afrique du Nord, Paris, 1987, p.384. 
(9): عمر ناجيه، مرجع سابق. / (10): محمد زنيبر، "المغرب في العصر الوسيط: الدولة – المدينة - الاقتصاد"، تنسيق: محمد المغراوي، ط.1، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية –الرباط-، سلسلة بحوث ودراسات رقم: 24، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999، ص. 398. / (11): ابن حوقل، "صورة الأرض"، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1979، ص. 95.
(12): V.Monteil , « Essai sur le chameau au sahara occidental », centre IFAN- saint louis, du senegal, 1952.
(13): صنهاجة: هي واحدة من أكبر القبائل الأمازيغية التي لعبت دورا مهما في تاريخ المغرب الإسلامي والصحراء الكبرى، بتأسيس الجيل الأول منها دولة بني زيري، وتأسيس الجيل الثاني منها مملكة أودغست الإسلامية ودولة المرابطين. / (14): سجلماسة: هي مدينة تاريخية كانت تقع وسط واحة كبيرة جنوب الأطلس الكبير، مقابلة لمدينة الريصاني في تافيلالت الحالية، واليوم تعتبر موقعا أثريا يضم الآثار والأطلال. / (15): ابن حوقل، مصدر سابق، ص: 98. / (16): زناتة: هي قبيلة أمازيغية من شمال إفريقيا، استقرت في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، في العصور القديمة، مع صنهاجة ومَصْمُودة، وكانت طريقتهم في الحياة تعتمد على الترحال أساساً. / (17): عرب المعقل: من أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقِفَار المغرب الأقصى بقبلة تلمسان، وينتهون إلى المحيط الاطلسي من جانب الغرب، وكان دخولهم إلى المغرب مع بني هلال. / (18): الجمعية المغربية للتأليف والنشر، موسوعة معلمة المغرب، مطابع سلا، سلا، 1998، الجزء 09، مادة "الجمل": حسن حافظي علوي، ص: 3089. / (19): ابن أبي زرع الفاسي، "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، صور للطباعة والنشر، الرباط، 1970، ص. 128. / (20): الجمعية المغربية للتأليف والنشر، مرجع سابق، ص: 3090. / (21): نفسه.
(22): R.Faure, « Le Tafilalt: étude d’un secteur traditionel d’irrigation » Paris, 1969, p.102.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها