الشّعرُ بين الفن والإلهام عند العرب واليونان

عبد المنعم الفَيا


عزا الناس الشعر في أطوار حياتهم الأولى، إلى قوى غيبية فوق طاقة الإنسان تلهمه الشعر. ومن ذلك أن قدماء اليونان والعرب كانوا يعتقدون أن الشعراء يوحى إليهم. فقد كانت العرب تعتقد أن الشعر توحي به الجِّن التي تسكن وادي عبقر، وأن لكل شاعر شيطانه الذي يلهمه الشعر. وفي مرحلة متقدمة ارتبط الشعر عند العرب بالكهانة، وظل المصدران عن أصل الشعر عند العرب متلازمين حتى البعثة النبوية. وليس أدل على ذلك من أنهم لما نزل فيهم القرآن الكريم بأسلوب عربي مبين معجز، وصف الكفار منهم النبي (ص) بالشاعر والكاهن. فقال الله عز وجلّ في الرد عليهم: {إنّه لقولُ رسولٍ كريم، وما هو بقولِ شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون، ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكَّرون، تنزيلٌ من ربِّ العالمين} [سورة الحاقة، 40-43].


وأما قدماء اليونان فقد كانوا يعتقدون هم أيضاً في وجود قوى غيبية خفية تلهم الشعراء، وهي عندهم ربّات الشعر التي توحي إلى الشعراء قصيدهم بأمر الآلهة. وكان ديونزيوس إله الغريزة الطبيعية، إلهاً للشعر، وفي مرحلة متقدمة من مراحل العقل اليوناني جعلوا أبولو إله الجمال، هو إله الشعر عندهم.

في محاورة (أيون) لأفلاطون يطرح سقراط السؤال التالي: هل الشعر فن وصنعة يؤديها الشاعر بمحض اختياره وبدافع من موهبته الفردية، أم وحي وإلهام من الآلهة؟

وخلص سقراط في الإجابة على السؤال إلى أن الشعر وحي وإلهام، ومما جاء في إجابته: "إن شعراء القصص الشعري (الملاحم) والشعراء الغنائيين، ينظمون الشعر ليس بدافع الموهبة الفنية ولكن لأن ربات الشعر توحِي لهم به بعد أن تتقمص أرواحهم.. فالشعراء ليسوا في كامل وعيهم عندما ينظمون قصائدهم العذبة، فهم لا يفعلون ذلك إلا بعد أن يقعوا تحت تأثير الموسيقى والأوزان التي تُوحَي إليهم".

قلنا إن العرب كانت تعتقد أن الشعر توحي به الجِّن التي تسكن وادي عبقر. وقد أخذت كلمة عبقرية المنسوبة إلى واد عبقر دلالة إضافية، إذ صارت تطلق على كل ملكة خارقة يمتاز بها فرد ما يبرز في فن من الفنون أو علم من العلوم. وهذه الدلالة الإضافية هي ترجمة عربية للكلمة الإفرنجية genius "جِينْيَس".

ومن الطريف معرفة أن هذه الكلمة الإفرنجية أصلها كلمة (الجِّن) العربية. يقول معجم أكسفورد للغة الإنجليزية إن كلمة genius دخلت الإنجليزية من اللاتينية، ويقول إن أصلها في اللاتينية genni جني، والتي يشرحها بقوله: "روح قرين للإنسان أو يتخذ بعض الأماكن سكناً"، وذلك من غير أن يشير المعجم المذكور أدنى إشارة إلى الأصل العربي لكلمة (جني).

ومعروف لدى الدارسين المختصين أن كثيراً من المفردات العربية دخلت اللاتينية في العصور الوسطى عن طريق الإسبانية التي ورثت حضارة الأندلس العربية. وتجمع المراجع الإنجليزية ذات الصلة أن كلمة "جِينْيَس" بمعنى (عبقرية) لم تستقر في اللغات الأوربية إلا في القرن السادس عشر الميلادي.

والأمر الذي يدعو للتأمل هو أن حدس القدماء بنسب الشعر إلى قوى خفية لم يخب، غير أن هذه القوى الخفية كامنة على الأرجح في ذات الإنسان وليست خارجه، وهي قواه الباطنة أو ما يسمى بالعقل الباطن أو اللاّوعي واللاشعور. ومن عجائب الموافقات أن كلمة شعر في العربية مشتقة من الشعور وهو يشمل اللاشعور بالضرورة.

جاء بمعجم لسان العرب: الشعر القريض، وقائله شاعر لأنه يشعر ما لا يشعر به غيره أي يعلم. وسُمي شاعراً لفطنته. الرجل يشعر شعراً. ويقال شعرتُ لفلان أي قلتُ له شعراً. وليت شعري أي ليت عِلمي أو ليتني عَلِمتُ". انتهى.

ويذهب ابن رشيق في كتابه (العمدة في الشعر) إلى أنه "إنما سميّ الشاعر شاعراً، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير". انتهى.

إن ارتباط الجذر اللغوي لكلمة شِعر بالشعور والعِلم بالشىء، يدل على أن العرب كانوا ينظرون أيضاً إلى الشعر بوصفه نشاطاً فردياً واعياً. والشيء نفسه يقال عن اليونان، فكلمة شاعر poetes تعني حرفياً في الإغريقية صانع ومؤلف ومبدِع. لذلك إذا كان أفلاطون قد انحاز في محاورة (أيون) إلى نظرية الإلهام الشعري، نجده يعود في محاورة (الجمهورية) وينظر إلى الشاعر بوصفه صانعاً وفناناً ومبدعاً، يصدر عن إرادة فردية، فحاكمه على هذا الأساس.

ونحن نعرف أن أفلاطون أمر بطرد الشعراء من "جموريته الفاضلة" إن هم لم يتقيدوا بتوظيف الشعر في التعليم الأخلاقي، وغرس قيم الخير ونشر الفضيلة في المجتمع واحترام الآلهة والالتزام بشرائعهم.

هذا وعماد مفهوم الشعر عند أفلاطون نظرية المحاكاة. فالشاعر في نظره مقلد أو محاك للطبيعة. غير أن الطبيعة بحسب نظرية (المُثُل) الإفلاطونية ليست هي حقيقة الأشياء؛ وإنما ظلال وأشباح لحقيقة الأشياء. حقيقة الأشياء في العالم السماوي، ولذا فإن الشاعر أو الفنان في تقليده للطبيعة، كما يقول أفلاطون، لا يقلد الحقيقة وإنما يقلد ظلال الحقيقة، وبذلك فهو مشوِّه بفنه للحقيقة لا محاكياً لها.

وأما أرسطو تلميذ أفلاطون، فخالف أستاذه ورفض نظرية (المُثُل) الإفلاطونية التي ترى في الطبيعة مجرد ظلال وأشباح لحقائق الأشياء في العالم العلوي، وبحكم منهجه التجريبي في البحث القائم على الملاحظة والاستقراء، انتهى أرسطو إلى أن مظاهر الطبيعة حقائق وليست ظلالاً، أو مجرد صور وهمية للحقيقة السماوية. وبذا فإن الشاعر أو الفنان عندما يقلد الطبيعة إنما يقلد حقائق لا ظلال.

لذلك أخذ أرسطو بنظرية المحاكاة كما طرحها أستاذه أفلاطون وأغفل نظرية (المُثل)، ونظر إلى الأشياء في الواقع كحقائق في ذاتها. فهو يرى "أن الشعر نشأ عن سببين كلاهما طبيعي، فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر منذ الطفولة، والناس يجدون لذة في المحاكاة. وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ".

والشاعر بحسب نظرية المحاكاة أو التقليد عند أفلاطون والتي أخذها عنه أرسطو، لا يكتفي بتقليد ما هو كائن في الطبيعة؛ وإنما يقلد ما يحتمل أن يكون أيضاً. ففي حديثه عن الشعر القصصي أو شعر الملاحم يرى أرسطو أن "مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع، فالأشياء ممكنة: أما بحسب الاحتمال أو بحسب الضرورة".

والجدير بالملاحظة أنه لم ترد في كتاب أرسطو (فن الشعر) أي إشارة إلى نظرية أفلاطون في الوحي والإلهام، ويبدو أن أرسطو اكتفى بحسم هذه القضية باختياره كلمة (بيوطيقا) Poetica عنواناً لكتابه، والتي تعني صناعة الشعر أو فن الشعر. كأنما أراد أرسطو باختياره لهذا العنوان أن ينتصر لإرادة الإنسان الواعية في الإبداع والخلق الفني.

ونظرة أرسطو هذه إلى الشعر بوصفة صنعة، يمكن أن ينطبق على نظرة العرب أيضاً. فإذا نظرنا في تاريخ الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، نجد أن العرب برغم اعتقادهم أن الشعر توحي به الجن، إلا أنهم كأفراد كانوا يعتنون بصناعة الشعر وتجويده ولا يعولون على تلك القوى الخفية التي تهب الشعر.

وقد عرض الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) إلى هذه المسألة، وأورد الكثير من الشواهد التي تدل على أن العرب كانوا ينظرون إلى الشعر بوصفه فناً وصناعة. فيقول عن زهير بن أبي سُلمى: "وهو أحد الثلاثة المتقدمين يسمي كبار قصائده الحوليات"؛ أي أنه لا يذيع القصيدة إلا إذا مر عليها الحول. وكذلك كان يفعل الحطيئة الذي كان يقول: خير الشعر الحولي المنقح.

وينسب الجاحظ إلى أحد الشعراء الخطباء العرب قوله: إني والله ما أرسل الكلام قضيباً خشيباً، وما أريد أن أخطب إلا بالبائت المحكك. ويقول الجاحظ : كنت أظن أن قولهم محكك كلمة مولّدة حتى سمعتها في قول الشاعر الصعب بن علي الكناني.

وفي عناية الشعراء العرب بأمر الصقل والتجويد، يورد الجاحظ هذه القصة: قال بعض الشعراء لرجل: أنا أقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها كل شهر فلِمَ ذلك؟ قال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبله من شيطانك.

ومن ذلك أيضاً قصة رؤبة وابنه عقبة. قالوا: أنشد عقبة بن رؤبة، أبيه رؤبة بن العجاج شعراً وقال له: كيف تراه؟ قال: يا بني إن أباك ليعرض له مثل هذا يميناً وشمالاً فما يلتفت إليه. وقد رووا ذلك أيضاً في زهير وابنه كعب.

هذا النهج الذي اشتهر به زهير والحطيئة ورؤبة بن العجاج وغيرهم في الصقل والتجويد والتحكيك، وإعمال الفكر في القصيد، قبل نشره في الناس، هو النهج الغالب لدى العرب في قرض الشعر.

ونحن نعلم أن العرب كانت لهم أسواق للشعر يتبارون فيها وينتقدون الشعر. ومن أشهر هذه الأسواق سوق عكاظ بمكة قبل الإسلام، وكان بعض الشعراء المشهود بنبوغهم مثل النابغة الذبياني، يُتَخذون محكمين بين الشعراء. وكذلك نشأت بعد الإسلام أسواق للشعر، فكان في عهد بني أمية، سوق المِرْبد بالبصرة، وسوق الكُناسة بالكوفة.

وعندما نشطت حركة التأليف والترجمة، ووضعت المصنفات في علوم البلاغة ونقد الشعر في العصر العباسي، صاروا يستخدمون كلمة صناعة أو صنعة، وصفاً للشعر ولا يولون كثير عناية بالإلهام الذي عدوه طبعاً وموهبة فطرية. ويعد الجاحظ من أوائل النقاد الذين تبنوا هذه النظرة النقدية، وخير دليل على ذلك مقولته المشهورة بكاتبه الحيوان: "الشعر صياغة وضرب من التصوير".

✧✧✧

نخلص من كل ذلك إلى أن العرب واليونان لم ينظروا إلى الشعر بوصفه إلهاماً وحسب، سواء كان هذا الإلهام مصدره قوى روحية علوية، أو قوى باطنة كامنة في نفس الإنسان، بل نظروا إليه بوصفه فناً وصنعةً أيضاً. فالشاعر في نظرهم، مُلْهَم وفنان ومبدِع في آن معاً.


المصادر والمراجع:
1. ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر ونقده، (3ج في مجلد واحد) المكتبة العصرية، بيروت، 2001.
2. الجاحظ، البيان والتبيين، 3 أجزاء في مجلد واحد، المكتبة العصرية، لبنان، 2003.
3. أرسطو، فن الشعر، ترجمه عن اليونانية: عبد الرحمن بدوي، مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1973.
4. أفلاطون، الجمهورية، دراسة وترجمة: د. فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، 2004.
5. هوراس، فن الشعر، ترجمة ودراسة: الدكتور لويس عوض، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، الطبعة الثالثة 1988.
6. Plato, Republic, Wordsworth Classic of World Literature, 1997
7. Plato, Ion, translated by Benjamin Jowett
8. Oxford Concise English Dictionary, 1999

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها