فيرناندو بيسوا Fernando Pessoa؟!

عزلة الذات وانتفاء الآخر

د. مصطفى العطار

تعد الثقة في الطبيعة والاشتغال بالأدب والفن والخيال، الأسس التي قامت عليها الرومانسية في تمجيدها للذات الفردية وما يعتمل في خوالجها من هموم وكآبة ومن سعادة وفرح. ولم يكن هذا الانهمام بالذات في صراعها مع الوجود ليشتغل داخل نسق أخلاقي ما؛ لأن سؤال الدين في أوروبا الحديثة ظل مشرعاً على إمكانات التجاوز والإتيان بأجوبة جديدة للمعضلات الفلسفية، غير تلك المسلمات التي عملت على تكليس العقل والحد من قدراته الإبداعية. وفي هذا السياق؛ نستحضر رؤية (شلايرماخر)1. للدين الذي لم يتمسك في فهمه بالعلم ولا بأدلة العقل؛ وإنما اجترح طريقة الشعراء والفنانين في استغوار النفس البشرية، وتحليل طبيعة الحزن والألم واللامعنى الذي يشقيها، مع الإجابة عن الرؤية التي ينبغي أن يضطلع بها الدين لشفاء النفس من أسقامها2.
 

لقد حاول شلايرماخر، في خطابه إلى المتنورين، نقد النزعات المادية التي أفرغت المثقف من تلك القوة الروحية التي تربطه بالخالق، ورأت أن لا جديد يمكن أن يحمله الدين في علاقة الإنسان بالعالم؛ فاحتقرت كل منطلق مرجعي ثيولوجي، ونظرت إلى الدين بابتذال. ولترميم هذه الصورة المهتزة؛ عمل شلايرماخر على تفريغ شحنات الطاقة السماوية المتفاعلة في روحه لانتشال الإنسان من نزعة التمركز حول الذات التي تلغي وجود الآخر وتجعله مجهولا، كما تعمل على استنزاف طاقته في البحث عن المثل العليا التي تتخطى حدود الواقع؛ فتسقط في اللاجدوى والعجز عن إدراك معنى الوجود. "إن كل مواقف النائين بالدين عن مجال الطبيعة، تصل عند نقطة ذات صبغة أخلاقية جافة، فيكون من غير الممكن على الإطلاق تمكنهم من فك شيفرة الوجود، الذي سيكون الغرض النهائي منه بالنسبة إليهم غير بعيد عن خطأ كلي. المثقف المتزن هو الذي يلج أسرار ما ينخرط في النظام الكوني الأخروي، ويكشف بعينه المتقدة المنفردة لحظة انبلاج المعنى في لب الدين، فيدرك ماهية ذاته والذات الواقعة على النقيض منها"3. إنها تجربة ذاتية حدسية لا علاقة لها بالمفاهيم العقلية أو المعرفية؛ حيث إنها تتعلق بالشعور الداخلي بأن هناك قوة مطلقة أو مصدرا ممايزا عن العالم، لا طريقة توصل إليه إلا ذلك الإحساس الداخلي الذي ينبع من القلب، ولا يعترف بالتأمل الفلسفي أو المعرفة النظرية.

إن مساءلة الأدوار الروحية للمثقف، والحديث عن الاتزان والالتزام الأخلاقي تجاه الدين هو تلك الحلقة المفقودة في عزلة بيسوا عن الوجود وعن أعدائه من الأغيار. وبقلبه الفارغ يحيا حياة بلا إيمان يملأ روحه بجذوة متقدة من الحب الإلهي، من شأنها أن تصالح الذات مع المجتمع، وتحول العزلة إلى رفقة، ويغدو معها الالتفات إلى الآخر خيراً بعدما كان شراً. إن انتفاء الإيمان بالخير عند بيسوا هو إقرار بالانسحاب من الدين ومنطقه الأخلاقي. يقول: "أكره حد الغثيان والإغماء كل المخلصين وكل أنواع الإخلاص والنساك وكل أنواع النسك، أو قبل ذلك بالأحرى، إخلاصات كل المخلصين، ونسكيات كل النساك. وذلك الغثيان يغدو فيزيقيا عندي تقريباً حالما يتعلق الأمر بنساك نشطين في ساحة الفعل، يسعون إلى استمالة ذكاء الغير، وتحريك إرادة الآخرين، أو العثور على الحقيقة أو إصلاح العالم"4. هو ابتذال واضح للخير، وهو من جهة أخرى، انتصار للشر الذي يسكن بيسوا في علاقته بالعالم. لا يريد العثور على الحقيقة، ولا يرهق نفسه في إدراكها؛ لأن كل هذا المسعى عدم وعبث ولاجدوى، وقبول بالخروج من شرنقة الذات ومن برجها العاجي المشيد في المدينة الفاضلة التي هي العزلة، وهو أيضاً تلويث لهذا الصفاء المزيف الذي أدركه بتخليص الذات من أوهام الغير.

يحتاج بيسوا إلى تحرير الذات من سطوة الأنا، بالانتقال من التفكير الأنطولوجي إلى التفكير الإيتيقي الذي لا يحاكم الآخر بوصفه وحشاً يهدد الذات ويسلبها حقها في الحياة؛ وهي النزعة الأنطولوجية الاحتقارية للغير، التي هيمنت على تاريخ الفلسفة الغربية. لم يكن بيسوا ليشذ عن هذه النزعة التخويفية من الآخر، فرغب في تطويعه والتغلب عليه بإقصائه من حيز الوجود والانتصار للذات في صراعها الهوياتي مع الغير؛ مما زاد من عزلتها وفردانيتها، بدل ما ينبغي أن تتحلى به من التزام أخلاقي للدفاع عن الغير بوصفه جزءاً من الكينونة. نستحضر، ههنا، إيمانويل ليفيناس5Levinas.E في فلسفته الأخلاقية التي تقوم على مقولة الوجه بوصفها ترتبط بالآخر؛ إذ يكون الوجه وجهاً للآخر الذي يتفاعل معه ضمن علاقة حوارية تعترف به إنساناً لا ذئباً. ألم يقل توماس هوبز HobbesT (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) وسايره سارتر Sartre.J.P في اعتبار الآخر هو الجحيم.

التهذيب الأخلاقي لذئبية الإنسان هذه وجد تفسيره في مفهوم المواجهة أو التواجه؛ فعندما يكون وجه الآخر هو وجهي، فذلك يفرض علي التزاماً أخلاقياً بضرورة الحفاظ عليه. الحرية كامنة في هذه المواجهة الإيتيقية بين الأنا والهو. لكننا نجد بيسوا غير قادر على الوفاء بهذا الالتزام؛ "ماذا يهمني أن أعرف عن الشمس أو المطر، عن الجسد أو الروح، أنا الذي كذلك سأمضي؟ لا شيء، ما عدا الأمل في أن يكون الكل لا شيء. وإذن، كل شيء هو لا شيء"6. لا شيئية الكون هي أشبه بجحيمية الآخر وذئبية الإنسان؛ في حين ينبغي أن يكون وجه الكل هو شرط إثبات الأنا عبر الحوار لا الإقصاء، وبإعلان الحياة لا التهديد بالموت، وبهجران الذات والولاء للآخر. فالطريق الوحيد إلى الله، وفق ليفانيس، هو الآخر الذي يعيش تحت مسؤوليتنا، وقداسة الوجه الإنساني ترجمة للتجلي الإلهي في الحسي.

لكن الرؤية الانهزامية لبيسوا تجعله مستسلماً، يتنازل عن أشيائه كلها ويرضى فقط بما يصنعه الحظ أو الصدفة، متخلياً عن كينونته؛ "كائناً ما أكون، أتخلى عما أكون، أتخلى للإله أو الآلهة الموجودين، عما أنا إياه، راضياً بما يقسمه الحظ وما تصنعه المصادفة، وفياً لتعهد منسي"7. فقدان الإرادة هو فقدان للصبر، والتخلية بلا تحلية تقود للمأساة واليأس؛ فقد تخلى بيسوا عن أناه، ولكنه لم يتحل بما يمكنه من استردادها؛ فكان أن سقط في غياهب اللاطمأنينة والإفراط في القلق اللامعقول من حياة طلب منها القليل فرفضت منحه هذا الفتات.

لم يكن لبيسوا معلم ينير له الطريق إلى الأحلام المتحققة، ولم تكن لديه أثينا إلهة الحرب والزراعة لتلقنه كيف يؤتى الحكمة، كما لم يكن لديه (أبولو) إله الشمس والوباء والشفاء ليعلمه الموسيقى والرماية. أما المسيح المخلص؛ فلم يمت لأجله، وإن مات نيابة عن جميع البشر. لقد كان تائهاً بلا دليل، فانزوى يحصي خيباته بهذا الفراغ الذي خلفه غياب المعلم. ومن ثم؛ لم تسعف الميثولوجيا الإغريقية بيسوا، ولم يقدم ولاءه لعقيدة بوذا، ولم يؤمن بفكرة الخلاص المسيحية؛ مما تعاظمت معه نزعة اللاطمأنينة وذم الحياة، مستيقناً أن ليس ثمة مهرب من الزمن، وأن الوجود يصبح نفسه هو ذاك الحلم الذي يفرط فيه بالتأمل والتخييل، حتى يصبح اللاوجود هو عين الوجود في تعبير فانتازي يتسم بالغرابة. يقول في (على مقعد مولييرا): "الواقع، لأنني ربما أفكر زيادة على اللزوم أو أحلم زيادة على اللزوم، لا أفرق بين الواقع الموجود أو الحلم الذي هو الواقع غير الموجود؛ وهكذا أقحم في تأملاتي عن السماء والأرض أشياء لا تسطع من شمس ولا توطأ بأقدام- أعاجيب منفلتة من التخيل"8.

يشكك بيسوا في كل شيء حتى في الله الذي لا يجزم يقيناً بأنه خالق هذه العوالم التي يراها وقد تبدلت صورتها، وأصبح الكون ميتاً بلا معنى؛ فكان التفكير والإحساس في ظل هذا الواقع المأساوي خارج حدود المنطق. وقد كان اللاتفكير هو القائد نحو الانحدار إلى عوالم السواد والاندحار إلى حيث الخواء. مدح الخواء هو اعتراف باللامعنى، وانعكاس للنفس المشروخة التي اتخذت لها أنداداً أو أشباه أنداد؛ هو مسار معوج إلى اللاكون حيث يقبع الهباء الذي يجعل من الإنسان غير قابل للتجسد. والنور الذي ينبجس من باطن هذا الهباء ليضيء الكون بومضة خاطفة ليس سوى سواد لم يستطع الكشف عن السماء التي يقبع العالم تحتها.

رحلة الوجود تمضي متنقلة بين العوالم، تقودها لذة الخطيئة، وتتلون فيها الذوات بألوان من التجسد والتشكل، حيث كل شيء لعب طفولي تختلط فيه الأشياء وتفقد منطقيتها، وحيث السلام ليس إلا رغبة مكبوتة غير قابلة للتحقق؛ إذ يكفي العيش بالقليل منها والاكتفاء بنشدان السلام الذي هو جزء من الحلم الكبير الرابض خارج أشراط الواقع. بتأبيد الصراع بين الذات والوجود، يكون بيسوا في بحث عن الحياة دون أن يجد ريحها؛ لأنها تخلت عن الشرط الروحي لتحققها ولم تعد تصلح لشيء، وسعت إلى اللاهوت بدون إله وخارج وثوقية الإيمان الكنسي، وصوفية بدون روح، تلك التي دانت لنيتشه بفكرة موت الإله.


الهوامش:
1. فريديريك شلايرماخر: فيلسوف مثالي ألماني، مهتم باللاهوت والهيرمينوطيقا، ولد سنة 1768، وتوفي ببرلين سنة 1834. / 2. لمزيد من التفصيل عن رؤية شلايرماخر للدين؛ انظر: شلايرماخر فريديريك، عن الدين، خطابات لمحتقريه من المثقفين، ترجمة أسامة الشحماني، مراجعة وتقديم عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 2017. وانظر أيضاً: عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، الطبعة الثانية 2019، ص: 286. / 3. شلايرماخر فريديريك: عن الدين، خطابات لمحتقريه من المثقفين، ص: 33. / 4. بيسوا: كتاب اللاطمأنينة، ترجمة المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2016، ص: 263-264. / 5. إيمانويل ليفيناسن: فيلسوف يهودي لتواني الأصل فرنسي الجنسية، ولد سنة 1906، وتوفي سنة 1995، صاحب كتاب: (إيتيقا الغيرية). في مؤلفه (الكلية واللاتناهي) اعتبر أن حضور وجه الآخر ليس بالضرورة قائماً على العلاقة الصراعية؛ بل على العكس من ذلك هي علاقة قبول واعتراف، منتقداً نزعة الانطواء والأنانية التي سقط فيها الكائن الإنساني بإلغائه للغيرية. لمزيد من الاطلاع: راجع مؤلفات ليفيناس، وانظر أيضاً، رشيد بوطيب (نقد الحرية، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس)، بيروت، منشورات ضفاف، الجزائر منشورات الاختلاف الجزائرية، 2018. / 6. بيسوا: كتاب اللاطمأنينة، ص: 215. / 7. بيسوا: اللاطمأنينة، ص: 99. / 8. بيسوا: كتاب اللاطمأنينة، ص: 204.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها