الرؤية الفلسفية وتعبيرات الوجه في السينما الرومانسية

فيلم "عن العشق والهوى" نموذجاً

طارق إبراهيم حسان


مع التطور الملحوظ في السينما الحديثة، سواء على مستوى البناء، أو التركيز على النواحي الجمالية، أو اللعب على الحبكة والنهاية؛ استطاعت السينما أيضاً أن تطرح قصصًا رومانسيةً تتجاوز القصص العادية المليئة بالصراعات من أجل لم شمل الحبيبين، إلى تصوير علاقات المحبين من خلال تجاوز السمات التقليدية لمثل هذه القصص، بطرح أسئلة فلسفية عن الحب والمصير الإنساني المتعلق بتلك العلاقات، من ناحية، ومن ناحية أخرى الاعتماد بشكل كبير على تعابير الوجه والعينين، على أساس نظريات فنية ونفسية تقول بأن ما يشعر به القلب لا بُد يظهر على الجسد من خلال الوجه، وأن كل ما تشعر به النفس يترجمه الوجه، ويقول الفنان لافاتير "الصورة هي الحقيقة التي ليست بحاجة إلى أي برهان". إن الأشياء تتكلم عن نفسها بنفسها، إنها مظهر ومحتوى جسم وروح، إنها مركبة من قواعد وإشارات مرئية تعبر عن أغراض غير مرئية، إنها لغة المادة والفكر، إنها إشارة تربط بين الداخل والخارج1.
 

لذلك اعتمدت بعض الأفلام على إبراز حركة الوجه ولغة العيون. وإذا أخذنا فيلم "عن العشق والهوى" من إخراج كاملة أبو ذكري وتأليف تامر حبيب نموذجًا لهذا الطرح، سنجد أنه ارتكز على رصد المشاعر الإنسانية وأثر الفقد على الشخصيات، من خلال لغة العيون وتعبيرات الوجه، ويبدو ذلك من المشهد الأول الذي يجمع منى زكي وأحمد السقا، حيث تكشف نظرات الحب المتبادلة بينهما عن قدر ما يربط بينهما من حب وهُيام، خاصة منى زكي التي استطاعت بلغة الجسد وتعبيرات الوجه أن ترسل العديد من الإشارات الدالة على شدة الوجد، حتى إن التتر يبدأ وهما في سيارته الشبابية المكشوفة، وعلى وجهيهما ابتسامات ونظرات تفيض ولهاً.

كما أن الفيلم الذي عُرض عام 2006، ويدور حول عمر (أحمد السقا) الذي يرتبط بقصة حب مع عالية (منى زكي)، وتبعّد الأيام بينهما، إذ إن العلاقة لم تستمر بينهما بسبب أختها فاطمة. يتزوج عمر من قِسمت، وتهتم عالية بحبها للغناء وسعيها لإصدار ألبومها الغنائي الأول، فيما يطاردها جارها أشرف (مجدي كامل) بحبه لها، لكنها ترفضه تماماً بسبب إدمانه وتعاطيه للمخدرات. يتعرف عمر على سلمى (منة شلبي) ويقع في حبها، ويكون في مأزق بين قسمت التي تحبه وسلمى التي يحبها، فيختار في النهاية سلمى ويعلن زواجه منها. ويلتقي بالصدفة عالية التي أحبها في أول حياته، لكن قلبه قد غَفَلها وأصبح متعلقاً بسلمى.

تستمر الأحداث حول الشخصيات الرئيسة طارحة رؤية فلسفية مفادها أن الإنسان قد لا يستطيع مبادلة الآخر نفس المشاعر رغم ما يبذله هذا الآخر لإسعاده، بالتالي فإن كل شخصية بالفيلم تمثل محوراً خاصاً تدور حوله علاقات وجدانية، إما بمن يحبه أو العكس؛ إذ لا تخضع الشخصيات لمبادلة الآخر نفس المشاعر، بل تخضع لإحساسها القوي تجاه حبيب آخر قد لا يشعر بها أساساً، وهو ما يجعل الشخصيات معذبة، بسبب ضياع المحبوب وفقدانه، أو بسبب الحظ العاثر لعدم مبادلته نفس المشاعر، لذلك نجد شخصيات الفيلم كثيراً ما تندفع إلى البكاء.

 

دلالات الصورة الشخصية

اتكأت المخرجة على لغة الصورة للتعبير عن حالات معينة للحبيبين، فالسيارة التي تسير بهما مسرعة تحيطها مساحات شاسعة من النباتات والحقول الخضراء لتعكس الصورة ما يحمله الحبيبان من حب وعشق وأمل في الغد، وفي كثير من المشاهد التي جمعتهما قبل انتهاء العلاقة كانت تحيطهما النباتات والأشجار للتدليل على الحب والأمل وصدق المشاعر. ويعتمد الفيلم بدرجة كبيرة على لغة العيون بين الشخصيات للتعبير عما يختلج الروح ويغمر النفس من فرح، وحزن، ولوعة، ودهشة، وحسرة، وسعادة... إلخ، في مختلف المواقف التي تطغى على حوار الشخصيات. فنظريات العلم الحديث تؤكد على وجود علاقة مباشرة بين خطوط وتعابير الوجه وبين المزاج والسمة، وأن ميدان الصورة الشخصية هو ميدان الفكر البصري واللغة التشكيلية. ولا يمكن للكلمة أن تحل محل الصورة للتعريف بما تحمله أعماق أبطال القصص، حيث لا يمكن عزل الروح عن الجسد ولا التركيب العضوي عن التركيب النفسي، فمن خلال الوجه يقوم الإنسان بالتعبير عن القيم الأساسية للروح والنفس. لهذا نجد أن الوجه الواحد يتغير حسب ظروف الحياة المختلفة كالمرض والخوف والحزن والحب والفرح2.

لذلك اتسمت لغة الحوار بين الشخصيات في أغلب حوارات الفيلم بسيطرة لغة العيون، ويبدو ذلك بجلاء في النظرات المتبادلة بين عمر وعالية في بداية الفيلم، وفي نظرة مراد (طارق لطفي) في تقييمه لعالية حينما جاء ليراها في الحفل للمرة الأولى، ثم نظرته العميقة لفاطمة (غادة عبد الرازق) التي حملت كثيراً من المعاني. استطاعت كاملة أبو ذكري أن تطوع حديث العيون بين الشخصيات بطريقة مثالية تدل على ما يدور في نفوسهم من أفكار، مثل نظرة فاطمة المليئة بالأسى والحزن والندم والحسرة عندما واجهها عمر متسائلاً: (انت بتشتغلي حاجة تانية غير اللي إحنا عارفينها)، وكان هذا المشهد الذي جاء بعد أن كشف أخوه حقيقتها، على درجة كبيرة من التميز والحضور وقوة الأداء التمثيلي للشخصيتين، حيث عبر الاثنان (السقا وغادة عبد الرازق) بعيونهما وتعبيرات وجهيهما عن ما تفيض به مشاعر الدهشة، والخجل، والألم، والحسرة.

تعبيرات الوجه ولغة العيون

اعتمدت المخرجة في كثير من المشاهد على تعابير الوجه ولغة العيون بين الشخصيات الرئيسة استكمالا للحوار الشفهي، حيث يصبح التعبير بالوجه ونظرة العين أبلغ من الكلمة المنطوقة، وهو ما أكدت عليه المقولات الفلسفية ونظريات علم النفس ونظريات الرسم الفني خاصة مجال رسم الصورة. فمنذ القرن السابع عشر درس الفنان التشكيلي مبدأ الانعكاس، واعتبر أن الوجه آلات تصوير للنفس والروح، وتعابير الوجه هي مؤشر للقلب الذي هو مركز الوجد والعواطف المختلفة. وهو ما يؤكد قول "ديكارت" إن الأهمية ليست للقلب بل لانعكاساته على الوجه. منذ ذاك الوقت اعتبر كل شكل وكل أثر يظهر على الوجه هو عبارة عن دلالة، فظهور الإشارات والتعابير سابق على ظهور الكلام3.

إن الوجه يتأثر بالأحداث، ويأخذ أمام الصعاب تعابير مختلفة، تختلف باختلاف العوائق، فرأس الأنف يصبح دقيقاً ومندفعاً إلى الأمام بحسب النظريات الفنية، ولذلك نرى سلمى في أحد المشاهد بعد أن علمت بحملها وقد صارحت عمر به، لكنها تخشى مصيرها الذي ستحدده الأيام المقبلة، فرصدت الكاميرا أنفها دقيقاً ونافراً إلى الأمام للتدليل على ما تمر به من قلق وخوف. الأمر نفسه حدث مع أحمد السقا في أحد المشاهد بعد أن علم بالأمر نفسه ولا يعرف كيف سيواجه قِسمت زوجته الأولى، وفي الحالتين فإن الشخصيتين تمران بمأزق، هي تنتظر منه رد فعل معين بأن يعلن زواجهما، وهو يمر بظرف خاص لم يتوقعه، وعليه أن يأخذ قرارًا حاسمًا.

التعبير عن فحوى الحدث ودلالته كان مهمة مدير التصوير سامح فاروق الذي أجاد اختيار أماكن الكاميرا وزوايا التصوير، فقد تداخل ذلك أيضاً مع تعبير الوجه والعين، فنحن نلمح ببساطة المعنى الذي يدور في رأس عالية بعد انطلاق سيارة عمر من أمام بيتها للمرة الأخيرة، وهو ما جعلها تنظر إلى أعلى باتجاه شقة فاطمة، وكأنها تشعر بالأمر وتتساءل في نفسها عما حدث، أيضًا المشهد الذي عاينته الكاميرا من أعلى لحظة وصول سيارة عالية لتكتشف خيانة أشرف الذي جاء مسرعًا من بيت أم صديقه ليمتطي دراجته النارية، لكنه تفاجأ بوجود عالية في مواجهته.

كذلك التفاتة السقا إلى عالية التي فوجئ بوجودها تغني، بينما كان يجلس مع سلمى، فكانت دِقة التوزيع داخل الكادر وفي عمق المجال، من حيث اختيار المكان الذي يجلس فيه عمر، ومكان عالية خلف البيانو، ورصد الكاميرا للمكان ككل، بينما تنساب موسيقى رومانسية وكلمات رقيقة تنعكس على الموقف أو الحدث برمته، وهو ما أوجده هشام نزيه الذي وضع الموسيقى التصويرية طوال زمن الفيلم، فقد حرص على أن تكون موسيقاه عذبة، ناعمة، تتضافر مع الأحداث لتبرزها بالصورة التي أرادتها المخرجة، فهي مواقف رومانسية تخاطب الوجدان في المقام الأول.

تجاوز الثنائيات المستهلكة

لم يعبأ الفيلم بالفوارق الطبقية الكبيرة بين الشخصيات، فالقصة تتجاوز ذلك إلى رؤية فلسفية مختلفة، لا تتوقف عند الثنائيات المستهلكة أو الأسباب المألوفة التي تتكسر على عتبتها كثير من قصص الحب. لذلك لم يتوقف الفيلم عند الفارق بين فيلا عمر الفاخرة في الحي الهادئ وشقة الأختين في الحارة الضيقة، أو عمل مجدي حسنين (خالد صالح) كصاحب شركة لإنتاج الكاسيت وبين فاطمة وحالتها البائسة، ولا حتى بين عالية كفنانة تسعى إلى إثبات وجودها وبين أشرف المدمن... إلخ. فالفيلم غير معني إلا بفلسفة الحب وتبادل المشاعر في ظل الإحساس بحبيب آخر. ويأتي عزف عالية على البيانو في مختلف المشاهد بإحساس عالٍ لتوصيل المعنى بحالة الحب التي تعيشها.

فيلم "عن العشق والهوى" بمثابة قصيدة راقية عن الرومانسية والألفة وتقدير الآخر المحب حتى إن لم نبادله المشاعر نفسها، وتأتي الأحداث من خلال طرح سؤال فلسفي عن عدم مبادلة الآخر لنفس المشاعر بسبب الارتباط بحب آخر. ركزت المخرجة على وجود موسيقى رومانسية تفرض وجودها شجنًا وشوقًا وتعاطفًا مع كل الشخصيات، فهي شخصيات تحاول أن تعيش حياتها مع من تحب، رغم التضحية والتغاضي لمواصلة حياة هي أصلاً غير قانعة بها.

 


المراجع: 1. لويس جاكوب، الوسيط السينمائي، ت: أبية حمزاوي (دمشق: المؤسسة العامة للسينما، سنة 2006م.2. دكتورة أحلام يحيى فكري، التعبير عن الوجه الإنساني في التصوير المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013.3. المرجع السابق.
 
 يمكنك مشاهدة الفيلم كاملاً على منصة نيتفلكس Netflix

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها