استحالة العيش المشترك بين القاتل والضحية

قراءة في مسرحية الاغتصاب لسعد الله ونوس

د. أدهم مسعود القاق


كشَف سعد الله ونوس في مسرحية الاغتصاب* عن الصراع الحضاري بين الشعب الفلسطينيّ وإسرائيل، وجسّد أحداثه عن طريق شخصيات فاعلة ومعبّرة عن رؤاها بلغة خطاب تتناسب مع المبنى الحكائي للنصّ؛ وقدّمت أفعالًا دراميّة بتوتر متصاعد، كما اهتمّ بالمضمون، فقام بتفكيك مشكلة المسرح والواقع المزدوجة.
عبّر ونوس في سبعينيات القرن المنصرم عن انكسار حلمه، مصرّحاً بتبدّد أحلامه وتذوّقه المرارة مع كلّ مساء؛ إذ قال: "ينتهي تصفيق الختام، ثم يخرج الناس، كما يخرجون من أيّ عرض مسرحي، يتهامسون أو يضحكون أو يمتدحون، ثمّ ماذا؟ لا شيء آخر. أبداً لا شىء.. لا الصالة انفجرت في مظاهرة، ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح، ينوون أن يفعلوا شيئاً عندما يلفظهم الباب إلى الشارع، حيث تعشّش الهزيمة وتتوالد الكلمة كلمة، والمسرح مسرح، وأن الكلمة ليست فعلًا، كما أن المسرح ليس بؤرة انتفاضة" ليتوقّف ونوس، نحو 13 سنة عن الكتابة، إلى أن نشر 1989م نصّ الاغتصاب، معالجاً موضوع الصراع العربيّ الصهيونيّ في الداخل الإسرائيليّ، فأبرز حقائق تتعلّق بدمويّة الصهاينة، ووطنيّة الفلسطينيين موضّحاً ظاهرة القهر والتعذيب بحقّ الفلسطينيين في أثناء مواجهة أجهزة القمع الإسرائيليّة.


بنية النص مفتوحة لسياقات التحولات والاحتمالات في سيرورة تاريخ هذا الصراع الداميّ، "هذا يرتّب على المخرج بحثاً إبداعيّاً، لا في التكوين الفني للعرض فحسب، بل في التاريخ وسيرورته أيضاً؛ إذ إنّ الوعيّ التاريخيّ هنا يضاهي الإبداع الفنّي أو هو شرط جوهريّ له" على ما ذكره في عتبات نصّه، وقد رجّح هذا النصّ بقاء الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ مفتوحاً، ومن ثّمَّ لزوم الاستمرار في المقاومة الوطنيّة لمواجهة الاحتلال بقوة الحياة الحقّة.
يستهلّ ونوس النصّ بـترتيلة الافتتاح الكاشفة عن أثر التوراة في قناعات الصهاينة لقتل العرب وتدميرهم: "لا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعاً. بقراً وغنماً جملًا وحمارًا" ثمّ يُقسمه إلى قسمين: سفر الأحزان اليوميّة، ويضمّ خمسة مقاطع موزعة على مدى زمن الحكاية المقتطعة من يوميات أسرة فلسطينية في مواجهة جهاز أمن إسرائيليّ، وأسرة صهيونية أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت 1987م.

تقع أحداث المسرحية في فضائين مختلفين، الفلسطينيّ حيث الفارعة ودلال والأسى الفلسطيني ومداهمات الأمن الإسرائيلي بيوت الفلسطينيين، واعتقال شبابهم واغتصاب نسائهم، ثمّ تنهي الفارعة حكايتها لحفيدها بعبارة مأخوذة من قصة البيت لزكريا تامر: "الفلسطيني لا بيت له، والخيام والبيوت التي يحيا فيها، ليست بيت الفلسطينيّ. بيت الفلسطيني فيه عدوّ الفلسطيني. من هو عدوّ الفلسطينيّ"؟ ص: 21، وعن طريق مقاطع تمثيلية يظهر ونوس وحشية جهاز الإسرائيلي مع الفلسطينيين، الذين لم ينسجموا مع المشروع الصهيوني، حتى تعلن دلال المغتصبة: "الأرض لا تتسع لنا ولهم. إما نحن وإمّا هم" ص: 58، إلى أن تصاب الفارعة في مظاهرة، فتصرخ: "تجار... أريد ماء... رنين... رصاص ورنين... إما نحن وإما..." ص: 68، ثمّ تغيب عن الوعي، وحين تصحو في المستشفى تجد ابنها محمد، فتسمع أخبار دولة عربية من مذياعه، وتقول له: "لو أنهم يرسلون بدل الأناشيد بعض الدم والطحين..."ص: 91.
والقسم الثاني سفر النبوءات: يمثّله الإسرائيليون وهم: د. منوحين، وإسحق وراحيل وأمّه، والجلّاد مائير وجدعون وموشي، وينقسم إلى تسعة مقاطع، ويبلغ نحو ضعف قسم أحزان الفلسطينيين اليومية، يستهل بمشهد معالجة د. منوحين راحيل التي خسرت خطيبها في الحرب من الكآبة،، وتزوجت من رجل مخابرات إسرائيليّ مشغول كثيرا. وفي مشهد آخر تروي الأم سارة من العهد القديم لحفيدها ابن راحيل ذي الأشهر القليلة، قصة داود الجميل الذي قتل جوليات الفلسطينيّ الرهيب بحجر، وأخذ سيفه وقطع به رأسه" ص: 25، ولعلّ ونوس جسّد الاغتصاب والعجز الجنسي والموت عن طريق إسماعيل الذي قتله الإسرائيليّون، بعدما اغتصبوا زوجته أمام ناظريه، وهو مكبّل، وشخصية الضابط إسحق الذي أمسى عاجزاً جنسيّاً، بعدما كسر خصيتي الضحية بقدميّه في حفلة تعذيب قال عنها مائير:"هذه الحفلات تثير فيّ نشوة تكاد تكون دينيّة، نعم دينيّة" ص: 51، ينتقل الكاتب لعيادة الطبيب؛ إذ يخبر إسحقُ الطبيبَ كيف تمكّن من كسر خصيتي إسماعيل بقدميّه، وهو يراقب جدعون في أثناء اغتصابه دلال، فأخبره عدم إمكانية شفائه؛ لأنّه لا يستطيع أن يردّ للمرأة كرامتها وللرجل المسكين رجولته، فما كان من الضابط إلّا أن اتّهم الدكتور بالتخنّث، الذي لا يحتمل بطولة الإسرائيليين. ثم تظهر راحيل مشعّثة الهيئة بعد اغتصاب جدعون لها، وحينما تشتمُهُ، يجيبها بما يقوله رئيسهم مائير: "ليس هناك تعذيب فعّال مثل كسر الخصيتين أو مباعدة فخذي المرأة أمام زوجها"ص: 72، مشيراً إلى عمليات الاغتصاب للفلسطينيات، ثمّ تطرده راحيل صارخة:
"وحوش وحوش"، إلى أن يكتشف إسحق مقدار الإجرام بحق الفلسطينيين، فيكتم ندمه وشفقته، وتصف راحيل أمّه بمرضعة الذئاب الضاريّة في بريّة هجرها الله تقزّزًا، إلى أن تهاجر راحيل، ويُقتل إسحق بتواطؤ بين المخابرات وأمه بنفس الطريقة التي قتلت أباه فيها.
وفي سفر الخاتمة: "حوار محتمل بين الدكتور إبراهام وسعد الله ونوس"، يذكران فيه السجون العربيّة المليئة بالمعتقلين الأحرار، ويعلن ونوس أن أنظمة القمع العربيّة متواءمة مع الصهيونية، وهي امتداد لها، ثم يقاد الدكتور بقميص المجانين.
يسأل الدكتورُ ونوسًا: "وأنت.. ماذا ينتظرك؟ يجيبه: "عداوة الصهاينة الإسرائيليين والصهاينة العرب" ص:،108 يتفقان على ضرورة الشفقة على النزاهة لدى الشرفاء من الجانبين؛ لأنّ الخلاص يحتاج إلى نضال صعب.

أعاد ونوس بناء نصّ القصّة المزدوجة للدكتور بالمي لباييخو التي أصدرها 1968م، متقاطعاً معه في أحداث صدام المقاومة مع الاستبداد والجريمة والاعتقال والاغتصاب مانحاً نصّ الاغتصاب فضاءً مختلفًا، موظّفًا المجاز والاستعارة المستمدة من يوميات الفلسطينيّ في الانتفاضة الأولى، ومن أسفار العهد القديم المفعمة بالكراهيّة للآخر والاستعداد لإلغائه من الوجود.
انفتحت بنية نص ونوس لسياقات تحول الأحداث التاريخية، ولم يغلقه على حدود الزمكان، بل استوعب نصوصاً دوّنت منذ آلاف السنين، ما تزال محفوظة بذاكرة الإسرائيليين.
هذا النصّ مثالٌ للمثاقفة، فتوصيف جرائم محتلٍّ بغيضٍ يمارس كراهيته على أهل وطن يتألمون من دون أيّ رادع خلقيّ أو إنسانيّ، فاق ما مارسته الديكتاتوريّة الإسبانيّة بحقّ شعبها، وفق نصّ باييخو، فالإسرائيليون يقتلون ويغتصبون ويستدعون نصوصاً؛ لتسويغ إجرامهم، الذي لا بدّ أن يطالهم في نهاية الأمر على ما جرى في قتل إسحق، كما قُتل أبوه من قبلُ، واغتصاب زوجته راحيل وإيداع د. منوحين في مشفى الأمراض العقليّة. وفي الوقت نفسه نسمع صوت الفلسطينيّ الضحيّة القادر على الحياة المشتركة في دولة تتسع للشعبين، وهو صدى لشخصية ونوس الذي يقابل د. منوحين غير الفاعلين في زمن سلطات الأنظمة العربيّة المتصهينة.

وهكذا بنى ونوس نصّه على أساس من التقابل بين صراع الفسطينيين وإسرائيل، مقدّماً شخصية الأم الصهيونية حافظة نصوص التوراة، متماهيّة مع مائير الضابط المجرم، الشريكة في قتل زوجها لأنّه رأف بالفلسطينيين، وطلبت من مائير قتل ابنها لأنّه شعر بالذنب تجاه مساهمته في تعذيب الفلسطينيين، بالمقابل فالأمّ العربيّة واسمها الفارعة تتماهى مع الانتفاضة المتوالدة لاستعادة الوطن، استشهد زوجاها، وهي تربّي حفيدها على حبّ الوطن، وتزرع الإرادة في نفوس الشباب.
 


سعد الله ونوس: الاغتصاب (دار الآداب: بيروت، ط1، 1990م).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها