لا أخضع للشكلية.. وأسعى للإبداعية

حـوار مع الفنان وليد شيت

حاوره: خضير الزيدي


منذ ستينيات القرن المنصرم إلى يومنا هذا والفنان وليد شيت محل اهتمام الفنانين والنقاد معاً، وقد امتازت تجربته بطابع الاختلاف، وحقق في معارضِه الأولى اهتماماً بالغاً بما يقدمه من فن يحاكي الواقع ويثير أسئلة الحياة اليومية.. ويبقى الملفت أمام انظار الآخرين ريادته في التجريب من حيث المواد المختلفة وطابع الرؤية التي يقدمها، سواء عبر فن الرسم أو الفن المفاهيمي.. في هذا الحوار ما يؤكد توجهاته ويعيد للقارئ أهمية جيله الستيني.



⊙ بعد كل هذه التّجرِبة والعطاء الفني هل تؤمن بالمجايلة ومفهوم الجيل الفني؟

المجايلة هي ظاهرة وفنانوها عاصروا بعضهم بحكم الزمالة والفترة الزمنية، ومما شجع على تأسيس الجماعات الفنية رغم أن كلاً منهم له اتجاهه وتفكيره ورؤيته؛ لكنها عملية تسهل إقامة معارض جماعية بسرعة، وبالتالي كعملية حضور للمجتمع وللمشاهد، وليس بالضرورة أن يجمعهم شيء مشترك كمنهج فني موحد أو رؤية جماعية مشتركة... كون العمل الفني هو (عمل فردي) في كل الأحوال. يبقى الفنان له خصوصيته الفردية حتى من خلال انتمائه إلى مجموعة أو جيل، فالجيل لا يعني التوحد فكرياً أو اتجاهاً فلسفياً جمالياً أو منهجاً تنظيرياً.. لكنه وسيلة عرض لا أكثر من هذا ولا أقل. شخصياً أؤمن بأن الفنان هو عالم شخصي فردي يمثل نفسه دائماً وأبداً.

⊙ سعى الكثير من الفنانين لإحياء فكرة الجماعة الفنية وأنت منهم، بتصورك ما الاختلاف بين جماعة وأخرى؟ وما المشروع الذي كان مهماً في حينها؟

الجماعة الفنية ليست بالضرورة أن يتبنى أفرادها منهجاً واحداً أو نظرية واحدةً، بل ما يجمعها هو فكرة أدبية أكثر من كونها فلسفيةً، وعلى سبيل المثال: المجددون تجمعهم فكرة طرح أعمال غير تقليدية، بل وتبني المجيء بما هو جديد على الساحة الفنية، وكذلك الأكاديميون يجمعهم فكرة طرح أعمال واقعية أو انطباعية، يعني لها علاقة بشكل العمل الفني، وبالتالي إعطاء أهمية للشكل من خلال جماعة وليس من خلال فرد، وإعطاء أهمية للشكل أي الأشكال الواقعية وليس التجريدية.. وهكذا.

⊙ أنت من جيل أنجز لنا أعمالاً بقيت في الذاكرة، هل تعتقد أن جيلك امتداد للستينيين؟ أم هناك اختلاف في الرؤى والتطبيقات الفنية من حيث فهم العمل الفني؟

في النصف الثاني من الستينيات، وتحديداً عام 1964 كنتُ طالباً في الصف الأول في أكاديمية الفنون الجميلة، وأكثر أفراد جيل الستينيات كانوا طلبة معي، قسم منهم في المرحلة الدراسية: الثانية والثالثة والرابعة، منهم: سلمان عباس، وسالم الدباغ وعلي طالب، وهاشم سمرجي وعامر العبيدي، وليلى العطار ونعمان هادي وضياء العزاوي، الذي كان منتمياً إلى جماعة الانطباعيين على ما أعتقد، وكان طالباً في الدراسة المسائية في معهد الفنون الجميلة. وآخرون في المعهد كصلاح جياد وفيصل لعيبي، وحسن عبد علوان وعدد آخر، وفي الحقيقة أحسب أننا من جيل الستينيات أصلاً إلا أن عدداً منهم نظم نفسه في جماعات فنية، كجماعة المجددين مثلاً، وكانت من الجماعات المهمة، أما أنا وصلاح وفيصل ونعمان وبرئاسة كاظم حيدر ومبادرة منه فقد أسسنا جماعة الأكاديميين.

كما تأسست في نفس الفترة جماعة الزاوية برئاسة فائق حسن، وهذه الجماعات لها أهمية كبيرة في تاريخ الفن العراقي. وأي عمل يبقى في الذاكرة هو أمر في غاية الأهمية، والأعمال التي لا تبقى في الذاكرة هذا يعني أنها ليست لها أهمية، بل هي أعمال لم تلعب الدور المطلوب فكرياً وجمالياً. أعتقد أننا نختلف عن الآخرين بالمفهوم والإنجاز، فيما يتعلق بي شخصيّاً فما قدمته يعد إنجازاً خاصاً ومتفرداً يختلف عن كل ما جاء به الآخرون، وربما السبب يعود لدراستي في الولايات المتحدة وتبلور رؤيتي الفنية لاطلاعي على منجزات معاصرة جدّاً؛ كالفن التعبيري والمفاهيمي وما بعد الحداثة، والشيء الذي أفتخر به هو حالة التفرد الذي يختلف عن كل ما جاء به الآخرون. وهذا ما يدركه الجميع أقصد التفرد بالطرح والشكل والمضمون والأداء (التكنيك)، الذي يحسب لي كامتياز شخصي. لقد أنجز الآخرون أعمالاً تتناول التراث وتتناول التاريخ بنفس تعبيري أو تجريدي، فما جئت به هو مغاير عن طروحاتهم بسبب ما ذكرت أعلاه.

⊙ طالما ذكرت لنا دراستك في أمريكا.. ما الذي قدمته لك على أساس التقنية والتكنيك؟ ومن هم أساتذتك؟ وبمن تأثرت في أمريكا؟

لم أتعاطف مع الفن الأمريكي ولم أحبه، فهو فن فنطازي خاو من الجماليات الحقيقية، وهو فن يتبنى التظاهر بالتسلط أكثر، وخاو من المضامين الحسية والإنسانية... ولديهم تصور -بما أن أميركا دولة عظمى على الصعيدين السياسي والاقتصادي- أنه يجب علينا أن نفعل كل شيء يريدونه حتى ما هو خاو، فهم يفرضون ذلك على العالم قسراً، ولا بد للآخرين من الإصغاء لهم، فهناك أعمال كثيرة ليس لها قيمة مطلقاً؛ لأنها أعمالٌ بسيطة ساذجة.. عبارة عن مستطيلات ومربعات، أو مجرد عجينة من مادة الزيت لا قيمة لها، ويمكن أن ينجزها أي شخص.

أنا أعتبر الفن الأمريكي يلوث العين كما تلوث الموسيقى الرديئة الأذن، خاصة الأعمال الحديثة وما بعد الحداثة. لا تتميز إلا بالحجم الكبير والسعة دون حتى مبرر، مثل: أعمال نيومان، وكذلك أعمال بولوك التي في كل الأحوال لا تصلح إلا أن تكون صناعة قماش للملابس أو الستائر. وعليه لم تؤثر في ولم تستهوني. أما ما تقدمه أميركا من تقنيات فهي تقدم أفضل وأكبر حجم من الورق، كما أنها توفر أفضل مكائن الفن الطباعي، وكذلك أنواع عديدة من الجراجيب. الذي استفدت منه معرفتي بالآير برش أحد الأساتذة (الطباعيين) وهو يتمتع بإمكانية طيبة، لكني لم أتأثر بأي فنان أمريكي أو غير أميركي. فأنا أنتج ما يوحيه إلي رأسي وصدري، وكان الإعجاب بإمكانيتي كبير جدّاً من قبل أساتذتي، بل قالوا: إنه لأول مرة في تاريخ الجامعة يأتينا شخص بإمكانياتك، وأبدوا استعدادهم لمنحي الجنسية الأمريكية وعقد عمل لمدة خمس سنوات قابل للتجديد، إلا أني اعتذرت لهم، وقلت: إن بلدي بحاجة لي ولغيري من الفنانين العراقيين. وقد كان أكثر الأساتذة والطلبة يقفون خلفي عندما أرسم عملاً كي يلاحظوا كيف أبدأ العمل وكيف أنهيه.

وبالمناسبة عندما ذهبت للدراسة في أميركا لم أكن طالباً بل كنت فناناً محترفاً لي تجربتي الفنية الشخصية، وهذا ما لمسه كل الأساتذة منذ اليوم الأول، وكان ذهابي بالدرجة الأولى هو الحصول على الشهادة، لكن الجميل هو أن نيويورك وبوسطن تعج بالكلريات، وكذلك المتاحف المهمة جدّاً، مثل: البروليتان ومؤمن هايم، ومتحف الفن الحديث ومتحف بوسطن... هذا كان مفيداً جدّاً للاطلاع على مجمل الفن العالمي، كما أني أعجبت ببعض الرسامين، وأيضاً النحات سيكال من خلال معرضه الشخص.

⊙ ألا تجد أن أقطاب الجيل الستيني كانوا فنانين رسامين أكثر من منظرين؟

نعم؛ فنانو الجماعات الفنية الستينية كانوا جماعات رسم، وليسو جماعات تنظيرية في كل الأحوال. وبالمناسبة أنا أعتقد أن العمل الفني معنيٌّ بالجمال والأداء، وهو أهم من التنظير أي العمل الفني جمالياً وأداءً أولاً، ومن ثمّ التنظير ثانياً، فالتنظير بدون قيم جمالية مرئية ليس له ذلك التأثير أكثر من كونه حالاً لغوياً ربما يجتهد فيه المنظر.. التنظير وسَطه (اللغة)، والعمل الفني وسطه الجمال (المرئي والأدائي) وهما الأكثر أهمية للفنان.

⊙ ما الذي يبرر ترددك بين تجارِب معاصرة وأخرى أكاديمية؟!

انجازي لأعمال حديثة معاصرة وأخرى واقعية وليست أكاديمية نابع من قناعتي، وكوني أحب عدداً كبيراً من الاتجاهات، حتى إني أحياناً أنتج أعمالاً انطباعيةً، وهذا يعود إلى طبيعة الموضوع الذي أنجزه كما إني أحب التوازن في نتاجي، فهناك ما هو مثير كعمل حديث وآخر واقعي وآخر انطباعي، وهذا ما يساعدني لتنفيذ هذه الأعمال، في حين أن الآخرين ينجزون أعمالاً بنمط واحد وهذا ما لا يروق لي، فأنا فنان متحرك وأهوى النوعية الإبداعية ولا أخضع للشكلية، وهاجسي هو تحقيق عمل جميل بغض النظر عن الاتجاه، ووفق رؤيتي أن كل ما أنتجه ينتمي (للحقيقة) وهذا هو المهم .

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها