الحاسوب ومأساة "سان دونيه"!

هل رؤوسنا موضوعة على الطاولة؟

علي بلجراف

على غرار قانون الحالات الثلاث لصاحبه "أوغست كونت"1. يتحدث الفيلسوف الفرنسي المعاصر Michel Serres "ميشيل سير" (1930-2019) عن ثلاث تحولات أساسية خضع لها "الثنائي: حامل/ رسالة" بما هو إطار تندرج ضمنه القواعد أو الوظائف الأربع الأساسية المتمثلة في تلقي وإرسال ومعالجة وتخزين المعلومات.
وإذا كان التحول الأول الذي عرفه الثنائي المعني قد تجسد في صورة المواد المختلفة المستعملة في الكتابة كحامل، وفي الكتابة بمعناها الشامل كرسالة، والتحول الثاني في ظهور الطباعة؛ فإن التحول الثالث يتجسد في الحاسوب كأداة تكنولوجية جديدة كحامل ومختلف البرمجيات والعمليات والمعلومات التي يمكن تصريفها من خلاله كرسالة. يوظف "ميشيل سير" أسلوب الحكاية والتمثيل من خلال الانفتاح على الحكاية المأساوية للأسقف "سان دونيه" لتسليط الضوء على قيمة الحاسوب وأهميته ضمن هذا التحول في ظل الثورة الرقمية المعاصرة.
 

تجري أحداث حكاية الأسقف "سان دونيه" كما يرويها "ميشل سير" في مدينة "لوتس" الاسم القديم لمدينة "باريز"، حيث كانت توجد دوائر مغلقة من المسيحيين الأوائل. كان هؤلاء ينظمون اجتماعات سرية خوفاً من اضطهاد وبطش الإمبراطور الروماني. وكانت فيالق النظام تتولى مراقبتهم وتتبع كل حركاتهم وسكناتهم، وهو ما يجعل عقد الاجتماعات واللقاءات فيما بينهم محفوفاً بكل المخاطر. حدث أن كانوا مجتمعين في إحدى القاعات. كانت الأبواب والنوافذ موصدة عندما وقف الأسقف المنتخب حديثاً يلقي كلمته، لكن ما كان في حكم المتوقع حدث بالفعل.
لعل أحد الوشاة أو المخبرين أبلغ فيالق النظام بمكان وموقع الاجتماع السري، فاقتحمت الأبواب والنوافذ، فاجتاحت قاعة الاجتماع. سار قائد قوات المائة عبر الممر الرئيس للقاعة، إلى أن صعد فوق منصة الخطابة، استل سيفه وفصل رأس الأسقف "سان دونيه" عن جسده في رمشة عين، ليتدحرج الرأس على أرضية القاعة أمام استغراب ودهشة الملأ الحاضر، لكن معجزة غير منتظرة حدثت. مال "سان دونيه" نحو رأسه فالتقطه.

يقول ميشيل سير: "عندما كانت جدتي تحكي الحكاية، كنت أعترض متسائلاً: ولكن كيف يمكنه أن يلتقط رأسه؟! فكانت تنهرني قائلة: هذه هي المعجزة أيها الشقي! وهي على صواب، هذه هي المعجزة".

لكن؛ أيّ درسٍ يستخلصه "ميشيل سير" من هذه الحكاية بالعلاقة مع الحاسوب والتكنولوجيات الجديدة للاتصال بصفة عامة؟ أي علاقة ممكنة بين الرأس المفصول عن الجسد والحاسوب؟

يخاطب "ميشيل سير" مستعملي الحاسوب بالقول: عندما تجلسون أيها السادة على مكاتبكم أمام حواسيبكم، لا تنسوا أنكم أمام رؤوسكم، لكنها ليست فقط رؤوساً موضوعة أمامكم على الطاولة، بل إن قدراتها قد تتجاوز قدراتكم. فهي ذات قدرة كلية. توجد في هذا الحاسوب، أولا ذاكرة ضخمة، حيث إن ذاكرتكم الطبيعية لن تتمكن من مجاراتها أو منافستها بما هي قادرة على احتوائه من معلومات وصور بالملايين، ومن جهة ثانية أنتم أمام إنجازات ممثلة في مجموعة من البرمجيات تسمح بالقيام بعمليات عليا، مثل البرهنة والاستنتاج مما يصعب على كثيرين القيام بها. يقوم هذا الجهاز إذاً بوظائف الذاكرة والخيال والاستدلال. هل معنى هذا أن تحولا عميقاً طرأ على مفهوم الذات البشرية؟



الحاسوب وموضعة العمليات.. الملكات المعرفية

تعلمنا في دروس الفلسفة الكلاسيكية أن المعرفة الإنسانية مقسمة إلى ثلاث ملكات أساسية هي: الذاكرة والخيال (المخيلة) والاستدلال. وتعد هذه الملكات مكونات للمعرفة البشرية. وها هي نفس المكونات التي ينظر إليها باعتبارها الأساس الجوهري للذات المفكرة موجودة موضوعياً وخارجياً أمامنا في حواسيبنا الشخصية، هذه الأداة الكونية التي تتقن محاكاة الكائنات الحية والموجودات الأخرى في قواعد ووظائف تلقي وإرسال وتخزين ومعالجة المعلومات. ألا يعني هذا أن "رؤوسنا موضوعة على الطاولة" في صورة مشابهة للرأس المقطوع للأسقف "سان دونيه"؟ لكن هل تعتبر هذه الوضعية مبتكرة وغير مسبوقة؟

يحيلنا "ميشيل سير" على ما يسميه في كتاباته ومداخلاته المختلفة "قانون الحالات الثلاث" للثنائي حامل/ رسالة، من أجل تبين عناصر الإجابة عن السؤال الأخير. ففي لحظة اختراع الطباعة على سبيل المثال، أطلق الفيلسوف "ميشيل مونتانيه" (1533/1592) بشكل قاطع عبارة شهيرة يحفظها الجميع عن ظهر قلب إلى اليوم، مفادها "أنه يفضل رأساً بكيفية جيدة عن آخرَ مَحْشُوٍّ". إن دلت هذه العبارة على شيء فإنما تدل على أن التحول الذي يجسده ظهور الطباعة للثنائي حامل/ رسالة (التحول الثاني) قد عمل، بمعنىً ما، على تغيير الرأس البشري. ذلك، لأنه قبل المطبعة والطباعة، كان لزاماً على من يريد أن يكون مؤرخاً، مثلاً، أن يحفظ عن ظهر قلب نصوصاً مهمة في هذا المجال لمؤرخين سابقين أمثال: "تيت ليف" و"سالوست" و"تاسيت" و"توسيديد" و"هيرودوت" وغيرهم؛ لأن الولوج إلى كل هذه النصوص لم يكن متاحاً وميسراً بسبب ندرتها. أما وقد أتاحت الطباعة وفرة الكتب فإن "مونتانيه" يجد في مكتبته كل ما يحتاجه من الكتب، فمن الطبيعي إذاً أن "يكون رأسه غير ممتلئ (محشو). بهذا المعنى فإن الرأس أو الذاكرة قد تغيرت فعلاً بل و"تموضعت" أيضاً، أي صارت توجد على الرفوف في المكتبات.

لكن إذا كانت صاحبة "الإبهام الصغير"2، بطلة "ميشيل سير" المفضلة توافقه هذا الرأي، فإن "جدها" المحافظ المتزمت ينتفض معترضاً: لقد فقدنا ذاكرتنا إذاً، لقد كانت الأمور من قبل أفضل مما صارت عليه اليوم. لقد فقدنا الذاكرة3. إلا أن بطلة "ميشيل سير" تتصدى لهذا الزعم وتتولى تفنيده فما يعتبره المحافظون المتزمتون فقداناً مرتبطاً باعتمادنا على الحاسوب وعلى التكنولوجيات الجديدة للاتصال عموماً، وهو في الواقع ليس وليد اليوم. فقد حدث أن تخلصنا وتحررنا من حمل الذاكرة بمعنىً ما منذ أن حلت الكتابة محل الكلام الشفوي في الثنائي حامل/ رسالة؛ لأننا صرنا قادرين على العودة إلى المكتوب والمدون دونما حاجة لاستظهاره عن ظهر قلب. أصبح بإمكاننا التذكر عن طريق الرجوع إلى نصوص لها وجود موضوعي خارج ذواتنا. بهذا المعنى، نعم نحن فقدنا الذاكرة بل تحررنا من عبئها.

ويدل هذا من زاوية البعد المعرفي البشري، على أن موضَعة الذاكرة في حامل موضوعي خارجي، وهي مكون أساسي من مكونات المعرفة البشرية الثلاثة الأساسية، لم يبدأ مع الحاسوب، بل بدأ مع ظهور الكتابة ثم تكرس مع ظهور الطباعة. صحيح أن عملية الموضعة هي اليوم أكثر قوة ومتانة واتساعاً؛ لأنها شملت الملكتين الأخريين إلى جانب الذاكرة أي الخيال والاستدلال، لكن التحول يعود إلى مرحلة الكتابة. كما أن مفهوم الفقدان سواء تعلق الأمر بالذاكرة أو بغيرها من الأشياء والوظائف، يقابله مفهوم الكسب والربح على سلم التطور الخاص بالإنسان. كيف ذلك؟
 

جدلية.. الفقد والكسب

مما لا شك فيه أن الموقف السلبي المحافظ والمتزمت من التقنيات الجديدة عموماً، ومن التكنولوجيات الجديدة للاتصال ومن الثورة الرقمية الحالية، على الخصوص، سيغتنم فرصة تزايد استعمال هذه التكنولوجات في الأوساط الاجتماعية والعمرية المختلفة، وبصفة خاصة في أوساط الأطفال والشباب، لأخذ الكلمة من جديد والتباكي على ما يعتقد أن هذه التكنولوجيات قد سببته من خسائر للإنسان. هنا أيضاً يعود بنا "ميشيل سير" إلى التاريخ ليقف بنا على ثنائية الفقد والكسب وجدليتها التاريخية.
لا مجال للمقارنة بين ما يفقده الإنسان وما يكسبه عن طريق تطوره وارتقائه. يحلل "ميشيل سير" لفظ "الفقدان" Perte العائد إلى جذر "فقد" Perdre في اللغة الفرنسية من أجل التأكيد على الطابع الجدلي والتلازم الضروري في ثنائية الفقد والكسب. ففعل "فقد" له دلالتان الأولى هي: الخسران أو الخسارة كما في حالة خسارة لعبة أو رهان، والثانية هي: الفقدان المستمر أو المتواصل، كما في حالة "ماعون يقطر" بسبب ثقب يعتيره. واستناداً إلى هذه الدلالة الثانية يرى "ميشيل سير" أن الإنسان هو الكائن الذي لا ينفك جسده عن الفقد. وعلى هذا الدرب الطويل من الفقد والكسب انتهى الإنسان في الفترة المعاصرة إلى فقدان ملكاته المعرفية الذاتية، عندما صارت هذه الأخيرة متجسدة بين يديه في التكنولوجيات الجديدة للاتصال والإعلام، غير أن ما "يفقده" الإنسان عن طريق التطور التكنولوجي -إذا كان يفقد شيئاً فعلا- يقابله كسب لا يقدر بثمن.


الهوامش: 1. وضع مؤسس المدرسة الوضعية في علم الاجتماع الحديث "أوغست كونت" (1798/1857) قانون الحالات الثلاث، تجتاز بمقتضاه كل شعبة من شعب المعرفة البشرية ثلاث مراحل أساسية في تاريخها، هي: المرحلة أو الحالة اللاهوتية، والمرحلة أو الحالة الميتافيزيقية، لتصل في النهاية إلى المرحلة أو الحالة الوضعية، حيث يسود التفسير العلمي التجريبي للظواهر الطبيعية والإنسانية. / 2. إحالة على كتاب لميشيل سير بعنوان: Petite poucette. الذي أصدره سنة 2012، والبطلة رمز لجيل كامل يعيش تحولات عميقة غير مسبوقة. / 3. انظر: التفاصيل في كتاب «C’était mieux avant»، الذي أصدره عام 2017، حيث يحاور "ميشيل سير" المواقف التي تحن إلى الماضي باعتباره كان أفضل من الوقت الراهن، مفنداً بالوقائع والمنجزات والأرقام أطروحاتها وحججها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها