"اللقاء التشكيلي" بالشارقة

نصوص بصرية غنائية تنطلق للآفاق الكونية

د. أمل الجمل

"الشعر يمسّ العدم، فتسري فيه الحياة". تذكرت تلك المقولة الشهيرة للمفكر الفرنسي جاك بيرك وأنا أتأمل وأُعايش تجربة الفنانين السبع الكبار أثناء إبداع لوحاتهم في "اللقاء التشكيلي"، الذي نظمه وأشرف عليه الفنان والخطاط المصري د. خليفة الشيمي، بمقر النادي الثقافي العربي الذي أثبت منذ انطلاقته عام 1982 وحتى اليوم، أنه بيت للعرب، وتجسيد نموذجي للوحدة الشعبية والتمازج الثقافي.
 

اعتمد "اللقاء التشكيلي" على الارتجال، وكلمة الارتجال -المستمدة من اللاتينية- تشير إلى فعل غير متوقع ولحظي، أي إبداع فوري يحتاج إلى التدفق النقي، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أهمية الارتجال لتنمية القدرات العضوية والنفسية لدى المرء، كما ثبت أنه يرفع مستوى التفكير الإبداعي. لذلك عندما علمت بأن النادي الثقافي العربي نظم -قبل هذا اللقاء- ورشات أخرى ارتجالية للأطفال واليافعين والشباب، سعدت للغاية، لسببين؛ لأن الارتجال جزء مهم وممتع في حياة المبدع حتى وإن كان يخضع لمجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية، فالارتجال يخلق علاقةً تبادليةً مهمةً مع الخيال، فمن ناحية هو ممارسة فنية تحفز الخيال، وتؤثر بشكل حيوي على دعم الإرادة، كما أنه يتطور ويتحقق بمساعدة القوة المحفزة للخيال، ومن خلال تحديد هدف معين.

والسبب الثاني لسعادتي؛ لأن ذلك الاهتمام دليل على تفكير هؤلاء المسؤولين وعملهم على تنمية الإنسان، والاستثمار فيه، بمختلف مراحله العمرية، خصوصاً الأطفال الذين هم عماد المستقبل، وهذه الرؤية أمر يتسق تماماً مع الدعم والرعاية الكريمة التي يقدمها بسخاء صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة، الذي جعل منها عاصمة دائمة للثقافة العربية دون منافس.
 

وبشغف وتفان حاول كل فنان وفنانة من المشاركين في هذا "اللقاء التشكيلي" إنجاز عمل فني تشكيلي على مدار ساعتين من الزمان.. المؤكد أن فعل الارتجال تجربة لا يقدر عليها أي إنسان، ولا كل فنان، لكونه إنجاز عفوي مباشر يُعبر عن فكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين. مثلما تعتمد على الموهبة التلقائية الممزوجة بالصقل والخبرة الطويلة.. إنها تجربة تحتاج إلى الفطنة والألمعية؛ لأن الأمر لا يقتصر على قوة الألوان الناطقة وحيوية الحروف، فكل ذلك يذهب هباءً إن لم يسانده خيالٌ وفكرةٌ مؤثرة مغزولة بعاطفة وشغف.

 لا شك أنها تجربة يتحدى فيها الفنان ذاته قبل أي فنان آخر، إنه يختبر خلالها موهبته ومهارته كمبدع، وقدرته على الإبداع والابتكار في أي وقت وتحت أي ظرف، فالفنان مثل الشاعر والموسيقار لكي يكتمل إبداعه، فلا بد أن يختبئ في داخله شاعر أو موسيقار، فالإنسان القادر على الارتجال هو أكثر فنان يمكن أن نصف عمله بأنه: "كالشعر يَمَسّ العدم، فتسري فيه الحياة".

◄ تأويلات كونية

لكل ما سبق، ولأسباب فنية، أرى أن اللوحات المرسومة خلال هذا "اللقاء التشكيلي" كلها تُشكل نصوصاً أدبيةً أو ثقافيةً، ولعل أغلبها يتسم بجمالية خاصة إذ إنه محملٌ بالعديد من الشفرات والموروثات المحلية المفتوحة على التأويلات والتفسيرات الإنسانية والكونية. من هنا تكتسب هذه التجربة خصوصية إضافية، فإن كانت تنطلق من محليتها، لكنها تظل قادرة على أن تُعبر عن مشاعر وحالات كونية يمكن أن نعثر عليها في مناطق عدة في العالم، ففي لوحة الفنان اليمني الدكتور عمر عبد العزيز نشعر ببراعته في خلق حالة نفسية تُوحي بالشجن الممزوج بالحنين والراحة النفسية في آن واحد، وذلك من خلال لقاء البحر وقواربه بالشاطئ -بجميع مفرداته- مع مجسم للمباني المنتصبة فوق الهضاب المرتفعة -المستمدة من طرز البناء اليمني-، والتي أجد لها مثيلاً في مناطق مختلفة من أرض الكنانة، شمالها وجنوبها، كذلك يمكن العثور على ملامح منها في إيطاليا وفرنسا، وإسبانيا، ودول أمريكا اللاتينية، وكذلك الشعور المصاحب للوحة هو لمحة جوانية وجودية كونية.

إن الروائي والفنان التشكيلي د. عمر عبد العزيز في تلك اللوحة يمزج بين التعبيرية والتأثيرية الانطباعية، حيث يخلق تأثيرات انفعالية في دواخل المتلقي، من خلال الخطوط والضربات اللونيّة التي يحكمها تناسق ساحر، وكأنها حبل سري يغذي اللوحة بجمالياتها الفكرية والتكوينية، فهو قد بدأ اللوحة من اللون الأصفر لتجسيد مساحة الضوء وأبعاده وانعكاسه على الأشياء ليبرز تكوينها، ثم اهتم بالسماء التي اختصرها على شكل مثلث رأسه لأعلى مما يجعلنا نسرح بخيالنا مع الأفق، وربما ما وراءه.

كذلك، لوحة الفنانة الإماراتية د. نجاة مكي فهي عمل فني محمل بالرموز الكونية بامتياز.. إبداع يجمع بين العقبات والحواجز، بين الأمل وعدم الاستسلام، فالنوافد المستطيلة في تكرارها وتماثلها، وتناغمها تكاد توحي بالاستقرار، وكأنها شريط سينمائي يعرض لنا الحياة بكل مآسيها، بهذا الصراع بين الظلام والنور، بين اليأس والأمل، بين الضعف والقوة. لكن؛ -رغم كل العتمة المرتكزة في الثلث الأسفل من اللوحة- يبقى توظيف مكي للأزرق في علاقته مع الأحمر والأبيض -المسيطر والمليء بالنتوءات البارزة كالصحراء- ولمسات الأصفر يمنح اللوحة طاقةً إشراقيةً، يُؤكدها قرص الشمس المتوهج في منتصف اللوحة ليخلق هو الآخر توازناً جديداً، مؤكداً على الاستمرار، وكأنها كفنانة امرأة تبدأ رحلة إبداعها من المحلي مستفيدة من كافة الأنماط الجديدة والمعاصرة.

وعلى جانب آخر فإن توظيفها للون يحمل أبعاداً رمزية مفتوحةً على التأملات والتأويلات، فمثلاً اختيارها للأزرق الغامق لجسد المرأة الملتحم بالأرض به تأكيد على تفاني هذه المرأة في تحمل المسؤولية -التي تُعد نموذجاً للمرأة العربية- بروحها الموسومة بالوفاء والكرامة والعزة، فهذه المرأة - الراقدة- رغم وضعية الضعف، لكن اللون ينفي ذلك، مؤكداً على الثقة والسيطرة، وكذلك حركة الرأس المرفوعة التي تمنحنا الشعور بالمقاومة. من زاوية أخرى، تتضاعف مهارتها في توظيف اللون الأحمر بكل ما يمتلك من دلالات متناقضة، فرغم أنه يمنح اللوحة قدراً مهماً من الإشراق والبهجة وبذلك يحقق توازناً لونياً بليغاً، لكن وضعية المرأة المتشحة بالأحمر تشي بالتحذير والإنذار والتأهب، وإن كان رأسها لم يلامس الأرض أيضاً لدلالة رمزية بليغة.

أضيف إلى ما سبق، فيما يخص فكرة الكونية المنبثقة من المحلية، أن العمل الإبداعي الذي قدمه الفنان السوداني عبد القادر مبارك، الذي يتميز في أعماله بالرسم بالأكواريل وخاصة المناظر البانورامية المرئية بعين الصقر. هنا يتخلى عن توظيف الألوان المائية، ويستخدم الأكريليك، لكنه ظل يحتفظ برؤية عين الصقر. فأثناء تأملي لتجربته في خلق اللوحة تذكرت كلماته ذات يوم أن: "الرسام التشكيلي أقرب إلى الموسيقار لتشابه العناصر، ولا بد من الصبر، فالموسيقار لا بد أن يستنبط الموسيقى بدقة، والفنان التشكيلي لا بد أن يتربص بهذا اللون إلى أن يجد ضالته". وقد كنت بالفعل أقرأ على ملامح وجهه وإيماءاته الحركية بأنه كان يتربص باللون في صبر، متأجج بالشغف، بحثاً عن النغمة المفقودة.

كذلك، رغم أنه بدأ ضخ ألوانه على سطح اللوحة من الأصفر، من منطقة مرتفعة باللوحة، ورغم استخدام نفس الخامات التي استخدمها زملاؤه، لكن المبدع الكبير عبد القادر مبارك قدم عملاً مختلفاً تماماً له بصمة لا يمكن تكرارها، مثلما تفجر لوحته مشاعر كونية. إنها تنتمي للمدرسة التجريدية، يهتم من خلالها بالمساحات اللونية، ويخلق منها كتلاً بنائية تشي بالتآلف الأسري، فالبيوت في تلاحمها، والنساء في النوافذ، والأطفال والرجال في الشوارع يمنحون المتلقي شعوراً بالألفة والحميمية، والتقارب الإنساني، خصوصاً مع توزيع الإضاءة وتباين مستوياتها. ورغم أنه يعبر عن البيئة في السودان، لكني أجد له مثيلاً في مصر، وغيرها من الأحياء الشعبية في العديد من دول العالم. وصحيح أن تفاصيل المشهد تغيب لكن أثرها يبقى ماثلاً في اللون، كشيء بين الحقيقة والخيال أو الواقع والحلم. والمؤكد أن الألوان لعبت دوراً بالغ الأثر في خلق هذا الشعور، حيث نجد تركيباته اللونية قوية إلى حد التباين الصارخ، ومع ذلك نشعر بالهارموني والتوازن يلفها ويمنحها توازناً غريباً في سحره الأخاذ.

أما ما لفت نظري في تجربة الفنانة الإماراتية منى الخاجة هو: أن ضربات الفرشاة عندها قوية ممتدة، وسريعة جداً، ففي وقت بسيط استطاعت أن تُنجز عملاً إبداعياً تلعب فيه الألوان المبهجة المشرقة القوية دوراً مهماً في جذب عين المتلقي. إنها تتبع المدرسة الواقعية التعبيرية، حيث قدمت مشهداً لحديقة بها أناس يحتفلون، لكن عنصراً إضافياً لفت انتباهي، أنها لكي ترسم المنظر الطبيعي الذي اختارته انطلقت من أعلى اللوحة، مستخدمة اللون الأزرق -رمز السماء- الذي لم تبدله طوال العمل، ثم أخذت تصنع توازنات لونية أخرى كانت أثناءها تراوح بين شتى جوانب اللوحة، ثم ختمت عملها بتفاصيل على أرض الحديقة، وكأنها -تعبيرياً- تنطلق من الأفق الممتد ثم تعود لأرض الواقع، بينما على العكس منها جاءت تجربة د. نجاة مكي إذ انطلقت من أسفل اللوحة، ثم لاحقاً انطلقت للأفق بعد أن ثبتت أقدامها في أرض الواقع التجريدي، وبعد أن ظلت أغلب الوقت تراكم التفاصيل في هذا الجزء من الواقع، ورغم أنها استهلت باللون الأزرق عبر مساحة غير قليلة، لكن ما تبقى من هذا اللون لاحقاً كان قليلاً جداً؛ لأنها استخدمت أغلبه للتأسيس عليه، وبناء تراكم لوني مغاير وخلق تفاصيل مشهدية مفعمة بالمشاعر والدراما الإنسانية.

أما تجربة الفنان الفلسطيني أحمد حيلوز فتنتمي للتركيب المفاهيمي، حيث استخدم ألوان علم الإمارات الأحمر والأخضر، والأبيض والأسود، في عدد من المستطيلات المعبرة عن الثبات والتوازن، وفي مواجهتها صنع مجموعة أخرى من المستطيلات بلون واحد حيادي في دلالة رمزية عن قوة وتميز دولة الإمارات العربية المتحدة.

وعلى صعيد آخر، أعجبتني تجربة الفنان والخطاط السوداني تاج السر حسن بمهارته في تطويع الخطوط والحروف بشكل مغاير عن المعتاد، وذلك أثناء استعانته ببيت من قصيدة لبدر شاكر السياب يقول:
لك الحمد مهما استطالَ البلاءُ... ومهما استبدّ الألم

كان تاج السر حسن ماهراً في توظيفه للمونتاج الذي بدأه من اختزال البيت الشعري إلى: "لك الحمد مهما استبد البلاء" مستخدماً الخط الكوفي، لكنه لم يحتفظ بقواعده الهندسية؛ وإنما حرره وجعله مرناً متحركاً، لدرجة أن بعض تفاصيل النص كانت تتلاشى مع التشكيل اللوني المتمايز، والمبهر جدّاً في قدرته على أن يتماهى روحياً مع معنى الأبيات.

الآن، أختتم هذه الإبداعات السبع بتجربة الفنان والخطاط المصري د. خليفة الشيمي الذي انطلق من تأسيس اللوحة التشكيلية معتمداً على الجمع بين البعدين؛ الأدبي المتمثل في الحرف العربي، والبعد الجمالي والتجريدي لهذا الحرف. هنا، استعان الشيمي ببيت للمتنبي يقول فيه:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام

فحينما نتأمل الأحرف نجد الفنان المبدع قد أخفى كلمة "عيوب" تعبيراً عما يفعله الإنسان دوماً من محاولة إخفاء عيوبه، كما استخدم بعض النقاط الثلاثية بالألوان الحمراء، أو الأزرق الغامق وقدراً من اللون الأصفر ليمنح اللوحة بعض الإضاءة ولمحة من الإشراق ليعيد التوازن اللوني وتحقيق معادلة الفراغ، استناداً إلى حساسية الضوء والعتمة في تراكيب المنظور اللوني. مثلما وظف تدريجات لونية أخرى، إضافة إلى اللون البني بدرجاته، وذلك في دلالة رمزية على اختلاف معادن الناس وأنماطهم وطبائعهم. وكل ذلك كان قد سبقته مرحلة أولى، حين أخذ الشيمي يؤسس السطح بملمسه الاستثنائي في بناء تراكمي، بأن يلونه ويرسم عليه الخلفية التشكيلية للحروف، فجعلها الفنان المبدع خلفية بها مزيج من الألوان المتداخلة والبعيدة عن الشفافية اللونية والعاطفية، وتَعَمّدَ أن تتكون من درجات الأسود والرمادي المتلاشي في الأبيض الذي لم يعد أبيض خالصاً، لكن المدهش أن الألوان بدت وكأنها تتحرك بنعومة بالغة، وفي تعقيد بالغ أيضاً، ربما في دلالة إلى تعقد نفوس البشر.

وأخيراً، أتذكر الآن، الرسائل المتبادلة بين الأديب المصري نجيب محفوظ -الحائز على جائزة نوبل- إلى الأديب الكولومبي جارسيا ماركيز، فقد بدأها الأخير عندما حاولت الأيادي الآثمة للإهارب اغتيال محفوظ، فكتب إليه ماركيز، يتمنى له الشفاء، ويُحمسه على ضرورة العودة للكتابة. ثم حينما أصيب ماركيز باكتئاب أرسل إليه نجيب محفوظ رسالة يدعوه إلى مواصلة الكتابة قائلاً: "يجب ألا تنتظر أن يكون لديك شيء تكتبه حتى تُمسك بالقلم، أمسك بالقلم في جميع الأحوال واكتب".

هذا الشعور عن المقاومة وعدم الاستسلام هو ذاته الذي خلقه بداخلي "اللقاء التشكيلي" بالنادي الثقافي العربي بالشارقة ضمن برامج الأسبوع الأخير من العام المنصرم، مؤكداً على ضرورة المقاومة بالإبداع، والإصرار على أن نظل نحلم، وعلى أن نجدد الحلم دوماً.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها