مقـاربة.. في مفهوم وأنواع الذّكاء الاصطناعي

د. سعيد عبيدي

خلال منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كان يعّد مجال الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence)1 رافداً أساسياً من روافد الثورة المعرفية، فقد كان المناخ العام بين الباحثين في علوم كعلم النفس، وعلم الأعصاب، وفلسفة العقل وعلم الكمبيوتر، يقوم على الحاجة إلى تجاوز النموذج السلوكي المبسط في دراسة العقل، القائم على مجرد الربط بين المثير والاستجابة، إلى نموذج معرفي يهدف إلى دراسة الآليات الداخلية لعمل أي نظام لمعالجة المعلومات، سواء كان هذا النظام إنسانيًا أو آليًا. فالذكاء الاصطناعي يهدف في نهاية المطاف إلى بناء أنظمة تتسم بالذكاء والقدرة على التعلم، وقد لخص مجموعة من رواد هذا التخصص هدفهم في مرحلة مبكرة من تاريخ هذا العلم؛ بأنه صنع آلات يمكن أن يوصف سلوكها بالذكاء، حتى لو كان القائم بهذا السلوك إنسانًا2.
 

ويختلف علماء وباحثو الذكاء الاصطناعي في تعريفهم لهذا العلم، وهذا الاختلاف ناتج عن كون مفهوم الذكاء بصفة عامة ما زال غامضاً، لذلك فإن تعريفه يشوبه الكثير من عدم الدقة، لكن رغم اختلاف العلماء في تعريف الذكاء الاصطناعي، فقد اتفقوا نوعاً ما على أن مفهومه ينحصر في كونه أحد مجالات الدراسة التي تهتم أساساً بتصميم وبرمجة الحواسيب، لتحقيق مهام وأعمال تحتاج من البشر عادة استخدام ذكائهم للقيام بها3.
 

مفهوم الذكاء الاصطناعي

والذكاء الاصطناعي كما عرفه عبد المجيد قتيبة هو: "أحد علوم الحاسب الآلي الحديثة، التي تبحث عن أساليب متطورة لبرمجته للقيام بأعمال واستنتاجات تشابه ولو في حدود ضيقة تلك الأساليب التي تنسب لذكاء الإنسان، فهو بذلك علم يبحث أولاً في تعريف الذكاء الإنساني وتحديد أبعاده، ومن ثم محاكاة بعض خواصه، وهنا يجب توضيح أن هذا العلم لا يهدف إلى مقارنة أو تمثيل العقل البشري، الذي خلقه الله جلت قدرته وعظمته بالآلة التي هي من صنع المخلوق، بل يهدف هذا العلم الجديد إلى فهم العمليات الذهنية المعقدة التي يقوم بها العقل البشري أثناء ممارسته (التفكير)، ومن ثم ترجمة هذه العمليات الذهنية إلى ما يوازيها من عمليات محاسبية تزيد من قدرة الحاسب على حل المشاكل المعقدة"4.

ويعرفه محمود الشريف في "موسوعة مصطلحات الكمبيوتر" بقوله: "هو استخدام نظم الحاسوب الإلكترونية في عمليات لها طبيعة الحوار مع الإنسان، مثل البرامج التعليمية التي يتم تصميمها على هيئة حوار، يقوم فيه الحاسوب بدور المعلم الخبير الذي يعرف الإجابة الصحيحة والقرار الذكي، ويعترض على إجابات المستخدم الخطأ بطريقة صحيحة تعتمد على تحليل وتبويب الأخطاء"5.

وفي الإطار نفسه يعرفه الباحثان محمود ثائر وعطيات صادق في كتابهما "مقدمة في الذكاء الاصطناعي" على أنه: "جزء من علم الحاسبات الذي يهتم بأنظمة الحاسوب الذكية، تلك الأنظمة التي تمتلك الخصائص المرتبطة بالذكاء، واتخاذ القرار والمشابهة لدرجة ما للسلوك البشري في هذا المجال فيما يخص اللغات، التعلم، التفكير، وحل المشاكل... كما يمكن القول بأنه أحد علوم الحاسب الآلي الحديثة، التي تبحث عن أساليب برمجية متطورة للقيام بأعمال واستنتاجات تشابه ولو في حدود تلك الأساليب التي تنسب لذكاء الإنسان، فهو بذلك علم يبحث أولا في تعريف الذكاء الإنساني وتحديد أبعاده، ومن ثم محاكاة بعض خواصه"6.

أما عبد الناصر فيعرفه على أنه: "ذلك الفرع من علوم الحاسوب الذي يهتم بمحاكاة الذكاء الإنساني، أو المهارة البشرية أو الخبرة من خلال إعداد برامج وأجهزة يمكن لها أن تقوم بعمليات شبيهة بهذا الذكاء وتلك المهارة أو الخبرة، وعلى ذلك فالذكاء الاصطناعي هو نمذجة ومحاكاة السلوك البشري"7.

ويعرفه محمد علي الشرقاوي في كتابه "الذكاء الصناعي والشبكات العصبية" بأنه: "أحد العلوم الحديثة والمبتكرة التي تعتمد على الحاسوب وبرامجه بشكل رئيسي وأساسي، وهو الحجر الأساس في جعل الآلات المبرمجة والمحوسبة تقوم بمهام مماثلة وبشكل كبير لعمليات الذكاء البشري، التي تتمثل في التعلم والاستنباط واتخاذ القرارات"8.

تجمع التعاريف السابقة إذن على أن الذكاء الاصطناعي هو: "علم هندسة الآلات الذكية، وبصورة خاصة برامج الكمبيوتر، حيث إنه يقوم على إنشاء أجهزة وبرامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة نفسها التي يعمل بها الدماغ البشري، وتحاكي تصرفات البشر، وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي هو عملية محاكاة الذكاء البشري عبر أنظمة الكمبيوتر، فهي محاولة لتقليد سلوك البشر ونمط تفكيرهم وطريقة اتخاذ قراراتهم؛ إذ تتم دراسة سلوك البشر عبر إجراء تجارب على تصرفاتهم، ووضعهم في مواقف معينة ومراقبة ردود أفعالهم وأنماط تفكيرهم وتعاملهم مع هذه المواقف، ثم محاولة محاكاة طريقة التفكير البشرية عبر أنظمة كمبيوتر معقدة"9.

وعلى الرغم من هذا، فإنه لا يمكن أن "يطلق هذا المفهوم على أي قطعة إلكترونية تعمل من خلال خوارزمية معينة، وتقوم بمهام محددة، فلكي نطلق هذا المصطلح على نظام إلكتروني لا بد أن يكون قادراً على التعلم وجمع البيانات وتحليلها واتخاذ قرارات بناءً على عملية التحليل، بصورة تحاكي طريقة تفكير البشر، وهو ما يعني ضرورة توافر ثلاث صفات رئيسة؛ أولها، القدرة على التعلم؛ أي اكتساب المعلومات ووضع قواعد استخدام هذه المعلومات، ثانيها، إمكانية جمع وتحليل هذه البيانات والمعلومات وخلق علاقات فيما بينها، ويساعد في ذلك الانتشار المتزايد للبيانات العملاقة، ثالثها، اتخاذ قرارات؛ وذلك بناء على عملية تحليل المعلومات، وليس فقط مجرد خوارزمية لتحقيق هدف معين"10.

أنواع الذكاء الاصطناعي11

يمكن تقسيم أنواع الذكاء الاصطناعي إلى ثلاثة أنواع رئيسة، تتراوح من رد الفعل البسيط إلى الإدراك والتفاعل الذاتي، وذلك على النحو التالي:
1) الذكاء الصناعي الضيق أو الضعيف (Narrow AI or Weak AI): وهو أبسط أشكال الذكاء الاصطناعي، حيث تتم برمجة الذكاء الاصطناعي للقيام بوظائف معينة داخل بيئة محددة، ويعتبر تصرفه بمنزلة رد فعل على موقف معين، ولا يمكن له العمل إلا في ظروف البيئة الخاصة به، ومن الأمثلة على ذلك الروبوت (ديب بلو)، والذي صنعته شركة أي. بي إم. (IBM)، وهزم جاري كاسباروف بطل الشطرنج العالمي.
2) الذكاء الاصطناعي القوي أو العام (General AI or Strong AI): ويتميز بالقدرة على جمع المعلومات وتحليلها، ويستفيد من عملية تراكم الخبرات، والتي تؤهله لأن يتخذ قرارات مستقلة وذاتية، ومن الأمثلة على ذلك السيارات ذاتية القيادة، وروبوتات الدردشة الفورية، وبرامج المساعدة الذاتية الشخصية.
3) الذكاء الاصطناعي الخارق (Super AI): وهي نماذج ما تزال تحت التجربة وتسعى لمحاكاة الإنسان، ويمكن هنا التمييز بين نمطين أساسيين، الأول: يحاول فهم الأفكار البشرية، والانفعالات التي تؤثر على سلوك البشر، ويمتلك قدرة محدودة على التفاعل الاجتماعي، أما الثاني: فهو نموذج لنظرية العقل، حيث تستطيع هذه النماذج التعبير عن حالتها الداخلية، وأن تتنبأ بمشاعر الآخرين ومواقفهم وقادرة على التفاعل معهم، ويتوقع أن تكون هي الجيل القادم من الآلات فائقة الذكاء.

أهداف الذكاء الاصطناعي:

إن مجال الذكاء الاصطناعي كغيره من المجالات له مجموعة من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، من هذه الأهداف نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
 فهم طبيعة الذكاء الإنساني بهدف الوصول إلى خلق برامج آلية قادرة على محاكاة السلوك الإنساني المتسم بالذكاء، ومن ثم القدرة على حل المشكلات واتخاذ القرارات بأسلوب منطقي ومرتب، وبنفس طريقة تفكير العقل البشري12، فالذكاء الاصطناعي وجد لبناء الذكاء الآلي، وهو يعنى بفهم هذا الذكاء ومعرفة الأسس الصحيحة لبنائه، والقدرة على التسهيل على الإنسان في مختلف جوانب الحياة التي أصبحت رقمية حاسوبية، أصبح فيها للحاسوب مع الذكاء الإنساني تأثير ضخم وواضح في حياتنا اليومية وفي صناعة الحضارة13.
 تسهيل استخدام الحاسوب والاستفادة منه قدر الإمكان بالنظر إلى قدرته على حل المشكلات، وذلك سوف يسهل بعض التغيرات التي تساعد على عمليات التدريب والتعلم بطريقة جيدة وغير مكلفة14.
 جعل الأجهزة أكثر فائدة15؛ أي تمكينها من معالجة المعلومات بشكل أقرب إلى طريقة الإنسان في حل المسائل، بمعنى آخر المعالجة المتوازنة (Parallel Processing)، حيث يتم تنفيذ عدة أوامر في نفس الوقت، وهذا أقرب إلى طريقة الإنسان في حل المسائل16.

وفي الختام؛ لا بد أن نشير إلى أنّ بعض الباحثين يرون أنّه إذا استطاع الإنسان بناء "كيّانات تكنولوجية تتفوّق عليه في الذكاء؛ فإنّ العالم سيدخل بذلك إلى نظام جديد، سيلفظ في غمضة عين كلّ القواعد السّابقة على وجوده، ويصبح مختلفاً بصورة جذرية عن النّظام القائم الآن، حيث ستزداد وتيرة الإنجازات التّقنية بصورة تقضي على أيّ أمل في السّيطرة عليها، وسيمكن عند ذلك تحقيق إنجازات –كان يستغرق تحقيقها عدّة قرون- في ساعات معدودة، ولكن في نفس الوقت سيصبح الإنسان نفسه بلا حول ولا قوّة أمام تلك الكّيانات التّكنولوجية التي تتفوّق عليه، تماماً مثل ما حدث للحيوانات عندما ظهر من هو أكثر منها ذكاء، فسخّرها لخدمته، وربّما تقرّر الحكومات حينئذ أنّه لم يعد هناك حاجة للمواطنين، فالكيّانات التّكنولوجية تفعل كلّ شيء. لهذا قد يبدو الأمر في أوّل وهلة كأنّه خزعبلات علمية، أو صورة من صوّر الخيال العلمي، لكنّ أصحاب هذا التّصور يقولون: ومن كان يصدّق أنّنا سنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، والذي كان ينظر إليه أجدادنا كخيال علمي؟"17.


الهوامش:
1. يطلق عليه أحياناً اسم "الذكاء الصناعي"، أو الذكاء الصنعي"، وهي تعبيرات دارجة، والمقصود بها دائماً هو الذكاء الاصطناعي، وتشير كلمة اصطناعي إلى الآلة أو الحاسوب على وجه الخصوص، فالذكاء الاصطناعي يعنى به ذكاء الآلة (انظر: أسامة الحسيني، الذكاء الاصطناعي ومدخل إلى لغة ليسب، دار الراتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1989، ص: 8). / 2. انظر: فاتن عبد الله صالح، أثر تطبيق الذكاء الاصطناعي والذكاء العاطفي على جودة اتخاذ القرارات (رسالة ماجستير)، جامعة الشرق الأوسط للدراسات العليا، 2009، ص: 38. / 3. محمد طلبة وآخرون، الحاسب والذكاء الاصطناعي، مطابع المكتب المصري الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1994، ص: 27. / 4. عبد المجيد قتيبة، استخدام الذكاء الاصطناعي في تطبيقات الهندسة الكهربائية (رسالة ماجستير)، الأكاديمية العربية، الدنمارك، 2009، ص: 15. / 5. محمود الشريف، موسوعة مصطلحات الكمبيوتر، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1995، ص: 33. / 6. محمود ثائر وعطيات صادق، مقدمة في الذكاء الصناعي، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2006، ص: 14. / 7. عبد الناصر جمال، فعالية بعض استراتيجيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج برامج الكمبيوتر التعليمية على تنمية التفكر الابتكاري (رسالة دكتوراه)، جامعة عين شمس، مصر، 2005، ص: 69. / 8. محمد علي الشرقاوي، الذكاء الصناعي والشبكات العصبية، المكتب المصري الحديث للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1996، ص: 12. / 9. انظر: سالم عبد البديع، تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مطابع المؤسسة الأهلية للأجهزة العلمية ومهمات المكاتب، القاهرة، الطبعة الثانية، 2001، ص: 48. / 10. عرنوس بشير، الذكاء الاصطناعي، دار السحاب للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2007، ص: 59. / 11. إيهاب خليفة، الذكاء الاصطناعي: تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبو ظبي، الرابط: https://platform.almanhal.com/Files/2/100450
12. آلان بونيه، الذكاء الاصطناعي: واقعه ومستقبله، ترجمة: علي صبري فرغلي، عالم المعرفة، العدد 172، أبريل 1993، القاهرة،، ص: 11. / 13. عفيفي جهاد أحمد، الذكاء الاصطناعي والأنظمة الخبيرة، دار أمجد للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2014، ص: 5. / 14. سالم عبد البديع، تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مطابع المؤسسة الأهلية للأجهزة العلمية ومهمات المكاتب، ص: 20. / 15. علاء عبد الرزاق السالمي، نظم المعلومات والذكاء الاصطناعي، دار المناهج للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، 1999، ص: 56. / 16. عفيفي جهاد أحمد، الذكاء الاصطناعي والأنظمة الخبيرة، ص: 24. / 17. جبريل العريشي، عصر ما بعد الإنسان، صحيفة عكاظ، العدد 4749، بتاريخ: 18 يونيو 2014.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها