من التدهور النفسي إلـى الانهيار التعصبي

كيف تؤثر صدمة المستقبل على الفرد؟!

بورجا مريم

لو كانت صدمة المستقبل مرضاً بدنياً لسهل أمر الوقاية منه وعلاجه، ولكن صدمة المستقبل صدمة تهاجم النفس كما تهاجم الجسم، وكما يتصدع الجسم تحت ضغط زيادة المنبهات البيئية، كذلك "العقل" عندما يحمل فوق طاقته. وعندما نعمل بلا تمييز على الإسراع بآلة التغيير؛ فإننا لا نخرب فقط صحة أولئك الأقل قدرة على التكيف، بل أيضاً قدرتهم على التصرف في شؤونهم برشد، بهذه المقدمة افتتح آلفين توفلر مناقشة موضوع الصدمة.

إن ما نشهده حولنا من تفاقم لحالات الانهيار والاضطراب النفسي -كانتشار المخدرات والخرافة، والانفجارات العفوية المتكررة للعنف والتخريب، والتيارات السياسية العدمية والارتكاسية، والملايين من ضحايا التبلد المرضي- نستطيع أن نفهمه فهماً أحسن إذا ما تعرفنا على العلاقة بين كل هذه الظواهر وبين صدمة المستقبل، فكل هذه الأشكال من اللاعقلانية الاجتماعية قد تكون انعكاساً لتدهور قدرة الفرد على اتخاذ القرارات تحت ظروف فرط التنبيه في بيئته.
 

عندما يتعرض الفرد لفرط التنبيه

غالباً ما يجد الجنود في أثناء المعركة أنفسهم حبيسي بيئات سريعة التغيير وغير مألوفة، ولا يمكن التنبؤ بما هو آت، وتتنازع الجندي عوامل تنبيه عديدة، فالقنابل تنفجر في كل مكان، وأزيز الرصاص يصفر في أذنيه ووهج القذائف المضيئة يملأ السماء... وحتى ينجو الجندي من مثل هذه البيئات المفرطة التنبيه؛ فإنه يضطر إلى العمل بأقصى ما يصل إليه مداه التكيفي.

خلال الحرب العالمية الثانية، وفي أثناء إحدى المعارك التي خاضتها قوات الجنرال ونجيت التي كانت تعمل خلف خطوط اليابانيين في بورما، إذا بجندي من الشنديت يقع في سبات عميق، وعاصفة من رصاص المدافع الرشاش تدوي من حوله! وقد كشف التحري فيما بعد أن هذا الجندي لم يسقط بسبب الإرهاق البدني، أو الحاجة إلى النوم؛ وإنما استسلاماً لشعور قاهر طاغ من التبلد.
فالتدهور النفسي بدأ بالتعب، ثم تبعه الاضطراب والتوتر العصبي وأصبح الرجل شديد الحساسية لأي منبه حوله مهما كانت ضآلته، وظهرت عليه علامات الذهول، وبدا غير قادر على التمييز بين صوت نيران العدو، وبين غيره من الأصوات الأقل خطراً وصار متوتراً قلقاً سريع الغضب.

إذاً؛ ففي الكوارث كما في المعارك يتعرض الأفراد للانهيار النفسي، ومرة أخرى نستطيع أن نرجع السبب في ذلك إلى فرط التنبيهات البيئية. نفس الشيء تماماً فيما يتعلق بصدمة الثقافة- وهي الشعور القوي بالضياع الذي يعاني منه المسافر الذي يزج بنفسه دون استعداد كاف وسط ثقافة غريبة- التي تعطينا مثالا على الانهيار التكيفي.

إن الشخص المصاب بصدمة الثقافة مثله في ذلك كمثل الجندي أو ضحية الكوارث، يجد نفسه مضطراً إلى مواجهة أحداث وأشياء وعلاقات غير مألوفة أو متوقعة؛ وإن أساليبه المعتادة في معالجة الأمور – حتى البسيط منها كإجراء محادثة تليفونية- لم تعد أساليب مجدية. إن المجتمع الغريب نفسه قد يكون مجتمعاً جامداً أو بطئ التغيير، ولكن كل ما فيه جديد بالنسبة للوافد. إن الإشارات والأصوات وغيرها من المشعرات السيكولوجية تمر به قبل أن يتمكن من إدراك معانيها، وتأخذ التجربة كلها جواً سيريالياً. وكل كلمة وكل حركة تنطلق محملة بالشك. وفي مثل هذا المناخ يحل التعب بأسرع مما هو معتاد، ومع التعب يعاني الوافد ما وصفه لوندستد بأنه "إحساس ذاتي بالضياع، وشعور بالعزلة والوحدة".

الهجوم على الحواس

لقد أوضحت تجارب التجريد من الحس التي يعزل فيها المتطوعون عن المنبهات الطبيعية لحواسهم، أن غياب المنبه الحسي المستجد يمكن أن يؤدي إلى الذهول وإفساد العمل الذهني، وعلى أساس من نفس القاعدة؛ فإن تلقي الكثير من المنبهات غير المنسقة والمشوشة قد يحدث تأثيرات مماثلة. ومن هنا كان اتجاه الممارسين لعمليات غسيل المخ السياسية أو الدينية إلى عدم استخدام التجريد الحسي وحده (كالعزل الانفرادي مثلاً)؛ وإنما أيضاً إلى مهاجمة الحواس بوسائل تشمل الأضواء الوامضة والتغيير السريع للأشكال والألوان والمؤثرات الصوتية المشوشة.
إنما ما نلحظه من هوس ديني وسلوك شاذ على بعض الناس قد لا يكون من نتائج تعاطي المخدرات فحسب، بل أيضاً من تجارب الجماعة في ممارسة أساليب التجريد الحسي ومهاجمة الحواس. إن الترتيل للترانيم ومحاولة تركيز فكر الفرد على مشاعره الداخلية لعزله عن المنبهات الخارجية، كل هذه من قبيل محاولات إحداث التأثيرات الغريبة لنقص التنبيه والتي تصل أحياناً إلى الهلوسة.
وعند الطرف الآخر للسلم نلاحظ تلك النظرات الزجاجية والوجوه المتبلدة من التعبير للراقصين من الشباب في قاعات موسيقى الروك الكبيرة حيث الأضواء المتغيرة، وشاشات السينما المجزأة والصرخات الحادة، والنداءات المدوية والتأوهات والأزياء العجيبة المتنوعة، والأجسام التي تصبح بشرتها رسوماً من كل شكل ولون، تلف وتدور وتختلج ليخلق كل هذا بيئة حسية تتسم بزاد وفير من الجدة والفجأة.

وهكذا فإن قدرة أي كائن عضوي على مواجهة الزائد الحسي تتوقف على بنائه الفسيولوجي. إن طبيعة أعضائه الحسية والسرعة التي تتدفق بها النبضات خلال جهازه العصبي تفرض حدوداً بيولوجية على كمية المعطيات الحسية التي تستطيع تقبلها.

وإن قصور قدرة أعضاء الحس والجهاز العصبي يعني أن الكثير من الأحداث البيئية يقع بمعدلات أسرع من أن نستطيع تتبعها، ومن ثم فإن خبرتنا في أحسن حالاتها لا تعدو أن تكون عينات مما يقع في البيئة، وعندما تكون الإشارات التي تصل إلينا منتظمة وتكرارية؛ فإن عملية انتقاء العينات هذه تستطيع أن تعطي صورة ذهنية لا بأس بها للواقع، ولكن عندما تكون على درجة عالية من عدم الانتظام، عندما تكون غير مستجدة وغير متوقعة، فإن دقة تصورنا بالضرورة سوف تتناقص وتتشوه صورة الواقع في أذهاننا. ولعل في هذا ما يفسر لماذا عندما نتعرض لفرط التنبيه؛ فإننا نعاني الاضطراب وتمويه الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم.

ضحايا صدمة المستقبل

إن المنكر -الضحية المجهولة لصدمة المستقبل- مصمم على أن يلقي نفسه بنفسه إلى التهلكة. إن استراتيجيته في المواجهة ترجح من احتمال أنه عندما يضطر إلى التكيف؛ فإن التقاءه بالتغيير سوف يأتي على شكل أزمة كلية لحياته وليس على شكل مجموعة من المشكلات القابلة للحل.
أما الاستراتيجية الثانية لضحية صدمة المستقبل فهي التخصصية. إن التخصص لا يحجب "كل" الأفكار أو المعلومات المستجدة، بل يحاول بكل ما في وسعه أن يواكب التغيير ولكن في قطاع ضيق معين فقط من قطاعات الحياة، وهكذا نرى ذلك الطبيب أو المالي الذي يعمل على الاستفادة الكاملة من كل المستحدثات فيما يتصل بمهنته، في حين أنه يقف موقف المتصلب، الرافض لأي فكرة تجديد اجتماعية، أو اقتصادية كانت. وكلما تزايدت انفجارات الاحتجاج في الجامعات، وزادت أحداث جيتو الأقليات اشتعالا، ازداد هو رغبة في تجاهل ما يحدث وفي تضييق الشق الذي يطل منه على العالم.

إنه سطحي ومتكيف جيداً مع التغيير.. ولكنه أيضاً يراهن ضد نفسه. إنه قد يصحو يوماً ليجد أن تخصصه قد عفى عليه من الزمن، أو تغيرت ملامحه تماماً بفعل الأحداث المتفجرة خارج نطاق رؤيته.

وثمة نوع ثالث من أنواع الاستجابة لصدمة المستقبل يتمثل في الرجوع الملح إلى روتينيات في التكيف سبق نجاحها من قبل، ولكنها أصبحت الآن غير صالحة أو كافية. إن الرجوعي يتشبث بقراراته المنهجية وعاداته السابقة باستماتة مذهبية غريبة؛ فلكما ارتفعت تهديدات التغيير فيما حوله كرر حرفياً أساليب العمل الماضية. إن موقفه الاجتماعي موقف تراجعي. إنه – وقد صدمه مقدم المستقبل- يؤيد بتهوس الإبقاء على الأمر الواقع الذي لم يعد واقعاً، أو يطالب تحت قناع أو آخر بالعودة إلى أمجاد الماضي.
وهناك طراز رابع من ضحايا صدمة المستقبل هو ذلك المبسط المبالغ في تبسيط الأمور إلى درجة التشويه. فإزاء سقوط الأبطال، وتقوض المؤسسات، ودوي الإضرابات والشغب والمظاهرات في وعيه، يبحث المبسط عن معادلة واحدة محكمة تفسر كل المستحدثات المعقدة التي تهدد بمحاصرته، وهو في بحثه يمسك بتلابيب هذه الفكرة أو تلك ليصبح مؤمناً مؤقتاً بها إلى أن تجذبه فكرة أخرى.

ولعل هذا ما يساعد على تفسير ظاهرة تفشي البدع في عالم الأفكار بشكل ينافس تفشيها في عالم البدعة. إن المبسط في تلمسه اليائس لمخرج من أزمته يستثمر أي فكرة يصادفها بتعميم غالباً ما يربك صانع الفكرة نفسه. وللأسف فليس ثمة فكرة لا عندي ولا عنده تتصف بنفاذ البصيرة الكلي. أما المبسط فلا يرضى بشيء أقل من شمولية الصلة بالموضوع: أمريكا هي مضاعفة الأرباح. "التآمر" هو السر وراء الاضطرابات العنصرية... ديموقراطية المشاركة هي الحل، التسامح هو أصل الشر. إذاً؛ المبسط يعاني من الخلل المنهجي ما يدفعه إلى التعميم في كل شيء دون معرفة بالحقائق والتفاصيل.

واستخلاصاً مما سبق، يمكننا التأكيد أنه من المستحيل أن تصاب أعداد غفيرة من الأفراد بصدمة المستقبل دون أن يؤثر هذا في عقلانية المجتمع ككل، وهذا يحتم على الجميع اليقظة خاصة في الجانب العلمي الأكاديمي من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة الانفتاح على الحضارات والأمم الأخرى وإلا سيكون المآل هو الصدمة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها