باديريفسكي.. عندما يجتمع الفن بالسياسة

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب



يُعتبر السياسي البارز والموسيقار البُولندي المشهور إغناتسِه يان بادِرِفسكي واحدًا من أبرز الشخصيات المُميّزة في تاريخ الحياة السياسية في أوروبا، فقد كرّس حياته لنصرة قضية بلده بُولَندا، فأصبح رمزًا وطنيًا وزعيمًا روحيًا للبُولنديين، واحتل مكانةً كبيرة في تاريخ بُولَندا، وقد تعدّدت مواهبه فبجانب كوّنه مُفكّرًا يَتمتّع بالعبقرية السِياسية والدبلوماسية، كان مُحبًا للتلحين والمُوسيقى مُبدعًا فيهما، وهو يُعدّ من أعظم وأشهر عَازفي البيانو ومُؤلّفي الموسيقى في العالم، وكانت مُوسيقاه وألحانه السبب في تجديد أُسلوب العزف بالبيانو، سواء من حيث الإيقاع، أو من حيث الناحية الجمالية، وقد ترك تُراثًا مُوسيقيًا رائعًا، واستطاع أن يُخلّد اسمه بِأحرفٍ من نور في تاريخ الإنسانية بشخصيته الرائعة وإنجازاته العظيمة.
 

بَاديريفسكي.. الميلاد والنشأة

ولد السياسي والفنان إغناتسِه يان بادِرِفسكي Ignacy Jan Paderewski في 6 نوفمبر1860م، بقرية Kuryłówka التابعة لمقاطعة بُودوليا Podolia في الإمبراطورية الرُوسية والتابعة حَاليًا لبُولَندا، وقد أحبّ المُوسيقي منذ طفولته، والتحق بمعهد وارسو للمُوسيقي عام 1872م، وبعد تَخرُّجه عمل مُدرسًا للبيانو بِالمعهد عام 1878م، وقد كرّس حياته للمُوسيقى، واكتسب شُهرةً كبيرة كَعازف بيانو ومُؤلِّف مُوسيقي. وقد بدأ دِراسات التأليف في بِرلين، كما درس في فيينا خلال الأعوام 1884-1887م، بصُحبة الفنان البُولَندي تيودور ليزيتيكي Theodor Leschetizky (1830-1915م)، ثم قام بالتدريس في مَعهد ستراسبورغ للمُوسيقي بفرنسا، وأصبح في عام 1909م مُديرًا لمعهد وارسو للمُوسيقى. لقد أهّلته موهبته الكبيرة وشعبيته المُتزايدة أن يقتحم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط كعازف بيانو بل كمُلحن بَارع، وسِياسي مُحنّك، وسافر إلى جميع أنحاء العالم، وقدّم أكثر من 1500 حفلة مُوسيقية في الولايات المُتحدة، واستقرّ به الحال بنيويورك حتى تُوفّي ودُفن بها 29 يونيو 1941م.

بَاديريفسكي.. دَوره ومَواقفه السياسية

لقد لعب بَاديريفسكي دورًا مُهمًا في تاريخ الحياة السياسية في بُولَندا، في فترة كانت بُولَندا تُعاني من عدم الاستقرار السِياسي والاقتصادي، والانقسامات والنزاعات، والحروب بين جيرانها الألمان والنمساويين والرُوس، فقد كرّس حياته للنشاط السياسي والدبلوماسي، وتَمكّنت بُولَندا بِفضل جُهوده الدبلوماسية من التفاوض بشأن القضايا الشائكة مَع جيرانها الأوكرانيين والألمان، وكسب احترام وتقدير الجميع، وقد مَهّدت علاقاته وصَداقاته مع العديد من رجال الدولة البَارزين في أوروبا وأمريكا الطريق لِمسيرته السياسية، فبدءًا من عام 1910م برز بَاديريفسكي كواحد من أفضل الشخصيات السياسية، والأكثر قُدرة على تمثيل بولندا، وقد أهّلته شخصيته وعبقريته لذلك؛ فقد تميّز بقُدرته على الخَطابة، وكان يُجيد التحدُّث بِطلاقة لأكثر من سبع لغات، مما أهّله لأن يُصبح المُتحدث الرسمي باسم اللجنة الوطنية البُولَندية، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، سعى في العودة إلى وطنه، حيث لعبّ دورًا رئيسًا في انتفاضة ويلكوبولسكا، وانتُخب رئيسًا للوزراء في بولندا، وشارك بِصفته الجديدة في مؤتمر باريس للسلام عام 1919م ووقع لصالح بُولَندا في مُعاهدة فِرساي للسلام؛ والتي أنهت الحرب العالمية الأولى واعترفت باستقلال بُولَندا، وحقّقت حكومة بَادروفسكي إنجازات ملحوظة؛ فقد ساعد بشكلٍ رئيس في تشكيل بُولَندا الجديدة، واكتسب احترام وتقدير ملوك وقادة العالم، وقد اكتسب مكانةً كبيرة لدى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد كل من: الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون Woodrow Wilson (1856–1924م)، والرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt (1882-1945م)، والذي وصفه بِالمُعجزة الخالدة، فلقد ضرب مثالًا على الوطنية والشجاعة والمَهارة والقُدرة؛ فلاقى خِطابه أمام عُصبة الأمم في جنيف عام 1920م، الذي تحدّث فيه بِبلاغة لأكثر من ساعة بِالفِرنسية، ثم كرّرها بِالإنجليزية ترحيبًا كبيرًا.
 

وبرز اسم بَاديريفسكي من جديد مع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وغزو ألمانيا لبُولَندا؛ حيث فوّضه البُولنديون وحُلفاؤهم تمثيلهم، وعلى الرغم من مرضه وافق دون تَردُّد وسافر إلى باريس لتنصيب حكومة جديدة، لكنه رفض تعيينه رئيسًا للوزراء مرةً أُخرى، وكان منزله في سويسرا ملاذاً للمُهاجرين من جِنسياتٍ عديدة خلال الحرب العالمية الثانية، واختير في أواخر عام 1940م رئيسًا للبرلمان البُولَندي، ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمُواصلة جُهوده لمُساعدة القضية البُولَندية حتى تُوفِّي بنيويورك عام 1941م.
 

بَاديريفسكي.. بين الموسيقى والتلحين
 

لقد كان بَاديريفسكي مُحبًا للمُوسيقى شغوفًا بها خُصوصًا البيانو؛ فقد كان عازفًا للبيانو، وكانت له مسيرةً فنية رائعة مُنذ ظهوره لأول مرة في باريس عام 1988م، فقد سجّل اسمه واحدًا من أشهر عازفي البيانو في تاريخ المُوسيقي البُولَندية، وقد اشتُهر بَاديريفسكي بلمساته السِحرية، كما بَرع في إنتاج ألوان من النغمات الجميلة والمُتنوِّعة من الأخف وزنًا إلى أقصى درجاتها عُنفًا، والتي أصبحت أحد أكثر نغمات البيانو شُهرةً، وعلى الرغم من انشغاله الكبير، ونشاطاته السِياسية والخَيرية، فقد تركّ إرثًا لأكثر من 70 عملاً أوركستريًا وآليًا وصوتيًا، ولقد كان مُلهمًا للكثير من الفنّانين والشُعراء؛ لِما تميّز به من شخصيةٍ مُميّزة بِمَظهره الجسدي المُميّز بِشعره الطويل، الذي كان سببًا في إعجاب الناس به، وأعطى ذلك طابعًا خاصًا لِمُوسيقاه، التي اصطُلح عليها بـ(مُوسيقى الشعر الطويل)، كما حظي بإعجاب وتقدير الكثير من القادة والزُعماء الذين أُعجبوا بمُوسيقاه الرائعة، وعندما وصل إلى بروكسل في إحدى جولاته المُوسيقية، ذهب الملك والملكة شخصيًا لاستقباله تقديرًا لمكانته.

بَاديريفسكي.. الأعمال الإنسانية والنشاطات الخيرية

لقد كان بَاديريفسكي رمزًا للخير والعطاء الإنسانـي، فقد استحوذت القضايا الإنسانية والخيرية على مكانةٍ مُتقدمة في فكره واهتمامه، وقد خصّص مُعظم أمواله التي يكتسبها من حَفلاته المُوسيقية لبِلاده، العمل الإِنساني في أنحاء العالم، وقدّم الدعم والرِعاية لدور الأيتام، ومركز الأمومة في نيويورك، وأنشأ في لندن صندوقًا لرعاية الجرحى والأرامل والأيتام، وقد خصّص عائد واحدة من أكبر حفلاته المُوسيقية لصالح المُوسيقيين الأمريكيين العاطلين عن العمل، كما تبرّع بسخاء للعديد من القضايا والجمعيات الخيرية ورعاية الآثار، وكان حريصًا على الحفاظ على التُراث المُوسيقي ورِعايته؛ فقام برعاية وتمويل طلاب معهد موسكو للمُوسيقى، كما أسّس مُؤسسة لرعاية المُوسيقيين الأمريكيين الشباب وطلاب جامعة ستانفورد 1896م، كما أنّه أنشأ صندوقًا باسمه في نيويورك تُخصّص أمواله كَجوائز كل ثلاث سنوات للمُلحِّنين الأمريكيين، بغض النظر عن العرق أو الدين، وقام بتقديم الدعم في بناء قاعة الحفلات المُوسيقية في سويسرا، وغيرها من الأعمال الإنسانية التي خلّدت اسمه.

وتُوفّي بَاديريفسكي في مدينة نيويورك عام 1941م بعد رِحلة عَطاء كبيرة في السِياسة والفن والعمل الإنساني، حاز خِلالها الكثير من الأوسمة والجوائز، وسُمّيت العديد من المدن والشوارع والمُنشآت باسمه في بولندا تقديرًا لِمكانته الكبيرة ودوره العظيم، كما كرّمته بُولندا بإصدار طوابع بريدية، وعملات تِذكارية تحمل اسمه وصورته تخليدًا لذِكراه.
 

أخيراً ؛ هذه سيرة واحد من أبرز الشخصيات التي سطّرت تاريخها بِأحرفٍ من نور، وفي الواقع أن شُهرة بَاديريفسكي تَعدّت حُدود بِلاده إلى حدٍ كبير، ووصلت إلى العالم أجمع، وأختم بِمَقولة للكاتب الإنجليزي فرانسيس تشارلز فيليبس Francis Charles Philip (1849-1921م)؛ (مِن الصعب الكِتابة عن بَاديريفسكي بِدُون عَاطفة، فهو رَجل دَولة من الطراز الأول، ومُتحدِّث بَارع وعَازف بيانو ومُلحِّن، إنه رجل مُتعدّد المَواهب، وعبقريته تتجاوز عبقرية أي شخص عَرفته في حياتي، مُحبًا لِبلده بُولَندا مُخلصًا لها).


المراجع
1 < Jacek Roman Drecki, Ignacy Jan Paderewski: A Pianist amidst the Geysers, Quo Vadis, 2018
2 < Marian Marek Drozdowski, Ignacy Jan Paderewski: A Political Biography, Interpress, 1981
3 < Janina W. Hoskins, Ignacy Jan Paderewski, 1860-1941: A Biographical Sketch and a Selective List of Reading Materials, Library of Congress, 1984

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها