شعر العقاد... صدى الكروان!

د. محمد عبد الباسط عيد


لعلّه لا يوجد خلافٌ حول منجز شعري كما يوجد حول شعر العقاد (1889-1964م)، ولا يرجع ذلك في رأيي إلى الشِّعر أو إلى النقد، بقدر ما يرجع إلى الموقف من العقاد نفسه، بل وإلى موقفه النقدي من أمير الشعراء أحمد شوقي تحديداً، ولعلّه قد نما إليك جانباً من أخبار هذا النقد اللاذع الذي ضمّه كتاب "الديوان في الأدب والنقد" مطالع القرن الماضي1.


لم يكن العقاد مجرد ناقد له رأي قاسٍ في الجمالية الشعرية السّائدة على نحو ما بدت في شعر شوقي وحافظ؛ وإنما قدّم –مع صديقيه المازني وشكري- شعراً يُجسِّد وجهة النظر الجديدة، أو الجمالية الجديدة التي يُبشِّر بها2.

كانت دعوى العقاد قفزة جمالية لم يكن من السهل قبولها، خاصة وأنها اتخذت من شعر شوقي هدفاً لها، وشوقي –كما تعلم- ذروة البيان الجمالي في الجمالية التراثية؛ فلم يزل شعره -حتى اليوم– مقروءاً ضمن مناهج التدريس في مصر وفي غيرها من البلاد العربية، تتغنى به حناجر كبار المطربين والمطربات، ولم تزل زخرفته البيانية وآلياته البلاغية تخلب الألباب والقلوب، وكان طبيعيّاً أن يضع الناس شعر العقاد الذي يُفترض أنه يُجسِّد النموذج الجماليّ الجديد في مقارنة مع شعر شوقي، وأن يطبقوا عليه المقاييس ذاتها التي دعا إليها، وكثيراً ما كانوا يقسون عليه قسوته على شاعرهم الأمير.

والحقيقة أن العقاد لم يكن يطلب أمراً يسيراً؛ كان يطلب تغييراً كبيراً في الجماليّة السائدة، وأن يتحوّل الشاعر من الإنشاد للجماعة إلى الإنشاد للذات الفردية، أن ينطق بلسانه وينظر بعينيه وليس أن ينطق بلسان آبائه وأجداده.. كان العقاد يواجه إرثاً طويلاً من التقاليد الفنية الرّاسخة، وما شوقي إلا العنوان الأبهى لها.

وإذا أضفت إلى ما سبق أن العقاد -فيما يقول صلاح عبد الصبور- كان عظيم الاعتداد بنفسه، مزهواً بموهبته، وميالًا إلى فرض رأيه، كما أنه من أكثر كُتَّاب هذا الجيل انخراطاً في السياسة الحزبية، كتابة ومشاركة، وهو ما جلب عليه عداوات وصداقات كثيرة، فرفعه أصدقاؤه إعجابًا بشخصه وانتقص منه أعداؤه دون أن يكون شعره وأدبه بذاتهما هما الدافعان وراء هذا التكريم أو الانتقاص3.

وهذا يعني أن شعر العقاد قد قُرئ دائماً في سياق سجاليّ، يحاول كل فريق أن ينتصر فيه إلى صاحبه بأكثر مما ينتصر للشعر. لقد حُوصر شعر العقاد من حيث أراد له صاحبه أن يُحلّق في الفضاء، حُوصر من قِبَل المحبين الذين يرتفعون به إلى ذُرى غير مسبوقة؛ فهو بالنسبة إليهم (الشعر الجديد) بألف لام التعريف، ومن قبل المبغضين الذين ينزلون به إلى مرتبة النظم الجاف، والتجديف الغامض، وكلا الموقفين تطرف، وما أضيع الحق حين يقع بين متطرفين: محب لا يرى المعايب، وكاره لا يرى الحسنات4.

لا تطمح هذه المقالة إلى تقديم مقاربة نقدية لشعر العقاد؛ فهذا مما ينبغي أن تصرف إليه الدراسات المُعمَّقة؛ فما أسعى إليه هنا هو أن أدعوك إلى إعادة قراءة هذا الشعر، بعيداص عن السجالات التي صاحبته أوائل القرن الماضي، بل وبعيداً عن صورة العقاد النمطية في الفضاء الثقافي؛ فكم جنت تصوراتنا عن الشعراء والكتاب على قدرتنا على قراءتهم قراءة مستبصرة، تفهم وتنتقد وتضيف..!

لقد ترك العقاد أحد عشر ديوانًا، وهذه الدواوين هي على الترتيب: "يقظة الصباح" 1916م، "وهج الظهيرة" 1917م، "أشباح الأصيل" 1921م، "أشجان الليل" 1928م، "وحي الأربعين" 1933م، "هدية الكروان" 1933م، "عابر سبيل" 1937م، "أعاصير مغرب" 1942م، "بعد الأعاصير" 1950م، "ديوان من دواوين" 1958م، "ما بعد البعد" 1966م.

وهذا إرث كبير، تتوزع فيه الثيمات والأشكال وتتنوع فيه الأوزان والقوافي، وهو إرث يُجسّد –إلى حد كبير- دعوته النظرية ويردفها بالتطبيق، وهذا الصَّنيع –مهما كان تقديرنا لهذا الشعر أو موقفنا منه- غير مسبوق في الثقافة العربية.

 شاعر الغزل 

لقد هيمن "إيتوس" Ethos الكاتب المتجهم على عقولنا؛ فالعقاد هو المُحاجج المحاور في حِدّة، وهو المفكر الموسوعيّ الذي يقارب أعقد القضايا الفكرية والفلسفية، وكثيرًا ما يمتدّ هذا "الإيتوس" فيما يتعلق بعلاقته بالمرأة فيقدمه –اجتماعيًا- بوصفه عدوًا لها، ولعلّ قراءة سريعة لشعر العقاد تدلُّك بوضوح لا لبْس فيه أننا أمام شاعر غزلي من طِراز خاص، ليس هذا فحسب، وإنما هو –طبقًا للدراسة المُدقِّقة التي قدّمها الدكتور أحمد درويش– واحد من كبار شعراء الغزل في الأدب العربي، هذا إذا أخذنا بالمقياس الكَميّ وحده؛ فما يقترب من ثلث شعر العقاد ينتمي إلى باب الغزل، ليس هذا فحسب، بل إن القصيدة الغزلية لم تختفِ من شعره في فترات عمره المختلفة، بداية من ديوانه الأول "يقظة الصباح" الذي أصدره عندما كان عمره سبعة وعشرين عامًا، وانتهاء بديوان "ما بعد البعد" الذي صدر بعد وفاته 1967م5.

والملاحظ أن هذه القصائد تتراوح بين المقطوعات القصيرة والمتوسطة والطويلة، وتتفاوت لغتها وتجاربها، ما بين القصائد التي تتشكل في لغة رصينة، وتلك التي تتشكل في لغة تداولية قريبة، وأحبُّ هنا أن أتوقف إزاء هذه القصيدة العذبة من ديوان "أعاصير مغرب"، حيث يقول في صِدَار6 أهدته إياه حبيبته:
"هُنا مكانُ صِداركْ * هُنا، هنا في جوارِكْ / هنا، هنا عِنْدَ قَلْبي * يكاد يلمِسُ حُبِّي / وفيكِ منه دليلٌ * على المَوَدَّة حسْبي / أَلمْ أنلْ منكِ فِكْرة * في كلِّ شكّة إبرة / وكلِّ عَقْدة خيْطٍ * وكلِّ جرّةِ بَكْرة / هنا مكان صدارك* هنا، هنا في جِوَارِكْ / والقلبُ فيه أسيرٌ * مُطوَّقٌ بحصارِكْ /هذا الصِدارُ رقيبُ * على الفؤادِ قريبُ / سليه: هَلْ مرَّ منه * إليَّ طيفٌ غريبُ؟ / نسجْتهِ بيديْكِ * على هدى ناظريْكِ / إذا احتواني فإني* ما زلتُ في إصبعيْكِ".

قد لا يمكننا تعريف الشعر بأكثر مما عرفته البلاغة العربية القديمة بأنه "عُدُول" أو "انحراف" عن العادي والمتداول، ومن هنا تتخلق الدهشة؛ فتبدو لك الأشياء التي لم تكن تراها لفرط اعتيادك عليها جديدة، وربما فكّرْت فيها مرة أخرى وحاولت رؤيتها من جديد. وحين يفعل الشعر ذلك؛ فنحن بالتأكيد في حضرة الفن والإبداع والنُّمو الذي يفيض به الداخل على الخارج، بقدر ما يستنفر به الخارجُ الداخل..

ولا يقف هذا "العُدُول البلاغيّ" عند حدّ معيّن، وإنما يبدأ من أصغر مستوى، من الاختيارات الصوتية والإيقاعية والقافية، ومنه إلى الدال (الكلمة)، صعودًا إلى اختيار التركيب الخاص، وانتهاء بالرؤية التي تجعل المألوف مدهشًا وجديداً.

وهذا ما تجده هنا؛ فقد خرج الصِّدَار( الصديري) عن وظيفته العادية التي قد نفعلها كل يوم دون اهتمام، فنحن نرتديه طلبًا لمزيد من الدفء، وربما لمزيد من التَّأنق، ولكنه هنا أصبح موضوعًا، ورسالة تطوي في نسيجها الدقيق هذه العواطف الرقيقة بين العاشقيْن، لقد صار "الصِّدار" رقيبًا على القلب وحارسًا له، فلا يمكن لغير طيف المحبوبة أن يمرّ من خلاله إلى قلب العاشق..

ولك أن تتوقف إزاء المفردات التي يصعب عليكَ قراءتها دون الاستعانة بلغة الجسد، فحين تقول مثلاً: "هنا هنا صدارك.." ستجد نفسك تشير بإصبعك في اتجاه القلب، وكذلك حين تقول: "هذا الصِدارُ رقيبُ".. وهل يمكنك أن تنشد البيت الأخير دون أن تضم إصبعيك متخيلاً أنامل المحبوبة وقد تملكت قلب العاشق تماماً، فهو بين أصبعيها..؟

فهذا الوجود الجديد، وتلك الحركية المدهشة لم تمنح النص فرادته فحسب، وإنما جعلت "الصِّدار" موضوعًا فنيًا، فمنحته حياة لم تكن له من قبل، ومنحتك أنت أيها القارئ ما لم تكن تتخيل وجوده، وهذا البعد الذاتي هو ما دعا إليه العقاد أحمد شوقي، وحاول تطبيقه في شعره، وكثيرًا ما نجح..!

صَدَى الكروان:

لا يحتاج الحديث عن غرام الشعراء بعالم الطيور إلى تأكيد، وكذلك كان العقاد وقد شغلته -منذ وقت مبكر- قضية الصدق الفني بأوسع المعاني، وكان كثيراً العتب على الشعراء الذين يغرمون بطيور لم يروها، يذكرونها في شعرهم محاكاة لغيرهم من الشعراء، فأراد أن يلفتهم بهذا المَطْلع إلى طائره الذي يتردد صوته في البيئة المصرية في الهزيع الثاني من الليل (حوالي منتصف الليل):
هَـلْ يَـسْـمـعـونَ سِـوَى صَدَى الْكَرَوَانِ
صَـوْتـاً يُرَفْرِفُ في الْهَزِيعِ الثَّاني..؟!

ولا تعلم الشعرية العربية انشغالًا بطائر على نحو ما فعل العقاد بكروانه، وقدَّم هذه الرؤية في ديوان كامل جعل عنوانه "هدية الكروان"، هو عبارة عن تجاوب حواريّ بين الشاعر وما يبوح به هذا الطائر من الألحان، وهذا ما قدره أحسن تقدير السيد عميد الأدب طه حسين، حين أهدى روايته الذائعة "دعاء الكروان" إلى العقاد قائلاً:
إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
سيدي الأستاذ،
أنت أقمت للكروان ديواناً فخماً في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشًا متواضعًا في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص.

فكيف انتبه العقاد إلى هذا الطائر؟ وكيف بنى هذا الديوان الذي أعجب به طه حسين؟ قد لا يوجد أفضل من هذه القطعة النثرية التي قدّم لنا بها العقاد الطائر الفريد، حيث يقول:
"تَسْمعه الفَيْنة بعد الفينة في جنح الليل السّاكن النائم البعيد القرار، فيشبه لك الزّاهد المُتَهَجِّد الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد فترة، ويشبه لك الحارس السَّاهر الذي يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة، وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظار مفاجئ، فلا تدري، أهي صيحة جَذِل (فرح) أم صيحة روعة وإجفال (خوف)؟ ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق، كأنك تصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع!

ويطلع عليك بهتافه من هنا ومن هناك، عن اليمين وعن الشمال، وعلى الأرض وفوق الذُّرى، فيخيل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكان ولا يعرف المسافة، أطلقوه في الدنيا على حين غِرّة، فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل، فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار. فأنت تتلقى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالماً من معان وأشجان يتجاوب فيه تقديس المصلي القانت، وحدب الحارس الأمين، وروح الطفولة، ومناجاة الخطر المقبول، وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال؛ عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار"7.

هكذا تحدث العقاد الشاعر عن كروانه! وقصائده في هذا الطائر تكشف لك عن قدر لا حد له من الخيال والمعرفة؛ إنه يتحدث به، يستنطقه، يبثه أسراره ولواعج قلبه، وخطرات فكره، يقول على سبيل المثال:
"أنَا فِي جَناحِكَ حيْثُ غَابَ مع الدُّجى* وإنِ اسْتقَرّ على الثَّرى جُثْماني/ أنا في لسانكَ حيث أطلقه الهوى * مرحًا، وإن غلب السرور لساني/ أنا مِنْك في القلب الصغير مُسَاجلٌ * خَفَــقَ الــرَّبيعُ بذلـك الخفقانِ/ طِرْ في الظلام بمهجةٍ لو صافحت* حَجَرَ الوهادِ لهمّ بالطيران...".

يذكرك هذا التجاوب بين الذات الشاعرة برؤية العقاد للشعر أو برؤية مدرسة الديوان بشكل عام، ولعلك تتذكر هذا البيت الشهير الذي تصدر ديوان عبد الرحمن شكري:
ألا يا طائر الفِرْدو ** سِ إنّ الشِّعْرَ وجدان

لا يمكنك هنا أن تتحدث عن مناسبة خارجية عارية، وإنما أنت إزاء ذات تتوحد بالطائر في فعل استبطاني عميق، لا يعود إلى الطائر بقدر ما يعود إلى ذات الشاعر، فنتعرف فيه على خلجات نفسه وما تنطوي عليه من الآمال والأحلام والآلام أيضاً؛ فالشِّعر-فيما يرى الديوانيون- معاناة داخلية، يلتقي فيها العالم الخارجي بما يجري في النفس من أفكار ومشاعر.

قد يكون ضروريًّا هنا أن نتذكر هذه الدعوى النظرية التي أطلقها العقاد حول قدرة الشعر على تناول الموضوعات العادية واليوميّة؛ فالشِّعر يمكنه أن يكون في كل شيء وفي كل مكان، ولا يشترط له أن يتناول الجليل من الموضوعات كالبحار والرياض والجبال.. وإنما الشعر–فيما يقول- مرتبط بقدرتنا على الإحساس الخاص بالأشياء، وهذا الإحساس "هو الذي يخلق فيه اللذة ويبث فيه الروح، ويجعله ببساطة معنى شعريًّا"8.

وكالعهد به، فقد أردف العقاد هذه الدعوى بالتطبيق في ديوانه "عابر سبيل". وعلى هذا يرى "عابر السبيل" الشعر في كل مكان: "في البيت الذي يسكنه، وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تُحْسَب من أدوات المعيشة اليومية ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل؛ لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية"9.

ولا يمكن الادعاء بأن العقاد هو أول من كتب الشعر في مثل هذه الموضوعات؛ فنحن نجد أصداء هذه الدعوى في بعض ما كان يكتبه الشعراء في العصور المختلفة للشعر، كما في بعض مقطوعات شعراء أمثال: البهاء زهير في العصر الأيوبي، و"أبي الحسين الجزار" في العصر المملوكي، وقبلهما عند الشاعر العباسي عند "ابن الرُّوميّ"، وهذا الأخير قد أغرم به العقاد والمازني كثيرًا، ولعلّ هذا ما جعل "محمد مندور" يعزو دعوى العقاد إلى تأثره بـ"ابن الرُّوميّ"، حيث يقول: "فوصف الأشياء العادية التي تبدو تافهة لم يبتكرها الأستاذ العقاد في الشعر العربي، وأكبر الظن أن "ابن الرومي" هو الذي وجهه هذه الوجهة، وبخاصة إذا ذكرنا أن ابن الرومي كان من الشعراء المفضلين الذين تناولهم العقاد كما تناولهم زميله المازني بالدراسة والنقد"10.
 وقد لا نختلف حول وجود الظاهرة، ولكننا –مع العقاد- لسنا إزاء ظاهرة فحسب، وإنما إزاء دعوى نظرية مشفوعة بالتطبيق، وشتّان بين وجود الظاهرة متناثرة لدى هذا الشاعر أو ذاك، وبين النظر فيها والتأسيس لها طبقًا لفهم جديد للشعر: ماهيته ووظيفته.. واللافت أننا نجد أصداء هذه الدعوى في شعر العقاد قبل ديوان عابر سبيل؛ مما يعني أننا إزاء فكرة ظلت تلح على عقله حتى وجدت تجليها في هذا الديوان.

ولا أريد هنا أن أدخل في سجال حول شعرية "عابر سبيل"، بقدر ما أحاول الإشارة إلى أهمية ما جاء به من تصور فتح أمام الشعرية العربية باباً وسيعاً، بعد أن ضاقت بها الأغراض المتداولة من غزل ووصف، ومديح، وفخر وهجاء..!

ويمكننا أن نأخذ قصيدة "سلع الدكاكين في يوم البطالة" مثالاً على ما نقول:
"مُقفرات/ مُغلقات مُحكمات/ كلَ أبواب الدكاكين على كل الجهات/ تركوها /أهملوها/ يوم عيد عيدوه/ ومضوا في الخلوات/ "البدار!"/"ما لنا اليوم قرار!"/ أي صوت ذاك يدعو النا/س من خلف الجدار/ أدركوها/ أطلقوها/ ذاك صوت السلع المحبو/س في الظلمة ثار/ في الرفوف/ تحت أطباق السقوف/ المدى طال بنا/ بين قعود ووقوف/ أطلقونا/ أرسلونا/ بين أشتات من الشارين/ نسعى ونطوف / سوف نبلى/ يوم أن نبذل بذلا / أي نعم.. لم نسْه عن ذاك ولم نجهله جهلا/ غير إنا قد وددنا/ أن نرى العيش وإن لم يك ورد العيش سهلا / كالجنين.. وهو في الغيب سجين / أن تحذره أذى الدنيا وآفات السنين..."11.

قد لا يمكننا إقناع الذين يبحثون عن المتعة البيانية بمثل هذا الشعر، بل لعلّ العقاد نفسه، فيما يرى "محمد مندور"، قد شعر بشيء من الغموض يلفّ مثل هذه القصيدة فعمد إلى بسط الفكرة نثرًا، ويبرز منطق الجمع بين السلع التي تشكو الحبس وتفضل عليه الخروج إلى الناس، رغم ما فيه من مخاطر، وإيثار الجنين الخروج من بطن أمه –رغم ما يتمتع به من أمان– إلى العالم الوسيع على ما فيه من مخاطر.
 ورغم ذلك، فلا يمكننا إلا أن نعجب بمنطق الربط بين هذين الطرفين المتباعدين، وما يرتكز عليه من إيمان قوي بفكرة الحرية، وما يترتب عليها من مسؤوليات ومخاطر، وتفضيلها على فكرة الضرورة التي قد تخلو من هذه المخاطر.

ولعلك لو تأملت قليلًا لوجدت أن النماذج التي اخترناها في هذه المقالة، تتصل بشكل قويّ بما كان يدعو إليه العقاد أحمد شوقي في كتاب الديوان 1922م؛ فقد آمن إلى أقصى حد بذاتية الشاعر وقدرته على رؤية الجوهر دون الأعراض، ولنتذكر هذه العبارات الشهيرة التي تحدث بها العقاد الشاب إلى الأمير الرّاسخ، وذلك حيث يقول: "فاعلم، أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يُعَدِّدها ويُحْصي أشْكَالَها وألوانها. وأنْ ليستْ مَزيَّة الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مَزيَّته أن يقول لك ما هو، ويكشف لك عن لُبَابه وصِلَةِ الحياة به..."12.

لم يقدّم لنا العقاد صوراً حسية متشابهة؛ وإنما قدّم علاقات خفية غير منظورة، وربط بين عالمين بعيدين، وحاول استكناه الظواهر المحيطة بها والتحدث بلسانها، بما يكشف عن طاقتها وفرادتها وصلتها بالحياة على نحو ما كان يدعو إليه شوقي.

لقد كانت دعوته إلى توسيع مفهوم الشعر أصيلة وحقيقية تعبر عن تصور إنساني رحب لمفهوم الشعر، بحيث بات كل شيء موضوعاً للقصيدة، وكان على الشعر العربي أن ينتظر حتى يأتي شعراء التفعيلة ليجسدوا بدرجات مختلفة هذه الفكرة في قصائدهم، ثم كان عليه أن ينتظر أكثر حتى تغدو مقولة التداولي واليومي والعادي، من مقولات قصيدة النثر المهيمنة.
 

خِتاماً؛ يحتاج شعر العقاد بالتأكيد إلى مزيد من التناول المعمق، وحسبي هنا أنني حاولت أن أُقدّم لك وجه العقاد الشاعر، بعيدًا عن التصورات النمطية التي حرمتنا لسنوات طويلة من نعيم هذا الشعر، ولا أقول لك هنا: إننا إزاء الشاعر الفرد، ولكني أقول: إننا في رحاب شاعر كبير، ترك بصمته على النقد والشعر معاً.
 


الهوامش والإحالات: 
1. صدرت الطبعة الأولى لكتاب الديوان في فبراير 1922م. ┆ 2. انظر مقالتنا على موقع مصر 360، بعنوان مائة عام على كتاب الديوان.┆ 3. صلاح عبد الصبور: ماذا يبقى منهم للتاريخ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968م ص: 30.┆ 4. يرى أحمد عبد المعطي حجازي أن شعر العقاد يمثل قمة التجديد، ويمكن أن يحمل وحده عبء نصف التجديد الذي تم في الثلث الأول من القرن العشرين، انظر مقالته: أسئلة الشعر، جريدة الأهرام المصرية 7- 12- 1988. وفي المقابل يرى محمد مندور أن كثيراً من قصائد العقاد، وكان ذلك في معرض كلامه عن ديوان "عابر سبيل" يقول: "وكل هذا شعر نظن أنه من الأجدى على الناس ألا يعنوا أنفسهم في فهمه، مكتفين بقراءة ما اضطر الشاعر نفسه أن يقدمه بين يديه من نثر". انظر كتابه: الشعر المصري بعد شوقي، مكتبة نهضة مصر، القاهرة (ب- ت) ص: 77.┆ 5. أحمد درويش: في النقد التطبيقي محاورات مع نصوص شعرية ونثرية، المجلس الأعلى للثقافة بمصر 2010م، ص: 126.┆ 6. الصِدار: ثوبٌ سميك بلا كُمَّين وياقة يُغطَّى به الصَّدر، يمتدّ من الخِصْر وحتَّى الكَتِف، ويُرتدى خاصَّة فوق القميص.┆ 7. العقاد: هدية الكروان، مؤسسة هنداوي، القاهرة 2013م، ص: 8.┆ 8. العقاد: عابر سبيل نهضة مصر 2005م، ص: 4.┆ 9. السابق، ص: 5.┆ 10. محمد مندور: الشعر المصري بعد شوقي، ص: 73.┆ 11. عابر سبيل، ص: 36 -37.┆ 12. عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني: الديوان في الأدب والنقد، ط(4) دار الشعب، القاهرة 1996م، ص: 20.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها

قباري البدري

مقال رائع يلقي أضواء جديدة على إبداع علم من أعلام الكتابة العربية . و الجميل ، إشارته بالربط بين الملمح الأخير في اليومي والتداولي مع قصيدة النثر . مما يدل على سعة أفق و صدر الباحث ، و خصوية الإنشاء لدى هذه الكوكبة من شعراء و كتاب الحقبة ( النصف الأول من القرن العشرين ) .. كم نحن محظوظون بهم !

5/19/2022 10:51:00 PM

1